كيف ينوى أن يكون رئيسا؟، دار هذا السؤال كثيرا فى بالي، وإن لم تتح لى الظروف أن ألقيه على مسامع الرئيس المنتخب محمد مرسي، وانشغلت عن سؤالى بمراقبة طريقة جواب الرئيس على أسئلة رؤساء التحرير فى لقاء جرى بقصر الرئاسة، كانت الأسئلة فى غالبها تعامل مرسى كعضو فى جماعة الإخوان المسلمين، وتكاد تنكر عليه وجوده كرئيس فى القصر الجمهوري، وكان مرسى بسيطا ودودا و«عشريا» بامتياز، وإن كان جوابه يتوه دائما فى تفاصيل مما لا لزوم لها، أو يضيع فى أكليشيهات عامة، ودونما حس ولا خبر بذاته، فالرئيس لم يبدأ الرئاسة بعد، فقد ذهبنا كضيوف على الرئيس، ووجدنا الرئيس نفسه يعامل كضيف فى القصر الجمهوري(!). وربما يكون الرئيس مرسى قد نجح فى تصدير صورة بذاتها، وتسويقها بعناية للمراقبين والجمهور، بدا فيها رجلا بسيطا جدا، لا يميل إلى تكبر ولا غرور ولا استعلاء، وهو كذلك بالفعل، أعنى أنه لا يمثل علينا، بل يمثل نفسه القريبة من الروح البدوية الصرفة، وقد جاء الرجل باختيار الناس، وفى ظروف اضطرار لا تتيح فسحة من اختيار، وكان مرسى ضروريا، فقط لتجنب عار اختيار شفيق، وهذا هو النصر الوحيد ربما فى القصة كلها إلى الآن، فلم يكن اختيار مرسى لمزايا ظاهرة فيه، بل لتجنب رزايا مؤكدة فى حالة شفيق عنوان عصابة مبارك، وربما كانت هذه النقطة بالذات هى موضع اختبار مرسي، فمصر كلها تنتظر ما يفعل، ولا نريد أن نستبق الحوادث، ولا أن نصادر على المطلوب، ولا أن نتوقف عند تصرفاته الأولي، وبعضها بدا فى موضعه تماما، وكذهابه إلى ميدان التحرير، وأدائه القسم الدستورى معنويا فى مهد الثورة، وقوله للناس عن حق «أنتم مصدر السلطة»، وأن من «يحتمى بغيركم يخسر»، وهذا كله حق وبديهى تماما، لكنه ليس موضع السؤال ولا الاختبار الأصلي، ولا يفصح عن قدرته بعد نيته على تحمل أعباء رئاسة حقيقية بصلاحيات كاملة، واتخاذ قرارات ناجزة فيها، وفى ظروف يعلمها الكل، وتتجاوز المعانى الاحتفالية إلى المواقف الجدية، فقد انتظر الناس وعندهم حق موقف مرسى من الإعلان الدستورى المكمل «المكبّل»، والذى يعطى المجلس العسكرى سلطة فوق سلطة الرئيس نفسه، وصمت مرسى لوقت، وربما كان ينتظر أمر قيادة الإخوان، ومساوماتها فى الكواليس مع المجلس العسكري، وكانت النتيجة على ما تعلم، فقد خضع الرئيس مرسى لشرط أداء اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ونفذ الشرط الأول فى الإعلان الذى أصدره المجلس العسكرى عشية فوز مرسي، وهو ما قد يوحى بأن بساطة الرجل قد تعادل العجز وقلة الحيلة، وهذه حقيقة مفزعة لا تخفيها الهتافات ضد حكم العسكر فى استقبال مرسى بميدان التحرير، ولا الاحتفالات التى جرى تنظيمها فى القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، ولا لقاءات مرسى المتواترة مع جماعات وطوائف فى قصر الرئاسة، ولا الجماعية السياسية فى مؤسسة الرئاسة بنوابها ومستشاريها أيا كانت الأسماء والصفات، ولا الحكومة المنتظرة أيا كان اسم رئيس الوزراء فيها، فهذه كلها تصرفات قد تضيف إلى حساب النوايا والمعنويات، لكنها لا تفيد فى جواب على سؤال الرئاسة الفعلية لمن؟، وهل هى للمشير طنطاوى أم لمرسي؟، وهل نحن بصدد شراكة ملتبسة أم مواجهة صريحة؟، وماذا يعنى اسم مرسى فى القصة كلها؟. وقد يكون صحيحا أن مرسى رجل متواضع، والتواضع فضيلة فى حساب الأخلاق الفردية، لكنه باليقين رذيلة فى حساب القدرات، وقد لا يكون خضوع مرسى لشرط أداء اليمين وموضعه نهاية الدنيا، لكنه يبقى اشارة خطرة لما قد يأتي، فهذه هى الخطوة الأولى ربما فى التسليم بالإعلان الدستورى ومقتضياته، والتى لا تبدو موقوتة بالمدى الافتراضى المتبقى حتى ساعة الاستفتاء على الدستور الجديد، والتى يقدرها الإعلان بثلاثة شهور قد تزيد إلى أربعة، فالإعلان نفسه يفتح أقواس الزمن إلى مدى مفتوح، والقصد الجوهرى من الإعلان أن تكون قواعده دائمة، وأن يجرى تضمينها فى صلب الدستور الجديد، وهو ما يعنى بقاء سلطة المجلس العسكرى فوق سلطة الرئاسة، والنزول بمقام الرئيس إلى درجة رئيس وزراء مكلف ضمنيا من المجلس العسكرى ذاته، وعلى طريقة كمال الجنزورى رئيس الوزراء المنتهية ولايته، والذى قيل إن المجلس العسكرى أعطاه سلطات الرئيس التنفيذية، وهو ما يقال الآن علنا على لسان المتحدثين باسم المجلس العسكري، والتى جهدت فى دفع تهم استيلاء المجلس العسكرى على السلطة بعد انتخاب الرئيس، وقالت بوضوح إن مرسى لديه «السلطة التنفيذية كاملة»، وهى ذات الكلمات والحروف التى سيقت فى وصف مهمة الجنزوري، والمعنى لا يخفي، وهو أن المجلس العسكرى يحتفظ لنفسه بسلطة التقرير، وأن الرئيس المنتخب قد تركت له «سلطة التنفيذ»، وهو ما يعنى بوضوح أكثر أن الرئيس مرسى فى وضع الموظف رفيع المقام، وحتى لا نقول فى وضع السكرتارية التنفيذية، وهنا جوهر الأزمة، وأصل الاختبار الذى وضع فيه مرسي، وانتظار طريقته الفعلية فى التصرف الذاتي، فقد انتخبه الناس اضطراراً، ولم ينتخبوا جماعته الإخوانية لا اضطراراً ولا اختياراً، وهو يقول إنه رئيس لكل المصريين، ولا بأس بالعبارة، فهى صحيحة جداً فى وصف المهمة، وتتطلب منه أن يبدى قدراته واختياراته الشخصية، فالرجل فى امتحان التاريخ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ونحن نتطلع إلى كراماته، وإلى رؤية مقدرته على الفكاك من أسر مساومات القيادة الإخوانية، والتصرف كرئيس مدنى منتخب، وقادر على مواجهة تغول الجنرالات، وقيادة معركة حقيقية لاسترداد السلطة، لا أن يكتفوا بأخذ توقيعه على ما يريدون، وإملاء القرارات الكبرى عليه، فالرجل فى وضع بالغ الحرج، ويبدو كرئيس افتراضي، رئيس تحت وصاية مثلثة الأطراف، وصاية حزب الإخوان الذى يحتفظ بعضويته، ووصاية الأمريكيين على سلطة الحكم عموماً فى مصر، ثم وصاية المجلس العسكرى على سلطته بالذات، وإلى جوار المجلس العسكري، وبالقرب منه، سلطات خفية أكثر تربصاً بمرسي، بينها وصاية جهاز سيادى مرموق، لا يتخفى بالعداء الصريح الطافح لمرسى وجماعته، وناصر شفيق حتى النهاية، وكان وراء نشر إشاعات عن فوز شفيق فى صحف وتليفزيونات، وإبلاغها حتى لدوائر أجنبية ودولية، وفى سياق من الضيق الظاهر بالمشير طنطاوى وجماعته فى المجلس العسكري، والمسئول فى رأى الجهاز إياه عن السماح بفوز مرسي، وربما يبدو ضيق الجهاز السيادى ممتداً إلى جنرالات فى المجلس العسكرى نفسه، وإلى أوساط ضباط الجيش عموماً، فثمة غليان مكتوم وظاهر فى الجيش، تواترت مظاهره وأماراته، وثمة تحريض على صدام مستعجل، يستخف بمرسي، ويفتح دفاتر جماعة الإخوان، ويريد أن يقطع الطريق على الحكم المدنى بدعوى تصفية الحساب مع الإخوان، وفى حادثة ذات مغزي، وخلال لقاء قائد كبير بمئات من ضباطه، بدا فيها مدافعاً عن سياسة المشير التى تتجنب تصعيد الصدام مع الإخوان، وتساءل القائد مستطرداً: «هو فيه حد عايز صدام»، وكانت المفاجأة أن المئات رفعوا أيديهم قائلين: نحن نريد الصدام!. نعم، نحن فى لحظة خطر، ومرسى فى قلبها، فثمة غليان فى الجيش، وثمة تربص فى أجهزة الدولة العميقة، وثمة ارتباب فى القصر الجمهورى مع قدوم ساكنه الجديد. وقد بدا مرسى متحدياً بتصرفاته الرمزية فى ميدان التحرير، وعازماً على خوض معركة، ومحتمياً بشرعية اختيار الناس، ومصمما على انتزاع صلاحيات الرئاسة، بينما بدأت الحرب فى الكواليس، وفى سياق ذاهب لواحد من انقلابين فى ذروة الدراما، إما انقلاب مرسى لصالح مصر لا لصالح جماعة الإخوان وحدها، أو انقلاب الجنرالات على سيادة الرئيس نشر بالعدد 603 بتاريخ 2/7/2012