منذ أن فجر الرئيس الراحل أنور السادات قنبلته بإعلان مبادرته للسلام مع العدو الصهيوني، وما أعقبها من توقيع اتفاقية السلام «كامب ديفيد»، ونار الغضب الشعبى لم تخمد ضد هذا التطبيع، والذى لم يجد له حاضنة شعبية من المصريين، الذين كانوا ومازالوا ينظرون لإسرائيل على أنها عدو دائم. وشكل ما عرف لاحقاً بالتطبيع إحدى أهم الوسائل الإسرائيلية الأمريكية لإخضاع مصر والسيطرة عليها، من خلال جوانب مختلفة لهذا التطبيع تبدأ بالدبلوماسى ولا تنتهى بالزواج من الإسرئيليات، مروراً بالتعاون «السرطاني» فى مجال الزراعة، والتبادل الثقافى والفني، وزيارات الوفود الصحفية، والكويز وتصدير الغاز المصرى لإسرائيل . وبحجم أهمية وخطورة هذا «التطبيع»، أعد الدكتور رفعت سيد أحمد مدير مركز يافا للدراسات، موسوعة مهمة للغاية يصل عدد صفحاتها إلى 2500 صفحة، يقدم فيها خلاصة عمله وبحثه الدؤوب فى قضايا الصراع العربى الصهيونى التى امتدت من الثمانينيات حتى اليوم، فيقدم أسرار العلاقات المصرية - الإسرائيلية بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد (1978) فى كل المجالات (السياسية - الاقتصادية - الإعلامية - الاجتماعية - الدينية.. إلخ)، ويكشف بالوثيقة والمعلومة الدقيقة، الستار عن رجال ومؤسسات التطبيع مع العدو الصهيونى الذين باعوا الوطن وأمنه القومى فى صفقات مشبوهة . يؤكد الدكتور رفعت فى موسوعته أن التطبيع أو العلاقات المصرية الإسرائيلية تحتاج إعادة فتح للملفات وإعادة قراءة لما بداخلها من أسرار وحقائق، من خلالها نستطيع رسم خريطة صحيحة للمستقبل، فلا مستقبل لمصر ومن ثم للوطن العربي، دون موقف واضح وجذرى من العدو الصهيوني، ولا مستقبل لمصر دون مراجعة دقيقة وحاسمة لاتفاقات كامب ديفيد ولمعاهدة السلام . الموسوعة ترصد وتحلل أبرز الأحداث والسياسات والمواقف فى هذه العلاقات منذ 1979 وحتى بدايات ثورة يناير2011. وتكشف الموسوعة عن رجال إسرائيل فى الصحافة والاقتصاد والسياسة «فمن حسنى مبارك ووزراء خارجيته أمثال عمرو موسى البطل الأبرز للتطبيع فى وزارة الخارجية المصرية، إلى رجال الصحافة أمثال لطفى الخولى وعبد المنعم سعيد وهالة مصطفى وعبد العظيم رمضان ومكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وأنيس منصور، إلى عشرات الكتاب والأكاديميين الذين تعاملوا مع المركز الأكاديمى الإسرائيلى بالقاهرة المنشأ عام 1982، وصولاً للزراعة وللدور التخريبى ليوسف والي، وكذلك رجال الاقتصاد وشركاتهم ومن أبرزها: مجمع ميدور لتكرير البترول، شركة ميرال لينش. وترصد الموسوعة أهم المطبعين فى المجال الزراعى وهم شركات كارمل، وأجرولاند، والاستشارية للمشروعات والاستثمار «بيكو»، مجموعة المغربى الزراعية، تكنوجرين، سيف أجريت، أجروتك، مجموعة شركات هريزا وحيفا وكلال، وهى توكيلات مباشرة للشركات الإسرئيلية وتحمل نفس الأسماء فى مصر، ومجلس المحاصيل البستانية الذى يتعاون منذ عام 1981 مع شركة «أجروكيميالز» الإسرائيلية فى مجال استيراد آلات زراعية إسرائيلية. وهناك شركة زين الدين للاستيراد والتصدير، وشركة ستار سيدس إيجيبت. وفى المجال التجارى والإلكترونى هناك، المجموعة الاستشارية للدواجن «إيباج» وتستورد من شركة «تنيواف» الإسرائيلية كتاكيت رومى من نوع «بيج سكس». والمجموعة الدولية للتوريدات وتستورد بعض طيور النعام الإسرائيلى . ومجموعة شركات بهجت، وتستورد مكونات أجهزة التكييف التى تصنعها تحت اسم «يورو إير»، والمكونات الالكترونية المصنعة فى إسرائيل. وشركة كاتو أروماتيك، لصاحبها إبراهيم كامل الذى يمتلك حصة قدرها 5% من المجمع الصناعى العسكرى «كور» ويعمل فى مجال تكنولوجيا الاتصالات وصناعة الكيماويات والانشاء والتشييد وانتاج المعدات الإسرائيلية . وفى المجال الصناعى تورد الموسوعة أسماء شركات منها الشركة السويسرية للملابس الجاهزة «سويس جارمنتز». وفى المجال الملاحى هناك شركة إليكس جروب، وهى وكيل لشركة «زيم» الإسرائيلية للملاحة البحرية منذ عام 1981، وجميع صادرات مصر إلى القارة الإفريقية تنقل عبر هذه الشركة . وتذكر الموسوعة أنه وفى السنوات الأولى التالية لتوقيعها، وضعت ما يمكن تسميته باللبنات الأولى لسياسات واقتصاديات التطبيع، وفيها تم تجريب الأفكار والخطط التطبيعية حتى تسهل ممارستها فى السنوات التالية، وفى هذا الفصل التمهيدى نقترب من قضية التطبيع (وتحديدًا التطبيع الثقافى) فى سنواته الأولى، وما ارتبط به من مقولات بدت كبيرة ومدوية مثل «الاحتكاك الحضارى والعلمى مع الآخر أو أن صراعنا مع إسرائيل فقط صراع نفسى ولا بد من إسقاط جدار العداوة النفسية مع الآخر». مقولات مع الزمن ثبت أنها كانت زائفة، وكان يراد بها تسهيل عملية الاختراق المنظم للعقل والمجتمع المصرى، حتى يبتلع الجريمة ويمررها، وهو ما جرى منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد (1978) وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (مارس 1979) وحتى يومنا هذا. المركز الأكاديمى الإسرائيلى: أنشئ هذا المركز عام 1982، تطبيقا لبنود اتفاقات كامب ديفيد، ولقد مارس المركز عملية مسح منظمة للمجتمع المصرى اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، ولعب فى الثمانينيات من القرن الماضى وحتى اليوم 2014 من خلال رؤسائه الثلاثة عشر السابقين دورًا مهماً فى اختراق مصر (تفاصيل ذلك فى الفصل الخاص بالمركز الأكاديمى فى الباب الرابع من الموسوعة) ولم يكن غريبًا أن يتم اكتشاف عدة شبكات للتجسس من الأمريكيين والإسرائيليين وبعض المصريين يعملون داخل المركز وينطلقون فى تجسسهم من خلاله، وذلك من أول شبكة كشفت فى أوائل أغسطس 1985 وحتى الشبكات الأخيرة خلال أعوام ما قبل الثورة 2011 وما بعدها، ونظرة سريعة على الأبحاث السياسية والثقافية والاجتماعية التى قام بها المركز خلال حقبة الثمانينيات وسنوات التطبيع الأولى تبرز لنا وبوضوح عمق الخطر الذى يمثله كأداة متقدمة للمخابرات الإسرائيلية «الموساد»، وكيف أن ما يقوم به هذا المركز من اختراق منظم للعقل المصرى ما هو إلا مثال مصغر لما ينتظر العقل العربى فى حالة غياب وحدة العمل العربى المشترك تجاه التغلغل الإسرائيلى، فالمركز مثلاً أجرى أبحاثا فى الأصول العرقية للمجتمع المصرى وفى كيفية تفتيت مصر طائفيا، وفى الوحدة الثقافية والعقائدية بين اليهودية والإسلام، وفى الشعر العربى الحديث، وقضايا التعليم والزراعة والميكنة الزراعية واستصلاح الأراضى وفى توزيع الدخل وحياة البدو والبربر، وكيفية السيطرة عليها وفى تأثير السلام على العقل العربى وغيرها من الأبحاث الهامة ومحاولة بناء العلاقات الأكثر أهمية مع كتاب كبار أمثال نجيب محفوظ وأنيس منصور وعبد العظيم رمضان وغيرهم (سنقرأ نماذج منها فى الفصل الخاص بالمركز الأكاديمى الإسرائيلى). وقديما فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى عمل عديد من الباحثين الأمريكيين واليهود فى خدمة مشروع التطبيع الثقافى مع العدو الصهيونى. وترصد الموسوعة أن التطبيع الرسمى استمر مع الكيان الصهيونى عقب ثورة يناير .وخير مثال عليه رسالة الرئيس الإخوانى محمد مرسى «الحميمية» للرئيس الإسرائيلى «شيمون بيريز». وأوردت الموسوعة تورط الإخوان والسلفيين والمجلس العسكرى السابق فى علاقات مع الكيان الصهيونى، وذكرت: أكدت الحقائق بعد ثورة 25 يناير أن «الإخوان» وافقوا على استمرار التطبيع والعلاقات الخاصة مع واشنطن وتل أبيب، خاصة بعد زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكى «وليام بيرنز» لمصر ولقائه قادة الإخوان . وأعلن الإخوان مواربة حيناً وصراحة حيناً آخر، أنهم لن يلغوا معاهدة كامب ديفيد، مع ترويج فكرة أنهم قد يعيدون النظر بها أو يعرضونها على استفتاء شعبي، وهذا ربما لإسكات الشارع المطالب بإلغاء الاتفاقية، ويتم هذا الكلام مع ما صرخ به نائب وزير الخارجية الإسرائيلى «دانى أيالون» من أن «السلام بين بلاده ومصر مستمر حيث تلقت بلاده تأكيدات حول نوايا جماعة الإخوان المسلمين بالاعتراف باتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل... العلاقات بين البلدين لن تتغير كثيراً فى المستقبل بسبب التغيير السياسى فى مصر». وفى عام 2011 وبعد الثورة أعلن أحد مرشحى الجماعة فى سيناء وهو الدكتور عبد الرحمن الشوربجي، أنه موافق على تصدير الغاز إلى إسرائيل طالما أن ذلك تم بالأسعار العالمية. كما قامت قناة فضائية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين بفصل مذيعة رفضت إجراء حوار مع شخصية سياسية إسرائيلية . أما السلفيون فإن حزب النور السلفى الذى صعد نجمه فى فضاء الانتخابات المصرية البرلمانية عام 2012، وحل ثانياً بعد جماعة الإخوان، فقد وجه لطمة قوية لرافضى التطبيع عندما أجرى المهندس يسرى حماد الناطق باسمه، حديثاً لإذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي. وقال فى هذه المقابلة إن: حزبه حريص على الحفاظ على الاتفاقيات الدولية مع إسرائيل، وكذلك ترحيبه بالسياح الإسرائيليين ومجيئهم إلى مصر». وأشار إلى أن الإعلام يحاول تشويه صورة الإسلام وصورة حزبه، مؤكداً أن اجراء أى تغييرات فى اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل يجب أن تتم عبر التفاوض، مؤكداً أن حزب النور لم ينتخب من أجل الحرب،لأن مصر بحاجة إلى إعادة البناء والسلام على حد قوله . وتابع: إننا نرحب بكل السياح حتى الإسرائيليين، فهم مرحب بهم دائماً ولا مانع لدينا من قدومهم إلى بلادنا». ورصدت الموسوعة استمرار التعاون والتطبيع الأمنى بين الأجهزة الأمنية فى البلدين عقب ثورة 25 يناير، علاوة على تنظيم عمليات أمنية مشتركة فى سيناء لتعقب والقضاء على ما قيل إنهم من عناصر تنظيم القاعدة فى سيناء .