لعل أكثر ما يثير دهشتى فى شخصية نجيب محفوظ، هو عمله كموظف طوال كل هذه السنوات الطويلة جدا، منذ منتصف سنة 1934م حتى نهاية سنة 1971م. فكيف استطاع هذا المبدع العظيم أن يتحمل جو الوظيفة ومتطلباتها؟! والقضية هنا ليست فقط قضية ضياع وقت هذا العبقرى، فى أمور قليلة القيمة، ويمكن أن يقوم بها أى شخص آخر، ولا فى تبديده ساعات تلو الساعات فى روتين حكومى ممل، يقضى على منابع الطاقة والإبداع داخل الإنسان، ولكن ثمة جانبا آخر مهما فى هذه الوظيفة الحكومية المكبلة لحرية الفنان المبدع، فنجيب محفوظ لم يكن مجرد فنان مبدع يرغب -مثل أى مبدع آخر- فى أن يتمتع بحياته الشخصية فى حرية وانطلاق، دون أعباء الوظيفة والتزاماتها، فنجيب محفوظ ليس روائيا مبدعا فحسب، ولكنه مفكر وفيلسوف أيضا، وهذا يعنى أن عقله الفلسفى المنظم، سيعانى كثيرا جدا من روتين العمل المحدود، وعقليات الرؤساء، وأوامر المديرين والوزراء، فكم احتمل هذا الفيلسوف ذو العقل الموسوعى الكبير من تفاهات عالم الوظيفة، وسخافات روتين العمل الحكومى؟! ومن العجيب أن هذا السؤال ذاته، والذى يثير استغرابى، لم يكن يثير عنده شخصيا أى قدر من الدهشة أو التعجب! فأنا أنظر إليه باعتباره المبدع العظيم نجيب محفوظ، والذى يجب أن يعيش حياة جديرة به، حياة من أجل الإبداع الأدبى والكتابة الفنية والتأمل الفلسفى، فيتصرف فى وقته كيفما شاء، يقرأ ما يشاء، ويكتب ما يريد، ويتجول هنا وهناك كما يحلو له، ويسافر حول العالم، ويدرس أحوال الدنيا، ويلتقى الأصدقاء والناس فى أى وقت شاء. بينما هو ينظر إلى نفسه، نظرة مختلفة تماما، باعتباره إنسانا عاديا يجب أن يعمل فى وظيفة ما، من أجل أن يوفر لنفسه ولأسرته أسباب الحياة الكريمة، ثم هو يكتب ويقرأ فى ساعات الفراغ من الوظيفة، التى ظل طوال حياته، وحتى وصل إلى سن المعاش، يرى أنها ضرورة من ضرورات الحياة ذاتها! وثمة حكاية معبرة جدا، سمعتها من الأستاذ نفسه، وقد حدثت هذه الواقعة فى منتصف الثمانينيات، أى قبل حصوله على نوبل بنحو ثلاث سنوات، حين كان الأستاذ فى الإسكندرية فى الصيف وهو يتمشى على الكورنيش، صادف زميلا له، من زملاء الوظيفة الحكومية، وهذا الزميل كان أكبر من الأستاذ سنا، وقد تحدث مع نجيب محفوظ عن مواد القانون الجديد للموظفين! فالرجل -بعد خروجه على المعاش بسنوات طويلة- ما زال يهتم بشؤون الموظفين وأحوالهم، وبعد هذا الحديث سأل الرجل الأستاذ سؤالا: «لقد شاهدتك يا نجيب فى التليفزيون من عدة أيام، فلماذا ظهرت فى التليفزيون؟» فهذا الزميل القديم لا يعرف شيئا عن علاقة نجيب محفوظ بعالم الأدب، ويسأله: لماذا يظهر فى التليفزيون؟ وقد سألت الأستاذ: بماذا أجبته؟ فقال: قلت له إن بعض برامج التليفزيون تستضيف أحيانا أناسا من الجمهور لسماع رأيهم!