عرف عهد الخديوي إسماعيل العظمة والبؤس في مجالي السياسة والاجتماع، فمنذ اعتلاء إسماعيل عرش مصر عام 1863 وحتى الاحتفال المهيب بافتتاح قناة السويس سنة 1869، كان هو الذي يملك ناصية الأمور في البلاد، وظهرت مصر بمظهر الدولة العظيمة، فكانت هذه الفترة هي الفترة المضيئة في عهده. ثم بدأت فترة الإخفاقات السياسية والمالية والارتباك الإداري والاجتماعي، والتي أدت إلى التدخل الأوروبى في شؤون مصر الداخلية ودفع بالبلاد إلى الهاوية، كما ذكر محمد صبري في مؤلفه الهام «الامبراطورية المصرية في عهد إسماعيل». أمعن الكاتب محفوظ عبد الرحمن في وصف مشاهد من حياة أفندينا، وله مسلسل شهير يتناول فترة هامة من حكم الخديوي إسماعيل، وهو «بوابة الحلواني»، ونجد به من الأمانة التاريخية ما لم نجد في أعمال أخرى تعاملت مع التاريخ باستخفاف. • 22 أبريل 1879 أصدر خديوي مصر مرسوما بتسوية الديون، مبنيا على الروح الوطنية ساعده في ذلك رئيس مجلس نظاره شريف باشا، وقد بلغت هذه الروح ذروتها في أزاحة الوزير البريطاني والفرنسي المفروضين من أوروبا عن مجلس النظار. ومن هنا اشتعلت أوروبا كلها ضد خديوي مصر وبدأت الاحتجاجات وكان أولها من ألمانيا بقيادة بسمارك الذي يبحث لنفسه عن دورا عالميا، ومن بعده توالت الاحتجاجات من النمسا والمجر وإنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا. وبدا وكأن أوروبا أعلنت الحرب على مصر، بدأت بالضغط على إسماعيل ليتنازل عن العرش ولكنه أكمل معركته للنهاية وأكد أن الأمر كله بيد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (عدوه)، وكان إسماعيل يظن أن على السلطان الحفاظ على هيبته أمام أوروبا ولكن السلطان أصدر فرمان العزل. • 26 يونيو 1879 أصدر السلطان العثماني فرمان بعزل الخديوي إسماعيل عن حكم مصر وتولية ابنه الأكبر محمد توفيق باشا بدلا منه. وفي 24 يونيو 1879 علم سفراء وقناصل الدول الأوروبية بفرمان العزل فبلغت بهما الجلافة الحد إلى الذهاب لقصر عابدين لإخبار الخديوي بالأمر. • وصول الفرمان جاءت البرقية صباح 26 يونيو واستقبلها زكي باشا التشرفاتي، فأراد التخلص منها وأعطاها لأحمد باشا خيري المهردار وهو أقرب المقربين للخديوي ولكنه استهول الأمر، فوضعت الصدفة شريف باشا رئيس مجلس النظار لتقديم البرقية للخديوي، فرأى شريف باشا أن واجبه الوطني يحتم عليه إبلاغ الخديوي فصعد للدور الثاني لقصر عابدين، وبدا إسماعيل هادئا لأنه كان يتوقع الأمر، فأمر شريف باشا بالذهاب إلى سراي الإسماعيليه ليدعو الخديوي الجديد. • الأب والابن كان توفيق باشا قد تلقى برقية مماثلة، فاصطحب توفيق شريف باشا عند وصوله إلى قصر عابدين ولكنه صعد وحده إلى أبيه. وهنا نادى إسماعيل ابنه توفيق: "أفندينا". ويقال -وهذا أمر مستبعد- إن إسماعيل قبل يد ابنه توفيق حاكمه الجديد. لم يكن الخديوي إسماعيل يعلم أن الأرض ضاقت عليه لهذا الحد حيث منع السلطان العثماني تواجده في الأراضي العثمانية، ورفضت معظم الدول الأوروبية دعوته للإقامه بها عدا أسرة عمانويل، حيث رحب فيكتور عمانويل ملك إيطاليا بدعوة إسماعيل للإقامه بها حيث كانت علاقتهما جيدة منذ زمن. • 30 يونيو 1879 خرج الخديوي المعزول مع الخديوي توفيق لمحطة القطار متجها من القاهرة إلى الإسكندرية، وقد خرج إسماعيل في موكبه الملكي محاطا بالفرسان والموسيقى والشعب أيضا الذي خرج لتوديعه - ليس من عادة الشعوب توديع حكامها المهزومين ولكن مع إسماعيل الأمر مختلف فحظى بشعبية كبيرة عند خروجه من مصر وبوداع أدهش الجميع. وفي المحطة، عانق إسماعيل ابنه لآخر مرة، وعاش بعدها في نابولي أسوأ فترات حياته إذ ظل يلح على السلطان العثماني السماح له بالإقامه في اسطنبول إلى أن أدرك السلطان أن بقاء إسماعيل بجواره أفضل من أن يظل بعيدا عنه. • 7 يناير 1892 توفى الخديوي توفيق وتولى ابنه عباس حلمي الثاني وهو دون سن الرشد حكم مصر. وفي يوليو 1893 أعلن الخديوي الجديد ذهابه إلى الأستانة لشكر السلطان العثماني على الموافقة على توليه حكم مصر. وقد ذهب عباس في ثلاث سفن هي «الفيوم»و«الشرقية»و«القاهرة»، وكانت هذه الزيارة هي الأولى لحاكم مصر منذ آخر زيارة قام بها الخديوي إسماعيل. وقد استعد لاستقبال حفيده فاستقل زورقا لملاقاته. • الجد والحفيد ها هي الأيام تتوالى على إسماعيل لملاقاة حفيده لتطفئ نار شوقه لمصر. وحول هذا اللقاء يقال إن الخديوي عباس انزلقت قدماه فسنده جده إسماعيل في مشهد مؤثر وبعدها حاول عباس تقبيل يد جده ولكن إسماعيل لم يمكنه من ذلك. وفي هذه الزيارة طلب إسماعيل من الخديوي عباس السماح له بالإقامه في مصر ولكنه أرجى الأمر للعرض على مجلس النظار الذي رفض بشده، ويقال إن وراء الرفض نوبار باشا، ويرجع البعض سبب الرفض إلى عباس نفسه خوفا من الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها إسماعيل. • يناير 1895 أمر الخديوي عباس عميه الأمير أحمد فؤاد والأمير محمود حمدي بالذهاب إلى اسطنبول للاطمئنان على إسماعيل بعد علمه بمرضه، وفي هذه الزيارة طلب إسماعيل من ولديه أن يدفن في مصر، وعندما علم عباس بذلك جهز لجده مقبرة بجامع الرفاعي. وقد توفى الخديوي إسماعيل في 2 مارس 1895. وعندما عاد جثمانه إلى مصر استقبله شعبه بحرارة فاقت وداعه لتنطلق يومها مقولة «الحاكم الذي أفقر البلاد وأسعد العباد». وقد حكم إسماعيل مصر 16 عاما وبقى في المنفى حتى وفاته 16 سنة أيضا. ولا يحضرنا هنا إلا كلمات قليلة تنسب لإسماعيل أو نسبها أحد الكتاب إليه، وهي كلمات قالها لابنته في أواخر أيامه: "إني أخاف من الزمن وأخاف يوما أن يقال أنني بعت البلد يا أيها الوطن الذي أحببته دوما وأعطاني الكثير ما بعت فيك الغد إني حلمت بأن أري مصر الحبيبة دائما فوق الجميع أخطأت في حلمي ولكن لا تقولوا باعها ليس الخديوي من يبيع ليس الخديوي يا ابنتي إن قال بعض الناس يوما أنني أخطأت أو أجرمت قولي لم يكن أبتي نبيا قد كان يخطأ مثل كل الحالمين من البشر"