في ظل احتفالنا بالثورة يحلو للبعض أن يقدم صورة مثالية أحادية الاتجاه وناصعة البياض للزعيم "جمال عبدالناصر" ويتناسون أنه إنسان كان أيضاً يغضب ويثور ويغار.. من الصفحات التي نادراً ما يتم تداولها في الصحافة والإعلام الانتقام الذي تعرض له اللواء "محمد نجيب" أول رئيس للجمهورية المصرية علي يد "عبد الناصر".. لن أتحدث عن التفاصيل السياسية ولكن أروي واقعة ذكرها لي الكاتب الكبير "إحسان عبد القدوس" وكتبتها في حوار طويل أجريته معه علي صفحات مجلة «روزاليوسف» قبل نحو 25 عاماً.. قال لي "إحسان" إنه كتب قصة فيلم "الله معنا" بالاشتراك مع الصحفي الكبير "سامي داود" إخراج "أحمد بدرخان" في أعقاب الثورة مباشرة وكان من المفروض أن يصبح هو أول فيلم سينمائي يستقبل الثورة ولكن الرقابة التي كانت تابعة وقتها لوزارة الداخلية رفضت التصريح بالفيلم بدون إبداء الأسباب.. حاول "إحسان" أن يحمي فيلمه والذي تناول قضية الأسلحة الفاسدة والتي سبق أن فجرها في أكثر من مقال صحفي علي صفحات مجلة "روز اليوسف" وباءت كل محاولاته بالفشل ومر علي هذه الواقعة عامان ولم يجد أمامه سوي اللجوء إلي صديقه "جمال عبد الناصر" والذي كان يداعبه في تلك السنوات باعتبارهما صديقين باسم "جيمي" حتي بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية.. قال له "عبد الناصر" قالوا لي يا "إحسان" إنك مطلع أمي "غسالة" في الفيلم.. كان يقصد أن هناك من أوعز لعبد الناصر أنه أشار إليه بالرمز وإلي عائلته باعتبارهم فقراء لا يجدون قوت يومهم ونفي تماماً "إحسان عبد القدوس" ذلك وطلب من "عبد الناصر" مشاهدة الفيلم قبل أن يصدر حكمه عليه وهذا هو ما حدث بالضبط ووافق "عبد الناصر" علي أحداث الفيلم كاملاً والذي كان يشير بدون إفصاح إلي أبرز رجال الثورة بدون أن يذكر صراحة أسماءهم لكنه اشترط أن يتم حذف دور درامي كانت تؤكد عليه أحداث الفيلم من خلال تجسيد شخصية "محمد نجيب" وأدي دوره في الفيلم الفنان "زكي طليمات" والذي كان هو في نفس الوقت زوج والدة إحسان عبد القدوس السيدة "روز اليوسف" وبالطبع تم إلغاء دور "نجيب" والذي كان عند تصوير الفيلم رئيساً لمصر وصار عند السماح بعرضه قيد الاعتقال وتحديد الإقامة؟! تصور "جمال عبد الناصر" أنه من الممكن أن يلغي صفحة من التاريخ وهو دور "محمد نجيب" وبالطبع لم يقدم أي فيلم سينمائي يشير للثورة وبه ملمح ما لمحمد نجيب وكانت الدولة حريصة علي ذلك في الكتب الدراسية وكذلك البرامج الإذاعية والتليفزيونية، أغفلت تماماً اسم "محمد نجيب" حتي مسلسل "ناصر" الذي عرض في شهر رمضان الماضي قدم "محمد نجيب" كشخصية مهزوزة. ولا يدرك الكثيرون أن اسم "محمد نجيب" ذكر في أحد المونولوجات التي أداها "إسماعيل يس" في مطلع الثورة ولكن هذا المونولوج صار بعد ذلك مقره الدائم هو الأرشيف ممنوعاً من التداول والذي تقول كلماته "20 مليون وزيادة.. الجيش ونجيب عملوا ترتيب" وكان يقصد برقم 20 مليون عدد سكان مصر في مطلع الخمسينيات، أما كلمة "ترتيب" فلقد استخدمت كبديل لكلمة "ثورة" لأن تعبير "ثورة" لم يطلق علي 23 يوليو إلا بعد عدة أشهر من قيام حركة الضباط الأحرار وهذا التعبير منسوب إلي عميد الأدب العربي «د. طه حسين».. إلا أن الحقيقة دائماً أقوي من أي تعتيم.. وهكذا نقرأ الآن عن فيلم يجري إعداده يتناول مسيرة "محمد نجيب" كتبه باحث متخصص "محمد ثروت" وراجعه الراحل "د. يونان لبيب رزق".. أتصور أن شخصية "محمد نجيب" سوف تفرض نفسها درامياً في العديد من الأعمال الفنية القادمة.. حذف "عبد الناصر" دوره في "الله معنا" وبعد 57 عاماً سوف تقدم السينما وربما بعض المسلسلات الدرامية حياته كاملة ليولد مرة أخري "محمد نجيب" علي الشاشة الفضية مؤكداً أنه أول رئيس عرفته مصر بعد ثورة 52 .. فلقد كان "الله معه"!!