أعلنت منذ فترة تخوفاتى من تحول الثورة إلى قبيلة. أن تصبح الثورة صلة «قرابة» يبحث فيها المؤمن بالتغيير عن أشباهه. يتفاعل معهم. ويوثق علاقته بهم. ويعمل ماكينة طرد عنيفة لكل من يخرج عن «الميثاق الافتراضى للثورة». هذا الميثاق موجود فى الدماغ، لا على ورق. أى أنه لم تتم مناقشته، وبالتالى فهو جهاز كاشف للمثالية/ أو النقاء/ الضرورى ولكنه غير كاف لكى تنفتح «الثورة..» على الواقع. سيثير كلامى عن «الثورة...» العجب عند البعض/ أو الاستنكار عند البعض/ هل ما زال أحد يتحدث عن الثورة فى لحظة تبدو فيها «الثورة المضادة» منتصرة/ أو فى ظل تحويلها إلى مظلومية إخوانية كبيرة؟ هل ما زال هناك ما يمكن التعامل معه بمنطق «الثورة» فى ظل شعور بالهزيمة والإحباط ورواج حفلات «اللطم والبكاء»؟ لست مع أن «اليأس خيانة..» ولا مع أن «الثورة مستمرة» بوجودها الشعاراتى... لكن الثورة كما أراها هى التى فرضت الواقع الجديد الذى عشناه/ واقعا ينقسم الناس والمصالح والقوى الاجتماعية حوله/ وفى هذا الانقسام معنى من معانى الحراك الذى بدأ يوم 25 يناير ولم ينته بعد.../ على هذه الأرضية نحب ونعادى ونتحالف ونصدم/نصنع أساطير ونحطمها/ نواجه أفكارنا وأوهامنا ونفرق بينها وبين الأحلام/ نختبر النقاء/ ونحتمى بالمثالية المفرطة/ وندرك أنها فى نفس الوقت يمكنها أن تمنع الاتصال والتواصل/ وتصل بنا إلى ما نخاف منه وهو تحول الثورة إلى قبيلة والثوار إلى «جماعة» تصنع مظلوميتها وتتجمع فى بكائيات جماعية. هناك فرق بين اليأس من الطرق والدروب التى نسلكها أو جربنا السير فيها/ وبين اليأس من التغيير/ والثورة نقلت التغيير من حدود الإصلاح «وانتظار الصراع بين جمال مبارك ومجموعته الجديدة والمجموعة القديمة للأب..» إلى حدود هدم نظام وبناء نقيضه «والحلم ببناء نظام ديمقراطى على أنقاض نظام السلطوية الأبوية». وهذا الانتقال كان مفاجئا لمن قاموا به/ وهذا ما جعل الثورة تواجه الديناصور الرابض فى كهوف النظام بتكوين هش/ وبنية ضعيفة/ وجسد كبير لم ينضج بعد. وكما أشرت فى مرات سابقة.... البعض كان يتصور أن الثورة حدث/ سينتهى كما تنتهى الأفلام العربى/ وكان صعبا أننا بالثورة بدأنا لا انتهينا... وأن التغيير عملية ديناميكية/ تتفاعل فيها الانتصارات والهزائم/ وتواجهنا بما نخفيه أو نضعه فى خلفيات المشهد/ تحت إلحاح مواجهة النظام المستبد. سقوط مبارك لم يغير تركيبة السلطة/ وضربات الثورة تركزت عند إسقاط الطبقة السياسية/ واستمر الجهاز البيروقراطى فى وضعه يعرف مصالحه ويكيف شبكاته ليعبر الضربات ويدخل فى الوضع الراهن. وكما يليق بالثورات كشفت الضربات عن أمراض مزمنة أهمها «ضعف السياسة» ليس فى صفوف الحالمين والمثاليين فقط/ ولكن فى الدولة وأجهزتها السلطوية. تفاقم المرض بانهيار الطبقة السياسية الحاكمة بعد 25 يناير/ ثم فشل الإخوان فى التحول إلى طبقة سياسية بديلة/ ولم يبق من تراث الحكم فى الستين سنة التالية ليوليو 1952 إلا الثقة فى الضباط/ لأن الحاكم القادم من أصل عسكرى لم يكن يثق فى الطبقة السياسية/ وكان يضربها أو يراقبها أو يحاصرها بمن يثق بهم من ضباط/وبمعنى ما يصنع طبقة سياسية-عسكرية/ تضمن له ولاء الجيش وعدم الانقلاب عليه/ كما تضبط إيقاع الحكم لرئيس لم يكن يعتمد على شرعية الصندوق إلا كعنصر ديكور. وفى الجولة التى بدأت بعد 30 يونيو عادت الدولة إلى قدرها القديم/ وبشرعية الغالب «فالسيسى منقذ وبطل تتعلق به الجماهير الخائفة»/ ولكن دون طبقة سياسية/ وفى مواجهة آمال من أجيال شابة بتغيير بنية الدولة. أى أن الدولة القديمة ليس لديها طبقة سياسية/ والقوى المتمسكة بالتغيير «الديمقراطية/ الثورية» ليس لديها بديل سياسى/ والفلول ليس لديهم سوى إقامة الموالد للمستبد/ أما الإخوان فيحجزون بمظلوميتهم موقع الجناح المنهك لكل احتمال بعبور هذه الأزمة. هنا ليس هناك طرف قادر على الحسم/ بعدما كان قبل 25 يناير الحسم كل الحسم فى الجالس على المقعد الكبير/ وتوجيهاته أو ما يوحى به. وهذه الأزمة مستمرة تاركة الفراغ الكبير دون بديل جديد/ يناسب لحظة التغيير التى بدأت حراكها يوم 25 يناير ولم/ وربما لن يتوقف فى لحظة منظورة. أما البدائل القديمة/ ومن بينها أن يظل الجيش فى موقع التصدر للحكم المباشر/فمشكوك فيها/ ويكفيهم استعادة المكان الأسطورى/ وضمان عدم الاقتراب من مصالح المؤسسة العسكرية. الأزمة هنا ليست فقط فى العودة إلى القدر «التركيبة القديمة للحكم» ولأنها لا تحمل حلا أو ليس أمامها سوى وضع البلد على أجهزة الحياة الصناعية «أموال الخليج/الحفاظ على درجة الخوف من الإرهاب/ التغطية بركام من نفايات الإعلام التى يتم تدويرها من كل عصور الانحطاط السابقة». الأزمة أكبر فى تحول الثورة إلى قبيلة مغلقة على نفسها/ تركز فى مهماتها على منح صكوك النقاء الثورى/ دون أن تسعى إلى اتساع خطابها أو تعديه حدود القبيلة إلى قوى وشرائح أوسع/ ويصبح لديها قدرات على استيعاب ضرورات الطريق إلى وضع بنية تحتية للديمقراطية. كيف يمكن إدراك أن الهدف الآن ليس الفرز على أساس مواصفات الميثاق الافتراضى/ولكن الفعل السياسى الذى يحافظ على المجال السياسى مفتوحا/ ويقبل بالتعدد/ أى يقبل بتعدد الطرق لا بالطرق التى ينطبق عليها مواصفات النقاء الثورى...؟ سؤال سيحدد المرحلة القادمة.. فإما أن توسع الثورة مجالها.. وإما تنغلق وتتحول إلى قبيلة منبوذة فى مجتمع يتحول إلى قبائل/ أو طوائف مهنية كل طائفة تحافظ على مصالحها ونفوذها/ بمنطق أنه لا وجود للدولة/ وإنما لقبيلة/ طائفة ضباط الشرطة يدافعون عن نفوذهم، وينعون قتلاهم كأنهم ليسوا فى مهمة من مهام الدولة/ وكذلك ضباط الجيش والقضاء.../ قبائل تسعى إلى توسيع أو ترسيخ موقعها وتحالف أو تتصارع مع القبائل المنافسة على تقسيم الكعكة بعد أن تتخلص من قبيلة الإخوان ومن بعدها قبيلة الثورة... وهذا وضع كابوسى.