· يتلقي «يحيي» رسائله من البحر في غضبه وصفائه، ويتلقاها أيضاً من «نورا» التي منحته دفء الجسد وحب الروح، فهي نفس الفتاة التي تعزف الموسيقي الشجية من تلك الفيلا التي يقف خلف أسوارها ولا يعرف من العازف! لا تملك بعد مشاهدة فيلم «رسائل البحر» إلا أن تشعر بحالة من السعادة والارتياح، ما كل هذا الجمال الذي تنطق به الصورة؟!.. وبعد الاستمتاع تأتي مرحلة التأمل: ما هي رسائل هذا الفيلم، أو هذا البحر؟!. شتاء الإسكندرية، نوات البحر والأمطار التي تغرق المدينة، والتي عندما تشتد تشعر بالخوف والوحدة وعدم الأمان، ولكنها سرعان ما تصفو، وتصبح شيئا أقرب إلي السحر، ويأتي الهواء بالنسمات المنعشة ما أن تهدأ غضبة البحر، وتكسو حالة من الصفاء الناس والمدينة.. وهذه الأجواء يتأملها الفيلم وتكون شخصياته مثلها وفي نفس الوقت تملك هذه القدرة المدهشة علي الصفاء.. فما هي الرسائل التي يبعثها البحر في نواته الغاضبة؟!.. وكيف يكتشف إنسان هذه المدينة لغة وكلمات ومعاني هذه الرسائل التي تبدو غير مفهومة لأول وهلة، مثل تلك الرسالة التي قذفت بها الأمواج في زجاجة إلي بطل الفيلم، وظل يلف ويدور بين الجنسيات المختلفة بحثاً عن من يعرف اللغة التي كتبت بها.. ليكتشف البطل في النهاية أن كل إنسان هو الوحيد القادر علي قراءة وفهم الرسالة التي توجه إليه، فالرسالة هي محصلة حياته هو شخصياً في هذا العالم. بطل «رسائل البحر» اسمه يحيي «آسر ياسين» طبيب شاب من أسرة ثرية وعريقة، ولم يبق من أسرته سوي شقيقه الذي هاجر إلي أمريكا، فالزمن ذهب بالأسرة العريقة، كما ذهب بما تملكه من ثروات، وبقي «يحيي» الذي لا يستطيع التواصل مع الآخرين أو المجتمع، فهو يتلعثم في النطق أو «يتهته» ويخشي سخرية الآخرين، ويمنعه هذا من ممارسة المهنة التي تفوق فيها دراسياً، ويترك القاهرة إلي الإسكندرية، ويعتمد علي الصيد من البحر في الحصول علي رزقه.. وفي الإسكندرية يعود إلي شقة الأسرة التي قضي فيها بعضاً من عمره.. يعود إلي الجارة الإيطالية فرانسيسكا «نبيهة لطفي»، والفتاة التي أحبها مراهقاً، كارلا «سامية أسعد» ولكن حب المراهقة لايستمر إذا لم تغذيه العاطفة وتجعله متوهجا ويتعرف علي نورا «بسمة» وتقضي معه هذه الليلة الممطرة، ويظن أنها عاهرة، ولكنها تغنيه بالعاطفة ودفء الحب عن الوحدة والغربة، ويرتاح لها فيكاد يتخلص من تلعثمه أحياناً، كما يتعرف علي قابيل «محمد لطفي» الذي جعلته قوته قاتلاً، وهو يعمل بودي جارد ولكنه أقسم ألا يستخدم قوته ويديه مرة أخري، وهو يعاني من ورم في المخ، ولا يريد اجراء جراحة حتي لا يفقد ذاكرته، ويفضل الموت. يتلقي «يحيي» رسائله من البحر في غضبه وصفائه، ويتلقاها أيضاً من «نورا» التي منحته دفء الجسد وحب الروح، فهي نفس الفتاة التي تعزف الموسيقي الشجية من تلك الفيلا التي يقف خلف أسوارها ولا يعرف من العازف!.. وعلاقات شخصيات الفيلم مليئة بالتفاصيل والرموز حتي تكاد تصل بنا للأسطورة - إذا أردنا - أو تظل قصة بسيطة لعلاقات بين مجموعة من الناس، وهذه هي سمة الأفلام الكبيرة والعميقة أيضاً. يجد يحيي إذن ضالته ويخرج من تلعثمه عندما يختبر الحياة أو تختبره الحياة، فمن البحر تعلم، ومن جيرانه عرف التسامح «فرانسيسكا وكارلا»، ومن نورا عرف الحب، ومن قابيل عرف أن الإنسان بدون ذاكرة أو عقل يصبح قاتلاً، وكل هذه الرسائل تجعله أكثر قدرة علي كتابة رسالته هو مع الحياة.. والرسائل لا تتوقف عند «يحيي» فهي تمتد للأسرة الايطالية التي تكتشف بعد سنوات طويلة أن الإسكندرية لم تعد المدينة التي تحتضن كل الجنسيات بكل الحب وتجعلهم من مواطنيها، فيقرران العودة.. و«نورا» تكتشف أنها عندما قبلت أن تكون زوجة ثانية لمدة يوم واحد في الأسبوع مقابل أن تعيش حياة ميسرة قد أصبحت أشبه بمن باعت نفسها لصاحب المال، وكأنها عاهرة.. و«قابيل» رفض أن يجري العملية وفضل الموت حتي لا يعيش بلا ذاكرة ويعود للقتل بسبب قوته التي لا يحركها العقل.. ونترك الناس ونتجه إلي المدينة، إلي الإسكندرية التي لم تعد كما كانت، كل ما تملك من سحر المباني والمعمار وجمالياته أصبح مهددا - ما بقي منه - بالهدم من أجل اقامة المباني العالية والمولات التي تفتقر إلي الخصوصية والجمال، والتي تكون مثل جدران الأسمنت التي تقام بها عازل للعلاقات والحميمية بين الناس، فهناك العشرات مثل الحاج هاشم «صلاح عبدالله»، الذي يعيد تشكيل المدينة ليصبح للاستثمار الكلمة العليا علي حساب المدينة العريقة والناس.. ويأتي تشبيه داود عبدالسيد لهذه الحالة مثل يحيي الذي يصطاد السمك بالسنارة، بينما يقوم الحاج هاشم باصطياد الأسماك بالديناميت ليكون رصيده وفيراً. وللأسف الفيلم لا يمكن التوقف أمام معالجته المدهشة وفنياته المذهلة من تصوير أحمد مرسي وموسيقي راجح داود وديكور أنسي أبوسيف وصوت جمعة عبداللطيف ومونتاج مني ربيع في هذه العجالة.. فنحن أمام عمل يستحق المشاهدة مرة ومرات، يعود به داود عبدالسيد مؤلفاً ومخرجاً في حالة من الصفاء الابداعي البديع، وياله من فيلم، ويا لهذا الفيلم من رسائل.