منذ سنوات مضت يحتل اسم مدينة الفلوجة العراقية الواقعة على بعد نحو 58 كم إلى الغرب من بغداد مكاناً بارزاً في نشرات الأخبار وعناوين الصحف .. هذه المدينة التى لم تعرف الهدوء طوال مئات السنين والتي تقع في الجزء الشرقي من محافظة الأنبار لها تاريخ طويل في الصراعات واختصت منذ القدم بكونها مسرحاً للحروب والصراعات .استولي عليها كورش الكبير امبراطور إيران خلال القرن السادس قبل الميلاد في طريقه إلى البحر الأبيض المتوسط وأطلق عليها مسمى «هوكست ديزه» (أي «الحصن البعيد»)، ثم تعرضت هذه المدينة لهجمات الرومان حتى استولوا عليها وبدورهم غيروا الاسم إلي مسيتش (أي «المدينة الوسطى») لكونها كانت تتوسط بساتين النخيل، في يحيط بها نهر الفرات من أغلب الجهات، مما يجعلها تبدو وكأنها شبه الجزيرة. ويذكر التاريخ هذه المدينة في واقعة حدثت خلال فتوحات القائد الروماني الشهير أنطونيوس الذي هام عشقاً بملكة مصر كليوباترا، حيث استولى لصوص الصحراء على أمتعة قواته الرومانية المدججة بالسلاح عند وصولها إلى الفلوجة، مما أجبره على التقهقر على عجل بعيدا عن البلدة. وعادت السيطرة للفرس عام 224م علي هذه البلدة المحورية التى كان قدرها الجغرافي ان تكون نقطة الصدام الاولي بين الفرس والرومان .. حيث تحقق للملك سابور الأول الساساني نصراً مؤزراً علي الرومان وإمبراطورهم غورديانوس الثالث الذي ذبح علي يد سابور . وقام الملك المنتصر سابور الأول بتغيير اسم الفلوجة تخليداً لانتصاره إلى بيروز - شابور (أو سابور المنتصر). وهكذا، على امتداد ستة قرون، ظلت بيروز - شابور (أو سابور المنتصر) «الجائزة» التي كان لا بد من الظفر بها خلال الحروب الفارسية – الرومانية ليستطيع المنتصر اعلان انتصاره . وبالفعل تمكن الإمبراطور يوليانوس إعادة السيطرة الرومانية على البلدة، غير أنه قتل في معركة أخرى ضد الفرس سمحت لهم باستعادة وجودهم في جميع بلاد الشام. وفي ما بعد شيد الملك الساساني بهرام الخامس قصرا على مقربة من الفلوجة . لكن سرعان ما سقطت الفلوجة مرة أخرى في يد الرومان .. ثم استعادها الفرس من يد الرومان علي يد كسرى أبرويز ، وهو الذي كان معاصراً تاريخياً للبعثة المحمدية .. ولكن لم يطل بالفرس المقام حيث عادت جيوش هرقل تدحرهم في ملحمة حكت عنها ايات الذكر الحكيم في مستهل سورة الروم . هدأت الأمور في الفلوجة منذ الفتح العربي الإسلامي لبلاد ما بين النهرين في القرن السابع الميلادي .. واستراحت من النزاع الفارسي الرومانى .. وبمرور الوقت بدأ اسم الفلوجة يظهر وهو يعني الأرض الصالحة أو المصلّحة للزرع. ومن ثم بفضل موقعها كان لا بد من عودة الفلوجة إلى سابق عهدها كبلدة استراتيجية لأنها كانت المكان الرئيس الذي تتوقف عنده القوافل المتجهة من مناطق الصحراء العربية في طريقها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ولأنها كانت غنية بالموارد المائية، غدت أرضها موقعا مثاليا لممارسة النشاط الزراعي. وفي عهد صدام حسين احتلت الفلوجة مكان هاماً لكونها تقع في ما يعرف باسم «المثلث السني» الذي هو عبارة على رقعة من أرض، في غرب العراق وشمال غربه، قدمت الجزء الأكبر من النخبة العسكرية العراقية منذ حكم العثمانيين. وإزاء اقتناعه بأنه لن يكسب مطلقا تأييد الشيعة العراقيين، بذل صدام حسين جهدا دؤوبا لإرضاء «المثلث السني» والإغداق عليه من أجل الحصول على دعمه. وحقا مثلت الفلوجة «الجناح الغربي» من منظومة القواعد العسكرية و«الحاميات المدنية» التي جرى تطويرها في عهد صدام، وكانت مدينة بعقوبة، عاصمة محافظة ديالى وتقع شمال شرقي بغداد، تمثل «الجناح الشرقي» من تلك المنظومة. كان صدام حسين دائم التوجس من احتمال حدوث انقلاب عسكري ضده داخل بغداد، لذلك كان يحتفظ بقوات من الحرس الجمهوري شديد الولاء له في كل من الفلوجة وبعقوبة، الجناحين الغربي والشرقي الاستراتيجيين، لمواجهة أي انقلاب يندلع في العاصمة. كذلك أحب ابنا صدام، عدي وقصي هذه المدينة التى تتفرد بجمال طبيعي وموقع ساحر لقربها من كل من نهر الفرات والصحراء وبحيرة الحبانية إلى غربها. وتفننا مع والدهما في تشييد القصور الغناء فيها وفي محيطها، بما في ذلك بحيرة اصطناعية تتوسطها جزيرة اصطناعية، وبنوا ناديا للقوارب كانت تنظم فيه سباقات للقوارب وممارسة الرياضات المائية. ولقد سقطت القصور التي كانت يمتلكها الرئيس الأسبق وعائلته في أيدي الجيش الأميركي، وتحول القصر الذي كان يمتلكه قصي إلى مقر لوحدة العمليات النفسية 361 الأميركية، التي كانت مهمتها كسب تأييد أهل تلك المدينة المهمة. وتحولت الفلوجة في حكم صدام وحزب البعث الي مدينة عسكرية بامتياز ، وصارت موطنا لعدد كبير من عائلات العسكريين .. وتشير بعض التقديرات إلي أن أفراد الجيش العراقي يمثلون ما لا يقل عن ربع سكان المدينة البالغ عددهم نحو 400 ألف نسمة، بما في ذلك قوات الحرس الجمهوري والقوات شبه العسكرية التي أسسها صدام حسين وأبناؤه. كما اتخذ العدد الأكبر من عائلات الحرس الوطني، الذي شكله أعضاء حزب البعث في ستينات القرن الماضي، من الفلوجة موطنا لهم. وفي حرب غزو العراق الحبيب عام 2003 أطلقت إحدى القاذفات البريطانية أربعة صواريخ موجهة بالليزر على جسر فوق نهر الفرات جنوبالمدينة، ومع أن ثلاثة من الصواريخ أخطأت أهدافها وسقطت في النهر، فإن الرابع لم يخطئ هدفه وحسب بل ضل طريقه وأصاب سوقا مفتوحة داخل الفلوجة، مما أسفر عن مقتل نحو 150 من المدنيين الأبرياء. ولقد استغل المتشددون وبقايا جيش صدام والحرس الجمهوري في الفلوجة تلك الحادثة لإثارة الكراهية ضد قوات التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة. وهكذا غدت الفلوجة مسرحا للمظاهرات شبه اليومية، واكتسبت شهرة واسعة كمركز المعارضة الرئيس لقوات التحالف. وتواصلت خطايا قوات التحالف باستيلاء القوات الأميركية على الوحدات السكنية، التي كانت قد بنيت للحرس الجمهوري وأسرهم، وحولتها إلى مساكن لإيواء عسكرييها. وكان جرى إخلاء تلك المنازل قبل بداية الحرب، عندما أرسل الحرس الجمهوري أفراد أسرهم إلى أماكن بعيدة أكثر أمنا بعيدا عن بغداد. ولكن هذه الأسر اكتشفت عندما عادت إلى المدينة بعد سقوط صدام حسين في أبريل أن منازلها يحتلها الأميركيون !. وصدقاً فإن الأخطاء في السياسة لا تأتي فرادى، إذ تفاقم الوضع أكثر عندما قرر السفير الأميركي بول بريمر، رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة، تفكيك الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري. وأدت هذا الخطوة إلى أن وجد آلاف العراقيين المدربين عسكرياً أنفسهم فجأة مشردين من دون مأوى أو عمل، فضلا عن أنهم صاروا موضوعا للسخرية من قبل المواطنين في بلادهم الذين أخذوا يصفونهم ب«الجبناء» الذين ولوا هاربين وقت الضربة العسكرية الأميركية. وهكذا، قرر هؤلاء أن حمل السلاح ضد القوات الغازية بات السبيل الوحيد الذي سيوفر لهم عملاً يعتمدون عليه في إعالة عائلاتهم، فضلا عن أنه يمثل مبررا منطقيا لصمودهم واستعادة كرامتهم، وبالفعل، مثل كل ذلك وصفة مثالية لرفع السلاح في مواجهة الأمريكان وحلفائهم . ناهيك أن الموقع الجغرافي للفلوجة مثل مكانا مثاليا لأعضاء مجموعات حروب العصابات لاختباء. فالمدينة تغطي مساحة صغيرة نسبيا لا تتعدى 3×3.5 كيلومتر مربع، تحيط بها بساتين نخيل كثيفة، مما يمكّن أي شخص أن يظل متواريا عن الأنظار كما يريد. ثم إن المدينة بنيت على ضفتي نهر الفرات، مما يوفر فرصا كبيرة لإمكانية الدخول والخروج منها عن طريق النهر. أضف إلى ذلك أن المزارع الكثيفة التي تحيط بالفلوجة في شكل حلقة عظيمة، تعمل كحائط صد دفاعي آخر، بالإضافة إلى كونها ممرا مثاليا للهروب خارج بساتين النخيل. وأخيرا وليس آخرا هناك الطبيعة الطينية لأرض المدينة التي تجعل من الصعب على المعدات العسكرية الدخول إليها. من جهة ثانية، نظرا لضيق مساحة الفلوجة فإنها تتصدر بجدارة مدن العراق من حيث الكثافة السكانية، وهي تحتوي على متاهات من الأزقة والشوارع الضيقة التي تعج بأعداد هائلة من الناس الذين يعيشون في مساكن صغيرة نسبيا، وهو ما يشكل مأساة لتحركات المدرعات العسكرية فيها.. اليوم تقدّر بعض المصادر أن الفلوجة التى كانت يوماً ساحرة لم يبق بها أكثر من ربع سكانها، في ظل تعاقب العمليات العسكرية والمناشدات المتوالية لسكانها بمغادرتها صيانة لأنفسهم من الخطر الداهم .. ولكن تبقي مجموعات ترفض مغادرة المدينة علي رأسهم مجموعات من بقايا جيش صدام حسين . بينما تتكون المجموعة الثانية من المسلحين الأصوليين المحليين المدعومين من قبل بعض العناصر القبلية والعشائرية، الذين يرون - على الرغم من سعادتهم بسقوط نظام صدام حسين – إلا أنهم علي قناعة أن المالكي يريد احتكار السلطة من أجل الشيعة، ومن ثم يحرم السنة العراقيين من حقوقهم المشروعة في السلطة والرخاء. أما المجموعة الثالثة فتتألف من المتشددين المرتبطين بتنظيم «القاعدة»، وهم في الغالب جهاديون أجانب أتوا من مختلف الدول العربية. ويتميز هؤلاء بجملة من المهارات التي يفتقر إليها الثوار المحليون، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية وتقطيع الرؤوس. غير أنه ينبغي الإشارة مرة أخرى إلى أن الود المتبادل ليس كبيرا إطلاقا بين الجهاديين الأجانب والمتمردين المحليين في الفلوجة، غير أن الفريقين يشعران، مؤقتا، بأن كليهما بحاجة إلى الآخر .. ولو إلي حين