هل يجىء يوم يتحول فيه الرئىس محمد مرسى إلى مشكلة لجماعة الإخوان، وهو الذى لم يكن بدونها شيئا مذكورا؟، وهى التى جعلته رئيسا لحزب، ثم رشحته لمنصب الرئاسة(!). صحيح أن مرسى إخوانى، لكنه فاز بالرئاسة بأصوات غير الإخوان وغير الإسلاميين، ولم تكن تكفيه أصوات جماعة الإخوان، ولا الكتل التصويتية القادرة على استنفارها، ولا كتلة التصويت المحسوبة لإخوانهم السلفيين، ففى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، كانت توازنات المجتمع الجديدة ظاهرة، ولم تصل كتلة تصويت الإخوان إلى ربع إجمالى المصوتين، وفى جولة الإعادة أضيفت لحسابه أصوات السلفيين، وشكلت مع كتلة الإخوان ما قد يزيد قليلا على ثلث المصوتين، لكن حسم نجاحه بكتلة تزيد على النصف كان من مصادر أخرى، ومن كتل تصويت ثورية متأثرة بآراء لرموز قومية وديمقراطية ويسارية، كرهت من حيث المبدأ أن ينفتح الطريق لنجاح الفريق أحمد شفيق،وطلبت التصويت ضد شفيق لرزاياه المؤكدة، حتى وإن لم تكن من مزايا منظورة لنجاح مرسى غير استبعاد شفيق، والصورة على هذا النحو تلخص الموقف، فمرسى إخوانى، لكن جماعته الإخوانية لم تعد تملك الأغلبية ولا الأكثرية، خاصة بعد حل البرلمان، وتبخر دور الأغلبية الإسلامية فيه، وتوقع عدم عودتها إلى ما كانت عليه فى انتخابات مقبلة، ثم أن مرسى نفسه لا يملك من أمره شيئا كثيراً، ولا ضمان عنده بأن يكمل مدته الرئاسية، صحيح أنه صار ولو رمزيا أول رئىس مدنى منتخب، لكنه ذهب إلى قصر الرئاسة بلا مهام رئاسة حقيقية، فدوره محصور ومحاصر بنصوص الإعلان الدستورى المكمل، والذى جعل من الرئاسة رئاستين، رئاسة فعلية بيد جنرالات المجلس العسكرى، تملك سلطات التقرير والموازنة والتشريع، ورئاسة افتراضية تدنت مهامها إلى ما يشبه دور رئيس الوزراء المكلف فى نظام رئاسى، أو قل بالدقة أن مرسى ليس رئيسا بالمعنى المفهوم، بل هو رئيس مراسم، وأقرب من الوجهة التنفيذية إلى أن يكون رئيسا لرئىس الوزراء المقرر اختياره، ولا تبدو من فسحة كبيرة لاختيار إرادي صرف، صحيح أن اختيار رئىس الوزراء من المهام التى تبقت نظريا للرئىس، وكذا اختيار الوزراء وإقالتهم عند اللزوم، لكن الرئيس مرسى يبدو حذرا، ويضيف إلى حذره بعضاً من طبائع تكوينه الشخصى، والذى يتسم بالبساطة والتواضع فى الخلق، وربما تواضع القدرات وقلة الحيلة، فالرجل يمارس عمله تحت ضغط الوصاية المزدوجة، وصاية المجلس العسكرى المؤكدة بنصوص الإعلان «المكبّل»، ثم وصاية مكتب إرشاد الإخوان، ووصاية الملياردير خيرت الشاطر رجل الإخوان القوى بالذات، والذى كان مرسى مجرد بديل «احتياطى» لترشيح الشاطر «الأصلى»، ثم أصبح الاحتياطى رئيسا، وترك «الأصلى» فى مطبخ الإخوان، ويبدو الشاطر كجنرال فى الكواليس، يفاوض جنرالات المجلس العسكرى، وينازعهم على كسب أولوية الرعاية الأمريكية، ويريد حصته من خلال مرسى، ويحيطه بمعاونين انتقاهم الشاطر على عينيه، يعدون عليه سكناته وحركاته، ويعدون مسودات القرارات والاختيارات، ويطلبون كما جنرالات المجلس العسكرى توقيع الرئيس، وربما يغريهم سلوك مرسى فى أيامه الأولى بالرئاسة، فقد بدا الرجل فى خانة المفعول به، وبدا فى صورة عبد المأمور، ولا تزال ملابسات تأديته اليمين الدستورية ثلاثا ماثلة للعيان وفى الأذهان، وفى أربع وعشرين ساعة فقط ألقى الرئيس المنتخب خطابين مختلفين تماما، فى خطاب ميدان التحرير، بدا كأنه يقلد جمال عبدالناصر، أو كأنه يطمح لأن يكون زعيما لا مجرد رئيس، وبدا متحديا للمجلس العسكرى، وقبل أن تنقضى الأربع وعشرين ساعة، كان خطابه فى جامعة القاهرة على العكس تماما من مغزى خطاب التحرير، وانقلب التحدى إلى التسليم بالأقدار، وتوقف مرسى عن الارتجال العفوى المتحمس، والتزم بالنص المكتوب، وبدت المفاوضات الليلية بين الخطابين تفسيرا معقولا لما جرى، فتكوين مرسى البسيط حتى لا نقول الهش يجعله مطيعا نموذجيا، وقارئا جيدا لما يملى عليه، فقد أرادت قيادة الإخوان، وأراد خيرت الشاطر بالذات، أراد «مرشد الكواليس» أن يبدو مرسى فى التحرير كرئيس إخوانى، أو كعبدالناصر جديد من صناعة مكتب الإرشاد، وهو ما يفسر تناقض سلوك مرسى فى التحرير، فقد أراد أن يقلد عبدالناصر فى التصرفات وإيقاع الكلمات، ثم أن يهاجم عبدالناصر فى الوقت نفسه، وأن يهاجم الستينيات، و«ما أدراك ما الستينيات» على حد قوله، وبقدر ما بدا التعليق على الستينيات غشوماً وفائضا بجهالة عظيمة، فإنه بدا مرضيا لنفوس مريضة متحكمة فى قيادة الإخوان، وملبيا لأوامر خيرت الشاطر، والذى أراد ضرب عصفورين بحجر واحد، أراد خطابا لمرسى يصلح كتوطئة لإجلاء شباب الإخوان عن ميدان التحرير، وهو ما جرى بعدها بساعات، وفى سياق تهدئة السجال مع جنرالات المجلس العسكرى، وإنهاء اعتراض الإخوان الفعلى على نصوص الإعلان الدستورى المكمل، واللجوء مجددا لمفاوضات وتفاهمات الكواليس الليلية، وقلب سحنة مرسى فى أقل من أربع وعشرين ساعة، وجعل الزعيم المتحمس فى التحرير حمامة وديعة فى اليوم التالى، يقبل ما يملى عليه من قضاة المحكمة الدستورية فى أداء اليمين وإذاعته على الهواء، ثم أن يذهب رئيس المحكمة الدستورية عدو الإخوان، ويفتتح حفل جامعة القاهرة بخطاب إذلال لمرسى، يكرر ويؤكد مراراً على انصياع مرسى لشرط أداء اليمين أمام المحكمة الدستورية، وعلى كون التصرف المطيع خضوعا من الرئيس لنصوص الإعلان الدستورى المكمل، ولم يرد مرسى على خطاب الإذلال، واكتفى بإشارة عبثية باهتة إلى «عودة المؤسسات المنتخبة لأداء دورها»، أراد أن يرفع رأسه قليلا، لكنه سرعان ما انتكس وانكب على الخطاب المكتوب، بدا مرسى مقهورا بحق، فقد تكالب عليه نفوذ الشاطر مع مفاوضيه من جنرالات المجلس العسكرى، ومنع رجال الشاطر هتافات بدت تلقائية من القاعة، وكأنها تواصل سيرة هتافات ميدان التحرير فى اليوم السابق، وتؤكد على المطالبة بإسقاط حكم العسكر، لكن الهاتفين وهم من الإخوان صدمتهم الأوامر الجديدة، وجرى إرغامهم على هتاف آخر، ينتحل صفة الشعب وصفة الجيش، ويتحدث عن «الإيد الواحدة»، وكان القصد مفهوما بألفاظه التى لم تقل بصراحة، بينما ترجمتها الحرفية ظاهرة، وهى أن جنرالات الإخوان وجنرالات العسكرى «إىد واحدة»، كان المثال ناطقا بمشكلة مرسى، وجوهرها أنه يمارس عمله يوما بيوم، ويستطلع أحوال الطقس فى سماء علاقة الجنرالات بالإخوان، فإن كان القرار متفقا عليه، سهلت مهمة مرسى فى التوقيع الرئاسى، والعكس بالعكس. ولا أحد يضمن بالطبع اتصال السلاسة فى علاقة الجنرالات بالإخوان، وسلاسة مهمة مرسى بالتالى، فثمة تربص لا يخفى على أحد، وثمة استنفار فى الأجهزة الحساسة ضد تيار «الأخونة»، فقد تسمح هذه الأجهزة للإخوان باللعب بعيدا، وبأداء أدوار تكميلية لا تعطيهم قرارا حاكماً، وتجعلهم عرضة لحساب الناس باليوم والساعة، حتى وإن ضمنت لهم أدوار الوزراء أو حتى رئىس الوزراء، بينما تظل الكلمة العليا للمجلس العسكرى، والذى يملك فرصة قلب الطاولة فى أى وقت، وتخيير مرسى بين قبول وصايته أو قبول وصاية الإخوان، وعند الاختيار يكون القرار، الاختيار بين إغراءات الدولة العميقة وأوامر مكتب خيرت الشاطر، الاختيار بين مكانة الرئىس أو طاعة القيادى الإخوانى، الاختيار بين خيانة الجنرالات أو خيانة الإخوان، وقد يلجأ مرسى فى لحظة التصدع إلى اختيار الهوان وتطليق الإخوان. نشر بعدد604 بتاريخ 9/7/2012