من منا لا يعشق البحر؟ البحر أفق غامض رحب ممتد بلا نهاية, وأعماق رهيبة مغلفة بالسحر والأساطير والأخطار, ومياه متلألئة تنادينا مثل النداهة في الليالي القمرية.. فأي رسائل يمكن ان تأتينا من البحر الغامض الساحر العميق؟ بالطبع.. أي إجابة ستكون مخاطرة أو مغامرة.. لأنها بالضرورة إجابة فلسفية وليست فنية.. لكن المخرج المبدع داود عبدالسيد قبل المخاطرة وخاضها وقدم لنا لوحة فنية شديدة العذوبة بلغة سينمائية شاعرية افتقدناها وكدنا ننساها في خضم سينما إيقاعاتها سريعة زاعقة ولغتها فظة غليظة, سقطت إلي تفاصيل القبح المحيط بنا, كما لو أن السينما سكين جزار يدسه في لحم الواقع وليست مشرط جراح ينكأ جراحا إنسانية! ورسائل البحر تجربة فريدة في عالم داود عبدالسيد الزاخر بالعجائب المدهشة, تجربة يحول فيها الفلسفة إلي فن, مثلما فعل المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سبيلبرج في فيلمه كابتن هوك الذي لعب بطولته داستين هوفمان مع روبين وليامز.. وإذا كان سبيلبرج حاول أن يجيب عن السؤال الخالد: ماهي السعادة؟! ف داود اختار السؤال الأصعب: كيف نفهم الحياة؟ سبيلبرج لجأ الي الفانتازيا, بأن أدخل بطل فيلمه إلي عالم الحواديت التي كان يقرأها وهو صغير, فيكتشف أن السعادة كامنة في داخلنا, إذا عشنا الحياة ببساطة, واحتفظنا ببراءة الطفولة والدهشة, دون ان تفسدها العلاقات المعقدة مع المجتمع والناس مهما اشتد الصراع والتنافس! أما داود عبدالسيد فلم يحاول قط الإجابة عن السؤال.. فلا إجابة عليه, فالحياة لاتفهم ولكنها تعاش, فصنع فيلما من المشاعر والأحاسيس والإنسانية ليؤكد لنا هذه الحقيقة المنسية أحيانا. وشخصيات الفيلم خليط من البشر كما في الواقع, لكل منهم حكاية خاصة.. ثم تتداخل الحكايات مكونة سيمفونية يمكن ان نسميها القدر والبشر والإرادة. يحيي شاب يعاني تلعثما في النطق, تخرج في كلية الطب, ولم يستطع ان يمارس مهنته, بسبب سخرية المرضي منه, فحول هواية صيد السمك الي حرفة يعيش منها.. بعد ان مات ابوه وترك القاهرة عائدا الي شقتهم القديمة في الإسكندرية.. وأخوه الوحيد مهاجر الي امريكا ولم يف بوعده بأن يرسل له بعض النقود من آن لآخر. نورا شابة حسناء, تزوجت في السر من رجل اعمال يتردد عليها كلما تهفو نفسه الي نزوة شرعية, مقابل شقة وعربية وعيشة جيدة, وهي لاتحبه وتشعر بأنها امرأة رخيصة لاتختلف كثيرا عن فتيات الليل. فدفنت همومها ووحدتها في الموسيقي بالعزف علي البيانو كل ليلة. قابيل.. صحة وعافية وفتونة, حارس شخصي في ملهي ليلي, له تجربة مريرة مع قوته, حين استفزه مجموعة من الشباب, فضرب احدهم فصرعه, ولم ينس ابدا نظرة الشاب البائسة الملتاعة قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة, وظلت تطارده, فاقسم بألا يستخدم قوته مرة ثانية مهما حدث.. وفي الوقت نفسه هو يعاني ورما في المخ يستلزم عملية جراحية قد تفقده الذاكرة. هاشم.. رجل أعمال محدث نعمة, بقال في الأصل اشتري عمارة الإسكندرية, ويخطط لهدمها وإعادة بنائها برجا قبيحا من ابراج هذه الايام, ويتفاوض مع السكان علي الخروج الآمن بخلو رجل كبير, او الخروج بالإكراه بسلاح البلطجة. كارلا.. فتاة مصرية من اصل إيطالي, متحررة تعيش حياتها علي كيفها, وتفعل ماترغب فيه مهما كان, عندها أتيليه أزياء لعلية القوم الجدد, كانت الحب الاول ليحيي قبل ان يغادر الإسكندرية الي القاهرة.. تفكر في العودة الي بلادها الأصلية مع أمها بعد ان فسد المناخ العام.. فرانشيسكا.. الأم الإيطالية التي ذابت عشقا في الاسكندرية وامتزجت بالروح المصرية, ويدفعها هاشم دفعا الي الهجرة, وتشعر بأن ذكرياتها تهرس الجشع القادم.. وهي تعطف علي يحيي الذي تربي في كنفها صغيرا وتعامل كما لو أنها ام ثانية له في ظروفه الصعبة.. ثم تتناثر بضع شخصيات حسب تقاطعات الحياة مع يحيي, فهو المركز وكل الشخصيات تدور في فلكه او علي هوامشه.. ف يحيي حائر بين كارلا ونورا, حتي يستقر علي ضفاف نورا لكنها توجعه وتؤلمه بوقائع تعتصر قلبه عن كونها فتاة ليل محترفة.. وصديقه الوحيد قابيل المهدد بفقدان ذاكرته.. وفرانشيسكا التي تعوضه بعض قساوة الدنيا في حنان أموي.. هذه التشابكات تكشف دخائل النفوس وهي تصطدم ببعضها بعضا حبا او كرها, قربا او بعدا.. وبينما الاحداث تتتابع يجد يحيي القارورة علي شاطيء البحر وفيها رسالة بلغة غير مفهومة, رمزا عن الحياة التي يصعب ان نفهمها ويحاول يحيي ان يفك طلاسم الرسالة, فلا يفلح, كما لم يفلح في فهم الحياة من حوله, فالبحر يعطيه رزقا في وقت لايحتاجه كثيرا, ويحرمه منه وهو في أشد الحاجة اليه, يتلعثم في الكلام اكثر كلما غضب او أهين, ويحب امرأة يظن انها متاع عام متاح لمن يدفع الثمن ولايستطيع ان يهجرها.. الخ, ونورا نفسها لا تفهم لماذا تتصور نفسها عاهرة لمجرد انها زوجة متاع وتتفنن في ايلام الشخص الوحيد الذي تحبه بصدق, وتحرق قلبه ومشاعرة بنيران تتوقع ان تنضجه وتخلصه من طفولته البريئة! علاقات معقدة تروي علي مهل, حتي يلتقط المشاهد تفاصيلها الصغيرة, وبالفعل إيقاع الفيلم هادئ, لم يتعود عليه جمهور السينما من زمن طويل, فالبشر هم الحكاية وليست الاحداث التي تلف حياتهم, الاحداث مجرد ادوات تحريض لكشف مكنونات البشر: حزنا وفرحا, توترا وراحة, غضبا وتسامحا, فاذا كانت الحياة لغزا, فالإنسان اهم عناصره.. والجزء لايمكنه ان يفهم الكل, فقط عليه ان يعيشه بالطريقة التي تحافظ علي انسانيته وجوهره وتصالحه مع نفسه والحياة, المهم ان تكون انت دون زيف او بهتان او اقنعة.. ونجح داود عبدالسيد في رسالته القادمة من البحر, فكل مشهد فيه تأمل وموقف بحساسية عالية ممتعة.. ويتوقف المشاهد كثيرا عند الاداء الرفيع لممثليه آسر عبدالرحمن, ومحمد لطفي الرائع, وصلاح عبدالله, ونبيهة لطفي, والاكتشاف سامية اسعد, وهذه قدرة مخرج متمكن من أدواته, لكن اداء بسمة يلفت الانظار, هل هي فعلا تملك كل هذه الموهبة؟, فلم اكن اعرفها من قبل او لم اتوقف عندها.. رسائل البحر سينما حرمنا منها واعادها لنا داود عبدالسيد. [email protected]