القاضي أحمد بنداري: بيان الرئيس السيسي يؤكد استقلال الهيئة الوطنية للانتخابات    بنك مصر والمجلس القومي للمرأة يوقعان بروتوكول تعاون لتعزيز الشمول المالي    مصر تستعد لبدء تشغيل المنظومة الجديدة للتأشيرة السياحية في المطارات    "الرئاسة الفلسطينية": الإدارة الأمريكية مطالَبة بجدية أكبر لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات    رسميا.. تعافي تريزيجيه من الإصابة    مصرع طفل صدمته سيارة في قنا    مساعد وزير الخارجية يشيد ببرامج الاتحاد الأفريقي لإعادة إعمار الدول الخارجة من النزاعات    «الدلتا التكنولوجية» أفضل جامعة صديقة للبيئة    ساديو ماني يكشف كواليس خلافه مع محمد صلاح ويؤكد: منذ ذلك اليوم أصبحنا أقرب    شيخ الأزهر يهنئ السلطان هيثم بن طارق والشعب العماني باليوم الوطني    دموع الإيمان تهز القلوب، الشرقية تكرم عبد الله رغم عدم فوزه في "دولة التلاوة" (صور)    مهرجان شرم الشيخ المسرحى يكرم مخرجى الألفية الثالثة.. تفاصيل    سانوفي تطلق دواء "ساركليزا" في مصر لتمنح مرضى سرطان المايلوما المتعددة أملًا جديدًا في العلاج    عضو الحزب الجمهورى: إسرائيل لا تعترف بأى قرار ولا تحترم أى قرار دولى    سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار في بنك الخرطوم المركزي (آخر تحديث)    في اليوم العالمي للطفل، تعلمي طرق دعم ثقة طفلك بنفسه    الداخلية تضبط صاحب فيديو «عصا البلطجة» بالجيزة    محافظ الفيوم يوجه بسرعة رفع مخلفات الطبقة الأسفلتية القديمة بشارع عدلي يكن لتيسير الحركة المرورية    يونيفيل: استقرار هش على طول الخط الأزرق ونسير دوريات مع الجيش اللبناني    فقرة بدنية في مران الزمالك قبل مواجهة زيسكو    رئيس كوريا الجنوبية: أحب الحضارة المصرية وشعبنا يحبكم    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    الشيخ رمضان عبد المعز: العمل الصالح هو قرين الإيمان وبرهان صدقه    وكالة الطاقة الذرية تدعو إلى مزيد من عمليات التفتيش على المواقع النووية الإيرانية    محافظة الجيزة: غلق كلي بطريق امتداد محور 26 يوليو أمام جامعة النيل غدا الجمعة    مستشفى الناس تحتفل بتدشين أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط وتعلن تحولها لمدينة طبية    إيقاف بسمة وهبة وياسمين الخطيب.. الأعلى للإعلام يقرر    محافظ القليوبية يُهدي ماكينات خياطة ل 15 متدربة من خريجات دورات المهنة    وزير الرياضة: نمتلك 55 محترفاً في دوري كرة السلة الأمريكي NBA    ارتفاع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم 20 نوفمبر 2025    الموسيقار عمر خيرت يتعافى ويغادر المستشفى    شركة مياه القليوبية ترفع درجة الاستعداد للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    من زيورخ إلى المكسيك.. ملحق مونديال 2026 على الأبواب    النائب محمد إبراهيم موسى: تصنيف الإخوان إرهابية وCAIR خطوة حاسمة لمواجهة التطرف    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب وعدد المترشحين بها    حل الأحزاب السياسية في مصر.. نظرة تاريخية    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    التضامن: نخطط لتحويل العاصمة الجديدة إلى مدينة صديقة للأطفال    إيقاف إبراهيم صلاح 8 مباريات    إيمان كريم: المجلس يضع حقوق الطفل ذوي الإعاقة في قلب برامجه وخطط عمله    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    الرقابة المالية تصدر ضوابط عمل لجنة حماية المتعاملين وتسوية المنازعات في مجال التأمين    والده ل في الجول: أشرف داري لا يفكر في الرحيل عن الأهلي    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع تدريجي فى درجات الحرارة.. والعظمى 27 درجة مئوية    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    سبورت بيلد: صلاح هو المشكلة الأكبر أمام تألق فيرتز في ليفربول    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    د. شريف حلمى رئيس هيئة المحطات النووية فى حوار ل«روزاليوسف»: الضبعة توفر 7 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا والمحطة تنتقل إلى أهم مرحلة فى تاريخها    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زكى سالم يكتب عن حكاية «أحلام فترة النقاهة»
نشر في الشروق الجديد يوم 13 - 12 - 2015

• استمر الأستاذ فى كتابة «الأحلام» بقلمه حتى قال لى: اليوم حدث أمر مؤسف.. سناء البيسى أعادت له ثلاثة أحلام لأنهم لم يتمكنوا من قراءتها!
• عندما تعرض سكرتيره الحاج صبرى لوعكة صحية فأملى علينا فى جلسة حضرها حسين حمودة الأحلام التى يحفظها فى ذهنه كأنه يقرأ من كتاب بلا إعادة ولا تردد ولا تغيير فى كلمة
• كتبت كثيرًا منذ وفاة محفوظ أن هناك ما يقرب من 300 قصة لنجيب محفوظ لم تر النور
• المدهش حقًا أن ثمة من خرج علينا ليشكك فى صحة نسب هذه الأحلام إلى أستاذنا العظيم ! وهذا كلام فى غاية التهافت فمن هذا الذى يستطيع أن يكتب مثل نجيب محفوظ؟!
• «التجريب» عنصر جوهرى فى إبداع محفوظ المتميز وكل عمل من أعماله له أسلوبه الخاص فى اللغة والتكنيك الفنى
ثمة تفاصيل جديرة بأن تسجل، وتحكى للأجيال القادمة عن نصوص قصيرة جدا من أجمل ما كتب فى الأدب العربى على طول تاريخه، مقطوعات معجزة، تراوح بين النثر والشعر، ويحق للإنسانية أن تفخر بها ضمن أروع ما أبدعه عباقرة الأدب فى الشرق والغرب.
والمبدع هو كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ، صاحب الأعمال الأدبية الخالدة، وقد كتب هذه النصوص المراوغة على نسق الأحلام بعد ما خاض غمار تجارب إبداعية مدهشة، وبعد ما حقق إنجازات لا مثيل لها فى أدبنا كله، إذ ترجمت أعماله إلى أكثر من أربعين لغة، وعمت شهرته الآفاق، وحقق خلودا لم يسع يوما إليه، بل ولم يعترف به أصلا!
وثمة ملمح مهم للغاية فى إبداع محفوظ، وإدراكه يساعدنا على فهم النقلة الرائعة التى قادته إلى كتابة هذه الأحلام المبهرة، إذ إن «التجريب» عنصر جوهرى فى إبداعه المتميز، وكل عمل من أعماله له أسلوبه الخاص سواء من حيث اللغة أو التكنيك الفنى، ومن ثم فكل رواية أو حتى قصة قصيرة، هى مغامرة فنية لها تميزها الخاص، وتختلف عن غيرها من القصص والروايات. إذ دائما ما يسعى فى إبداعه إلى التجديد والتطوير، فهو الذى شارك فى تأسيس فن الرواية، ثم أرسى دعائمه، وهو أيضا من طور فى أساليب كتابة القصة القصيرة، وسمى بفن الرواية إلى أعلى ذروته .
ولننظر – على سبيل المثال – إلى مجموعته القصصية «رأيت فيما يرى النائم»، وسنرى كيفية استخدامه ل «تكنيك الحلم» بطريقة مختلفة تماما عن «أحلام فترة النقاهة»، ولننظر – كذلك – إلى عمله الفذ الذى سبق الأحلام مباشرة، أقصد «أصداء السيرة الذاتية»، ولنتأمل فى روعة قفزات محفوظ الإبداعية، فى كل عمل من أعماله، حتى وصل إلى الأصداء ثم إلى الأحلام، لكننا للأسف الشديد نعانى بشدة فى مجال النقد الأدبى، ومن ثم لم تلق «أحلام فترة النقاهة» ما تستحقه من نقد، ولعل صدور الجزء الثانى من الأحلام، يتيح الفرصة للقراء والنقاد والباحثين للنظر بروية فى المجموعة كلها فهى جديرة بالبحث والدرس والتأمل.
•••
ولعلك يا صديقى تتذكر ما تعرض له أستاذنا العظيم، يوم الجمعة 14 اكتوبر 1994، من محاولة اغتيال آثمة، بيد أن المولى، عز وجل، كتب له النجاة من مخطط المجرمين الجهلاء، وهذا الحادث البشع لم يؤثر فى روح محفوظ الخلاقة، لكنه أثر بشدة على يده اليمنى التى خط بها أروع الأعمال الأدبية.
فماذا يصنع كاتب يرى أن حياته الحقيقية فى القراءة والكتابة، فإذا به يفقد تدريجيا القدرة على القراءة، ثم تصاب يده اليمنى فى محاولة لقتله، ويفقد كذلك القدرة على الكتابة؟ فكيف واجه نجيب محفوظ هذه الحقيقة المؤلمة؟ وكيف تعامل مع يده اليمنى بعدما فقدت القدرة على الإمساك بالقلم؟
حاول الأستاذ لفترة أن يدرب يده اليسرى على الكتابة، لكنه فى النهاية فضل إعادة تدريب يده اليمنى. وقد تحدثنا معه كثيرا بخصوص فكرة الإملاء، فمن اليسير أن يجلس أحد منا مع الأستاذ لكى يملى عليه كل ما يشاء أن يكتبه من قصص أو مقالات أو غيرهما. ولكنه معتاد على طقوس خاصة مرتبطة بعملية الكتابة، وقد استمر فى ممارستها على مدى أكثر من سبعة عقود متصلة، فقد اعتاد على الجلوس وحده على مكتبه الخاص فى بيته، ليتأمل طويلا بهدوء وروية، ثم يخط بقلمه على الورق ما يخطر له من خواطر وأفكار ومعانٍ وتأملات، قد تعجبه بعد كتابتها، وقد لا تعجبه، قد يغير فيها أشياء قليلة أو كثيرة، وقد يطورها ويحورها، وقد يحتفظ بها كما هى، وقد يمزقها تماما ! فقد كان الأستاذ يصف نفسه بأنه أكثر من يمزق الورق الذى يكتبه ! الأمر كله إذن يرتبط بعاداته الشخصية التى يقدسها، كما يرتبط بملابسات عملية الإبداع وطقوسها الداخلية والخارجية. فالإبداع عند كثير من المبدعين عمل فردى خاص جدا، لا يصلح أن يشرك فيه غيره معه، كما لا يصلح أن يعتمد فيه على طريقة مختلفة تماما عما اعتاد عليه عبر عقود طويلة. فثمة علاقة عضوية تشكلت عبر الأيام والشهور والسنوات والعقود، بين اليد اليمنى التى تكتب، وعملية التفكير فيما ستخطه من كلمات، وأحداث، وشخصيات، وصراعات، ووقائع، وأفكار، وفلسفات. إنها عملية معقدة ومركبة ودقيقة تقوم فيها اليد اليمنى بعمل خارق إذا تنقل أدق خلجات المخ البشرى، عبر عضلات اليد وأعصابها، كما تتجاوب بذكاء مع مختلف الإشارات والمشاعر والمعانى والأفكار الصادرة من العقل، والنابعة من الوعى واللاوعى أيضا. إنها واحدة من معجزات الوجود الإنسانى، أو واحدة من تجليات عبقرية الإبداع الأدبى.
•••
فماذا صنع الأستاذ نجيب لحل هذه المعضلة؟ لقد بدأ تعلم الكتابة من جديد، من يصدق هذا ؟! وهو فى هذه السن المتقدمة، وهو غير قادر على رؤية ما يكتبه، أخذ يوما بعد يوم يدرب يده على الإمساك بالقلم، ثم يدربها على شىء أشبه «بالشخبطة» منها بالكتابة، ثم بعد جهد عظيم، ومثابرة رائعة، ودأب مدهش، وإصرار مبدع، استطاع نجيب محفوظ أن يتعلم كتابة الحروف مرة أخرى !
وهنا أذكر لقاء جمع بين الأستاذ نجيب محفوظ، والفيلسوف الفرنسى «رجاء جارودى»، وحين سأل جارودى الأستاذ: ماذا تكتب الآن؟ رد عليه الأستاذ ببساطة قائلا: «أكتب اسمى.. فأنا الآن أتعلم الكتابة». عندئذ ضحكنا جميعا، بينما إجابة الأستاذ كانت حقيقية تماما !
وثمة ملاحظة صغيرة على هذا الوصف الدقيق لمعركة تعلم الكتابة التى خاضها الأستاذ بإرادة حديدية، على مدى سنوات عدة، إذ إن الأستاذ لا يرى بوضوح ما يخطه بقلمه، فهو يحارب فى معركة متواصلة دون أن يرى ما حققه من انتصار مبهر ! ثم فى النهاية عاد إلى كتابة القصص القصيرة، قبل كتابة الأحلام، وكانت أول قصصه بعنوان «الأغانى» إذ كان يحكى من خلالها عن مراحل تطور حياة الإنسان من خلال مجموعة من الأغانى، أغانى الطفولة واللعب، ثم أغانى الصبى والمراهقة، ثم أغانى الشباب والحب، ثم أغانى الكهولة والتأمل، حتى تنتهى بأغانى الشيخوخة وأنغام الرحيل ! وبعدها كتب عدد قليل من أجمل القصص القصيرة، ثم بدأ الأستاذ فى كتابة عمله الفريد «أحلام فترة النقاهة».
(وللأسف الشديد نشرت هذه الأحلام فى مجلة «نصف الدنيا» بأخطاء مطبعية كثيرة، مما اضطرنى إلى كتابة مقال بأخبار الأدب عن هذه الأخطاء الفادحة!)
•••
وقد استمر الأستاذ فى كتابة «الأحلام» بقلمه حتى مررت عليه يوما لنذهب معا إلى ندوته، وبمجرد ما جلس إلى جوارى فى السيارة، قال لى: اليوم حدث أمر مؤسف للغاية، فتساءلت: ماذا حدث؟ فقال إن سناء البيسى أعادت له ثلاثة أحلام، لأنهم لم يتمكنوا من قراءتها ! (وقد نشرت هذه الأحلام بعد ذلك فى مجلة نصف الدنيا تحت أرقام 124 و125 و126).
ومن ثم قرر الأستاذ أن يملى الأحلام، بعد أن يكتبها ويحفظها فى ذهنه، فبمجرد ما يستيقظ من نومه مباشرة، يتذكر الأحلام، وينظر فيها، فإذا وجد فيها ما يصلح للمعالجة الفنية، يبدأ فى معالجته بطريقة أدبية تضفى عليه معانى وأفكارا، وظلالا وأصداء، ثم يشكل الحلم، كلمة كلمة، وجملة جملة، حتى يكتمل تماما فى ذهنه، ويظل يردده وهو جالس وحده، حتى يحفظه، وبعدها يبدأ فى حلم جديد ! وهكذا حتى تتجمع فى ذهنه ثلاثة أحلام أو أكثر فيمليها معا على الحاج صبرى السيد .
وقد تعرض الحاج صبرى لوعكة صحية، فعرضت على الأستاذ أن يملى علينا الأحلام التى يحفظها فى ذهنه، حتى يتفرغ للأحلام الجديدة. فوافق وأخذ يملى بهدوء وبساطة، وكأنه يقرأ من كتاب، بلا إعادة، ولا تردد، ولا تغيير فى كلمة ! اثنى عشر حلما معا، أملاها علينا دفعة واحدة، فكيف كان يحتفظ بها جميعا فى ذهنه ؟! (كتبتها منبهرا، كما كتبها أيضا الصديق العزيز الدكتور حسين حمودة).
هذه قدرة أكثر من مدهشة، ومقدرة فائقة أن يظل – وهو فى هذه السن محتفظا بكل هذه النصوص معا، دون أن تختلط بعضها مع بعض، ودون أن يصلح فى تركيب عبارة واحدة، ولا يغير كلمة واحدة!
•••
ومرحلة كتابة الأحلام هذه هى آخر مراحل محفوظ الفنية، وأطولها عمرا، فقد امتدت إلى أكثر من عقد كامل من الزمان. فهل لنا أن نتأمل مليا فى الإجابة عن سؤال وجه إلى الأستاذ كثيرا، وهو: لماذا لجأت إلى هذا الشكل الأدبى ؟! ويمكن أن نلخص إجابته فى ثلاث نقاط:
• ضعف الحواس التى كانت تمده بدقائق الواقع وتفاصيله.
• ساعات الوحدة الطويلة – لعدم القدرة على القراءة ونقص ساعات النوم التى دفعته إلى التأمل أكثر من ذى قبل فى عالمه الداخلى .
• ثراء عالم الأحلام كمادة طيعة لم يسبق له أن استخدمها بمثل هذه الطريقة فى كل إبداعاته السابقة.
بالإضافة إلى أن هذا الشكل الفنى يمتاز بانفتاحه على عوالم الداخل والخارج، الشخصى والعام، الذاتى والموضوعى، الواقعى والغرائبى، كما أنه يسر للمبدع طاقة سحرية تصله بعالم الأموات (الغيب) الذى يتأمل فيه كثيرا، ولا يبعده أيضا عن عالم الأحياء (الواقع) الذى يفكر فيه طويلا!
وثمة تجارب روحية، وخبرات صوفية (ميتافيزيقية) تتخلق بداخله من سنوات طويلة جدا، ثم تتوهج وتتألق فى ذروة عمر مبدع عبقرى ذى وعى حاد وبصيرة ثاقبة، وهذه الرؤية المتجاوزة للواقع المألوف تبحث لنفسها عن وسيلة أدبية مناسبة للخروج من أسر عالم مادى (فيزيقى) محدود !
وهذا الشكل الفنى المنفتح على المطلق يسمح للخيال الخصب بالانطلاق بلا حدود، بما يلائم طبيعة موهبته الخلاقة، والمتدفقة كشلال هادر حتى نهاية عمره المثمر .
وقد أجاب الأستاذ عن سؤال من أحدهم: وماذا بعد الأحلام ؟! بقوله: «لما تبقى تنتهى الأول!» فالأحلام تتوالى بلا توقف، ومعالجاته الفنية تهذبها وتحورها وتشكلها كما يشاء، وأحيانا يلقى بأحلامه سريعا إذا لم تعجبه، ويبحث بدقة ومثابرة ووعى عن غيرها !
وبعد أن وصلت الأحلام إلى عدة مئات، مما يستحيل تذكرها جميعا، وبخاصة أن لها صفات الرؤيا فى سرعة نسيانها! سألته: ألا تخشى من تكرار كتابة حلم واحد أكثر من مرة ؟! وقد فوجئت برده القاطع: لا !
فالحكمة لا تكرر ذاتها، وهذه النصوص الشعرية، ما هى – فيما أرى – إلا قطرات من الحكمة المصفاة بيد فنان عبقرى ذاق فعرف، ثم أبدع فأوجز الحقيقة كلها فى كلمات قليلة جدا !
•••
وبعد رحيل أستاذنا الحبيب فى 30 اغسطس 2006، نشرت مجلة «نصف الدنيا»، فى ديسمبر 2006، ثلاثة أحلام جديدة للأستاذ نجيب محفوظ.
فكما سبق وكتبت من قبل، أننى سألت أستاذنا قبل رحيله بنحو شهرين أو ثلاثة، سألته عن عدد الأحلام التى لم تنشر بعد، فقال لى إنها كثيرة، إذ لم يكن يعرف عددها بالضبط، ولكنه أكد لى أنها مئات من الأحلام المكتوبة، ومن ثم فقد تحدثت، بعد رحيله، مرات عدة، فى أكثر من مناسبة، وفى أكثر من محطة تليفزيونية، عن هذه الأحلام غير المنشورة، فهى «ثروة ثمينة» بالنسبة للأدب العربى والعالمى، كما كتبت عددا من المقالات، فى أكثر من مطبوعة، عن هذه الأحلام التى ينتظرها بلهفة كل عاشق لإبداعات فن الكتابة القصصية.
ففى العدد الأول من «دورية نجيب محفوظ» الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة، فى ديسمبر 2008، كتبت ما يلى: «ومازالت مئات من نصوص أحلام فترة النقاهة لم تنشر حتى الآن !»، وفى 16 نوفمبر 2011، كتب موقع «الأقباط متحدون» فى مانشت «د. زكى سالم: هناك ما يقرب من 300 قصة لنجيب محفوظ لم تر النور..»، وفى 14 ديسمبر 2013 كتبت مقالا بصحيفة الأهرام تحت عنوان «نجيب محفوظ.. وأحلام فترة النقاهة»، جاء فيه: «أناشد أسرته الكريمة، أن تبحث فى أوراقه، وستجد مئات من أحلامه البديعة، التى تعد ثروة أدبية، يجب أن تخرج إلى النور، لتكتمل فصوص هذه الجواهر الثمينة، تتويجا لأعمال محفوظ الخالدة».
وفى كتابى «نجيب محفوظ.. صداقة ممتدة» الصادر عن دار الهلال، فى ديسمبر 2014، كتبت ما يلى: « ومازالت مئات من نصوص أحلام فترة النقاهة لم تنشر حتى الآن ! وعند صدورها جميعا، وضمها إلى ما سبق نشره، سيتجلى – لمن لم يدرك بعد – مدى عظمة هذه النصوص المراوغة، وستظهر أهمية هذه المرحلة الفنية الأخيرة بين مختلف مراحله الإبداعية المتواصلة عبر ثمانية عقود من الإبداع الجميل لأستاذنا العظيم نجيب محفوظ».
•••
وحين اتصل بى المهندس إبراهيم المعلم، حدثته عن هذه الأحلام التى لم تنشر، قبل أن أسمع منه إنها وصلت إليه، وقد طلب منى الاطلاع عليها، وما أن رأيتها حتى قلت له: هذه أحلام نجيب محفوظ بنسبة مائة فى المائة، ومن ثم فى 6 أغسطس 2015، كتبت على «الفيس بوك»: «أخيرا.. وبعد تسع سنوات.. تم الوصول إلى (الكنز).. مئات من أحلام فترة النقاهة.. لأستاذنا العظيم نجيب محفوظ.. والتى لم تنشر من قبل.. وهذه ثروة أدبية.. لا تقدر بمال.. وستنشر قريبا.. بإذن الله.. وهكذا تكتمل قمة إبداعات فن القص...».
لكن من المدهش حقا أن ثمة من خرج علينا ليشكك فى صحة نسب هذه الأحلام إلى أستاذنا العظيم ! وهذا كلام فى غاية التهافت، فمن هذا الذى يستطيع أن يكتب مثل نجيب محفوظ ؟!
مع ملاحظة أن هناك من لا يدركون عظمة هذا الفن القصصى الرفيع، ولتتضح أمامك هذه الحقيقة – يا صديقى العزيز – عليك أن تتذكر، مع الفارق طبعا، ما كان يحدث حين يجلس بعض العرب الأجلاف مع نبينا الأكرم، عليه أفضل الصلاة والسلام، فيستمعون إليه، ثم يتساءلون بمنتهى الحماقة: ماذا قال آنفا ؟!
«ومنْهم من يسْتمع إليْك حتىٰ إذا خرجوا منْ عندك قالوا للذين أوتوا الْعلْم ماذا قال آنفا ۚ أولٰئك الذين طبع الله علىٰ قلوبهمْ واتبعوا أهْواءهمْ ». (سورة محمد آية 16 ) .
ولنكمل فى مقال قادم، إن شاء الله، الحديث عن تحفة الأدب العربى «أحلام فترة النقاهة» لأستاذنا العظيم نجيب محفوظ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.