ليس الإعلام هو الذى يحطم مرسى، بل الرئيس هو الذى يحطم نفسه. نعم، قد لا تكون من مصداقية لكثير من وسائل الإعلام التى تهاجم مرسى، وقد لا يصح أن يحترم أحد كثيراً من الأقلام والأفواه، والتى تحترف الهجوم على مرسى الآن، وتنكل باسمه وشخصه، وتنزل بمقامه الرئاسى إلى الحضيض، بينما كانت الأقلام والأفواه نفسها فى خانة المنافقين المحترفين لمبارك، وكانت ترتعب إذا ذكر اسم الرئيس بلهجة انتقاد، أو بشبهة اعتراض، وتحدثك عن الذوق والأدب، واحترام مقام الرئيس، والذى رفعوه إلى مكانة الآلهة، ووضعوه فوق أن يسأل عما يفعل، وكانوا يتسابقون إلى كسب عطفه، ويفرحون بالتقرب إلى أصغر معاونيه، ويدبجون المقالات الطوال فى بيان عظمة مبارك، وفى جلال حكمته، وإلى أن تحطم الصنم وتفرقت الغنم، وتحولت هيبته إلى خيبة، ونظامه إلى ركام، وكتابه إلى متسولين، يلعقون أحذية جنرالات المجلس العسكرى، ويدعون وصلا بالثورة، وهى منهم بريئة، ولا تنتسب إلى نفاقهم الذى كان، ولا إلى حملاتهم المدفوعة بهوى وفلوس مليارديرات المال الحرام. نعم، ليس كل هجوم على مرسى فى موضعه، ولا كل هجوم على الاخوان يعنى انتصارا للثورة، بل بعض الهجوم ملوث، ولا تخفى حدته روائح كريهة ظاهرة، والعينة بينة فى أسماء مريبة، تعلو أصواتها الآن، وكأنها تخلص القول لوجه الله ولوجه البلد، أو كأنها تنتصر لحكم القانون، بينما هى تخوض معارك مدفوعة الأجر، وما من سبب واحد يسيغ لأحد أن يصدقها، وهى تذرف دموع التماسيح، تماما كما لا يصح لأحد أن يصدق قيادة جماعة الإخوان، وهى التى احترفت الكذب، وتضحك على ذقون الناس، وتضلل مئات الآلاف من الشرفاء فى جماعة الإخوان، وتتعامل معهم كقطيع غنم، تحشده فى الميادين لجلب المنافع، وتصرفه وقت الحاجة إلى مفاوضات الكواليس، وتدعى وصلا بالثورة، والثورة منهم بريئة، تماما كبراءتها من التنطع الكاذب لجماعة مبارك، والتى يلبس رجالها ونساؤها لباس الثورة الآن، ويتصورون أن الشعب المصرى جماعة من المغفلين، وأن كل شىء ينسى بعد حين، بينما الشعب يعرفهم اسما اسما، تماما كما لم يعد يصدق ادعاءات قيادة الإخوان، والتى تتراجع شعبيتها باطراد، وتتكشف أقنعتها كل يوم، وتسقط سياستها فى وحل الخيانة للثورة ودم الشهداء، وتحطم بمطامعها أى فرصة لنجاح الرئيس مرسى، والذى فاز على شفيق - رجل مبارك- بأصوات غير الإسلاميين، فلم يكن بوسع جماعة الإخوان أن تنجح مرسى، ولا بوسع الجماعات السلفية، بل كان بوسعهم - فقط- أن يدعموه لا أن ينجحوه، ولم يكتب له النجاح إلا بأصوات متأثرة برموز قومية ويسارية وليبرالية وطنية، أرادت بدعم مرسى تجنب كارثة ذهاب الرئاسة إلى شفيق، ودون تصور مزايا بعينها فى حالة مرسى، اللهم إلا استمرار المعركة، ومواصلة رحلة الثورة، والانتهاء سريعا من «شربة زيت الخروع» التى تمثلها قيادة الإخوان، وكشف خداعها بالتجربة المباشرة، وحتى يتطور حس المجتمع فى الدفاع عن الثورة، وتأتى اللحظة المناسبة لإسقاط طغاة الإخوان ومليارديراتهم، والذين يكررون مأساة مبارك ذاتها، ويضاربون ببضاعة الإسلام فى بورصة الطغيان. وربما لو حلقنا ذقن مرسى لوجدنا تحتها وجه مبارك، صحيح أن مرسى يبدو أكثر ذكاء بقليل من غباوة مبارك، لكنه يكرر السياسات ذاتها، ويكرر التصريحات بالحرف ولا يقدم بديلا من أى نوع، بل يمثل «حكم القرين» لا البديل، ورأسمالية المحاسيب التى نهبت البلد، والتى كانت تلتصق بعائلة مبارك، هى ذاتها رأسمالية المحاسيب التى تلتصق بجماعة مرسى الإخوانية الآن، حتى وإن تغيرت الوجوه وتبدلت الأدوار، وصار عندنا نفوذ خيرت الشاطر الذى حل محل نفوذ أحمد عز، ومرسى يبدو أسيرا للعنة ذاتها، حتى وإن كانت طاقته العقلية والوجدانية أفضل قليلا من مبارك، لكنه يظل بحساب القدرات أضعف بكثير من المنصب الذى ساقته إليه الأقدار، فقد قال الرجل إنه سيتصرف كرئيس لكل المصريين، وأطلق خطابات بدا فيها الحماس مفتعلا، ثم سقطت الحماسة سريعا فى سوق النخاسة، وتبين أن الرجل رغم كونه فى سدة الرئاسة يتصرف كمجرد عضو قاعدى فى جماعة الإخوان، فقد بدا متحديا للمجلس العسكرى فى خطاب ميدان التحرير، ثم بدا راكعا ساجدا بعد أقل من 24 ساعة فى خطابه بجامعة القاهرة، ولم يكد يمر أسبوع واحد، حتى تغيرت الأوامر، وبدا متحديا- ثانية- لجنرالات المجلس العسكرى، وقرر إعادة برلمان الأغلبية الإخوانية والسلفية، أرادت له قيادة الإخوان أن يبدو رئيسا، ثم أراد له جنرالات المجلس العسكرى أن ينتهى حبيسا، وكانت النتيجة أن لحس مرسى قراره، وبدعوى الامتثال لحكم المحكمة الدستورية الذى أنكره من قبل، بدا الرئيس كروبوت يتصرف بحركة الأسلاك الواصلة إلى رأسه ويده، ويقرر بحسب ضغطة الزر، والنتيجة أنه حطم صورته بنفسه فى أول اختبار رئاسة، وبدا كأنه يكرر الدور العبيط لسعيد صالح فى كوميديا مسرحية «مدرسة المشاغبين»، وكلنا يذكر صيحة صالح فى المسرحية «مرسى الزناتى انهزم يارجالة» وقد أدى سعيد صالح دوره باسم «مرسى» فى المسرحية الشهيرة، بينما أدى الرئيس مرسى الدور، وباسمه شخصيا، فى عمل مسرحى ركيك، نزل بمقام الرئاسة إلى دور موظف الأرشيف أو عسكرى المراسلة، وإلى نهاية معركة عبثية، قد يصح فيها إطلاق صيحة مماثلة لصيحة سعيد صالح الكوميدية وبتعديل لفظى بسيط، فمرسى «العياط» هذه المرة- هو الذى «انهزم يارجالة»! هزمته قيادة الإخوان النفعية بامتياز، وقبل أن يهزمه جنرالات المجلس العسكرى، والذين جعلوا سيادتهم فوق سيادة الرئيس، وتصرفوا بطريقة العصابة المحترفة هذه المرة، فقد كانوا يعلمون بدور الأمريكان فى تشجيع قيادة الإخوان، وتصرفوا كأنهم أهل للثقة الأفضل عند الأمريكان، وعقدوا اجتماعين مطولين، خرج ثانيهما ببيان هادئ اللهجة، دعا فقط إلى احترام مؤسسات الدولة لحكم القضاء، وكان ظاهرا أنهم فضلوا العمل من وراء قناع المحكمة الدستورية، ومن خلال استثارة الهيئات القضائية ضد قرار مرسى، وكانت النتيجة على ما تعلم، فقد خضع مرسى، وخضعت قيادة الإخوان، فهم يعرفون ما جرى فى الكواليس، ويعرفون رسائل التحذير الشفوية التى وصلت قاطعة حازمة، وإلى عنوان مكتب الإرشاد قبل ديوان الرئاسة، وهو ما سابت معه مفاصل قيادة الإخوان، وإن واصلوا تعبئة جمهورهم سترا للخيبة، وحفظا لما تبقى من ماء الوجه الغائض، فقد احتدم النقاش داخل الاجتماع الأول للمجلس العسكرى عقب قرار مرسى، وخرج الرجل الثالث فى تسلسل القيادة العسكرية من الاجتماع غاضبا، وخرج معه جنرال كبير آخر احتجاجا على ليونة رد المجلس العسكرى، وتردده فى التأديب الفورى، وفى الاجتماع الثانى عاد القائدان العسكريان الكبيران، وجرى الاتفاق على إظهار العين الحمراء لقيادة الإخوان، ثم كان ما كان من رعب قيادة الإخوان وهزيمة مرسى. والمحصلة ظاهرة، فقد انهزم مرسى التائه فى أول اختبار، ذبحوا له القطة، وأسالوا دم صلاحياته المفترضة كرئيس منتخب، أراد الرجل أن يكون رئيسا فانتهى حبيسا، وحطم نفسه قبل أن يحطمه الآخرون نشر بالعدد 605 تاريخ 19/7/2012