المتغيرات المكانية بالشرقية تفحص 546 طلبا لاستخراج شهادات بيانات    "مفارقة تاريخية".. ريال مدريد يفوز بدوري الأبطال الأهلي يخسر اللقب الأفريقي    إلغاء امتحان طالبة إعدادي بعد تصويرها ورقة الأسئلة في بني سويف    بعد قرار سحبه من أسواقها| بيان مهم للحكومة المغربية بشأن لقاح أسترازينيكا    مقابل إلغاء سياسات بيئية.. ترامب يطلب تمويلا من الشركات النفطية    تخصيص وسائل تواصل لتلقي استفسارات المصريين بالخارج بشأن تسوية التجنيد    اتجاه للموافقة على تتويج الهلال بالدوري في ملعب المملكة أرينا    سعود بن مشعل يزف 21 ألف خريجٍ من جامعة أمِّ القرى إلى الميدان    بالصور- يسرا وأحمد عز وإلهام شاهين مع كريم عبد العزيز في جنازة والدته    بعد رحيله.. من هو الشيخ هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان؟    «الدفاع الشعبي» تنظم عددًا من الندوات والزيارات الميدانية للمشروعات التنموية    انعقاد برنامج البناء الثقافي بمديرية أوقاف البحيرة    على معلول يحسم مصير بلعيد وعطية الله في الأهلي (خاص)    انطلاق مبادرة المشروع القومي لرفع اللياقة البدنية لطلاب المدارس في قنا    قائمة مواعيد قطارات مرسى مطروح.. بمناسبة فصل الصيف 2024    سلوفينيا تعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في 13 يونيو المقبل    لمواليد برج القوس والأسد والحمل.. توقعات الأسبوع الثاني من مايو لأصحاب الأبراج النارية    وسائل الرزق في القرآن .. يوضحها عالم أزهري    فصائل عراقية مسلحة تستهدف قاعدة نيفاتيم الإسرائيلية بالمسيّرات    وزير الصحة: المدينة الطبية ل"المستشفيات التعليمية" نقلة نوعية في القطاع الطبي    وزير النقل يعلن عن تجربة التاكسي الطائر في موسم حج هذا العام    رئيس هيئة المعارض يفتتح معرض الأثاث والديكور بمركز القاهرة للمؤتمرات    نشرة «المصرى اليوم» من الإسكندرية: تأجيل محاكمة المتهمين بأحداث سيدي براني وسموحة يصطدم ب«زد»    وزير الاتصالات يفتتح المقر الجديد لشركة «أرتشر» الأمريكية في مصر    تنبيه مهم من «الإسكان الاجتماعي» بشأن تأخر دفع الأقساط للوحدات السكنية    تنفيذ 4 قوافل طبية للقرى الأكثر احتياجا في الدقهلية    عضو تضامن النواب تثمن دور القومي للمرأة في استقلالية إدارة المنح والمساعدات    بعد ظهورها مع إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز تعلق على تصدرها للتريند في 6 دول عربية    حزب حماة وطن يكرم الآلاف من حفظة القرآن الكريم في كفر الشيخ    بنك ناصر يرعى المؤتمر العلمي الدولي ال29 لكلية الإعلام بجامعة القاهرة    نيكول سابا تكشف عن موعد أغنيتها الجديدة "خلصت خلاص"    استفز لاعبي الأهلي | نص مرافعة دفاع حسين الشحات في قضية الشيبي    محافظ الغربية يوجه بتسريع وتيرة العمل في المشروعات الجارية ومراعاة معايير الجودة    بعد أسبوع حافل.. قصور الثقافة تختتم الملتقى 16 لشباب «أهل مصر» بدمياط    حكم هدي التمتع إذا خرج الحاج من مكة بعد انتهاء مناسك العمرة    وفد صحة الشيوخ يتفقد عددا من المستشفيات ووحدات الإسعاف وطب الأسرة بالأقصر    وزيرة التضامن تشهد انطلاق الدورة الثانية في الجوانب القانونية لأعمال الضبطية القضائية    "العمل": تحرير عقود توظيف لذوي الهمم بأحد أكبر مستشفيات الإسكندرية - صور    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية فساد التموين ل 8 يوليو    البيتي بيتي 2 .. طرد كريم محمود عبد العزيز وزوجته من الفيلا    21 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الإتجار بالعملة خلال 24 ساعة    السيسي يستقبل رئيس وزراء الأردن    برلماني: توجيهات الرئيس بشأن مشروعات التوسع الزراعى تحقق الأمن الغذائي للبلاد    ما حكم قطع صلة الرحم بسبب الأذى؟.. «الإفتاء» تُجيب    لليوم الرابع على التوالي.. إغلاق معبر كرم أبو سالم أمام المساعدات لغزة    مستشفى العباسية.. قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة جانيت مدينة نصر    القبض على المتهمين بغسيل أموال ب 20 مليون جنيه    إيرادات فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة" بعد 4 أسابيع من طرحه بالسينمات    اكتشفوه في الصرف الصحي.. FLiRT متحور جديد من كورونا يثير مخاوف العالم| هذه أعراضه    دفاع حسين الشحات يطالب بوقف دعوى اتهامه بالتعدي على الشيبي    اليوم.. وزير الشباب والرياضة يحل ضيفًا على «بوابة أخبار اليوم»    جهاد جريشة يطمئن الزمالك بشأن حكام نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    دعاء الامتحانات مستجاب ومستحب.. «رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري»    معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية يسجل 31.8% في أبريل الماضي    الدفاع المدني اللبناني: 4 قتلى في غارة إسرائيلية على سيارة جنوب البلاد    موعد مباراة الإسماعيلي والداخلية اليوم الخميس بالدوري    طقس اليوم: شديد الحرارة على القاهرة الكبرى نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالعاصمة 36    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل برجل لبرتولد بريشت: هندسة عاطفية لاكتشاف جوهر الإنسان
نشر في الشروق الجديد يوم 28 - 02 - 2014

تعد مسرحية "رجل برجل" للكاتب الألماني برتولد بريشت، والتي نُشرت عام 1927، نوعاً من التنبؤ والاستشراف للاضطراب الوجودي الذي عانى منه بريشت فيما بعد. الكاتب يثير الإعجاب في طريقته لسبر أغوار الذات الإنسانية.
عندما سُئِلَ بريشت في عام 1926: ماذا تكتب الآن؟ أجاب: مسرحية كوميدية، بعنوان "رجل برجل"، حيث يجري فيها تفكيك للإنسان، الذي يعاد تجميعه وتركيبه من جديد في جلد شخص آخر. ومن الذي يقوم بهذه العملية؟ أجاب: ثلاثة مهندسين عاطفيين. وهل التجربة تعتبر ناجحة؟ أجاب: نعم، من أجل إرضاء الجميع. وهل يولد، من جراء هذه العملية، إنسان مثالي؟ أجاب: لا، ليس بشكل خاص.
تتحدث قصة هذه المسرحية، عن رجل يدعى "كالي كاي"، يخرج في أحد الأيام من بيته لكي يشتري سمكا، فتلتقيه دورية عسكرية، فقدت احد أفرادها الأربعة، ويجب عليها أن تعثر على شخص آخر يحل مكانه، بسرعة فائقة، لتتجنب ثورة وغضب الرقيب "فيرتشايلد"، الرهيب. إن "كالي كاي"، رجل لا يعرف أن يقول لا، لأحد. ليس لأنه رجل ضعيف كما يمكن أن نعتقد، بل على العكس، انه الأقوى، ويصبح كذلك بالفعل، بدءا من اللحظة التي ينصهر فيها بالكتلة العسكرية، ويكف عن أن يكون شخصاً له ذاته الخاصة. كالي كاي، يتبع الجنود الثلاثة، وشيئاً فشيئاً، يتكيف مع الملابس، ويتبنى المواقف، والأفكار التي يجب أن يمتلكها المحارب في حالة الحرب. وهكذا يتم تفكيكه وتجميعه وتركيبه مثل سيارة جديدة، لكي يتأقلم مع مجريات الأمور في العالم، وليصبح، في النهاية المطاف، محارباً قوياً يبعث على الخوف. إن الجيش في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان يريد عصراً تتكاثر فيه الكائنات الخالية من الجوهر، الهجينة، والقابلة للتغيير، والتي تكون كتلة صلبة في الآلة الاقتصادية والصناعية والعسكرية العظمى.
لدى برشت، كما هو الحال دائماً، شخصيات كثيرة، ومتنوعة، مصائرهم متداخلة باستمرار في جو مرح المتاهة. نعثر في هذه الكوميدية التهريجية على بدايات الأسئلة الكامنة في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية"، لبريشت. ما الذي يحدد هويتنا؟ الولادة أم التربية؟ وحتى إذا جردنا الإنسان عن اسمه، فهل يصبح شخصا آخر؟ هناك الكثير من الأفكار والتأملات التي قام بها وجربها بريشت على المسكين "كالي كاي" في مسرحيته.
مشهد من مسرحية "رجل برجل"
ولكن خلافا لكل المظاهر، لعل هذا الأخير، ليس مجرد ضحية بريئة. ففي مجتمع يسيطر عليه الوهم، "كالي كاي" وحده الوحيد القادر على اختيار تحوله. يحاول بريشت أن يقول لنا هنا، بأننا كثرة، ويجب علينا أن نهيئ أنفسنا، ونستوعب هذا التغيير في حالة دائمة ونهائية. إن موضوع المسرحية يتحدث عن عملية تجريد الفرد من شخصيته لصالح المجتمع الذي يستخدمه من دون هاجس.
ولكن، نحن لا نعرف فيما إذا كان "كالي كاي" قد فقد نفسه وروحه حقاً، عندما اخذ مظهر جندي متعجرف، أم لا ؟ ولكن هذا السؤال يمكن طرحه على رجل المجتمع، والرجل العادي اللذان اجتمعا هنا في هذه المحاكاة الساخرة للشرط الإنساني، المكتوبة بلهجة قاسية تؤكد على أكثر الحالات بشاعة. تتحدث المسرحية، عن دوار الهوية الذي يغرق الحبكة في دوامة من التهور، والتراجيدية، والكوميدية؛ عن إزالة هوية رجل، ووضعها في جلد نسخة أخرى أكثر ترتيباً ربما. إنها، أي المسرحية، تضع الفرد أمام الهاوية مباشرة، وعندما نقرأ حكايتها نصاب بنفس الدوار الذي أصاب صاحبنا "كالي كاي"، عندما كان أمام نعشه الخاص:
وإذا كنت خيالا؟ وإذا كان الرجل، ليس إلا صفحة بيضاء فارغة، نستطيع في أوقات الفراغ، محو هويته ورسم شخصية جديدة؟ فتجيبه الأرملة بغيبك: لا تتعب نفسك بذكر اسمك، ما الفائدة؟ طالما أنك تقصد به دائما شخصا آخر؟
ماذا يبقى من الإنسان عندما نجرده من تاريخه، وعائلته، بل وحتى من اسمه؟ كالي كاي: إذن، بإمكاني أن أصبح شخصا آخر، وهكذا يصبح ‘كالي كاي'، الجندي ‘جرايا جيب'، كلباً من كلاب الحرب.
أن تكون، يعني أن تصبح. وبصرف النظر عن حركة الكينونة هذه، أو بعيداً عنها، لم يعد فعل التحول، إلا ضرب من الخيال فحسب. علينا مراقبة هذا الذي يبقى من الإنسان عندما يتم تجريده عن هويته. هل سيستسلم إلى شهواته كليا، مثلما حصل لصاحبنا "كالي كاي"؟ ثم، هل أن ما حصل له بسبب مكائد ثلاثة جنود مكلفين بمهمة حقيرة، حقاً؟ جزئياً نعم. ولكن بريشت نفسه يثير انتباهنا إلى أن "كالي كاي" هو دهشتنا الكبرى، وعالمنا المعاصر، إنه يدافع عن نفسه من خلال جعل قضيته تأخذ شكلاً مأساوياً، ويربح، في نهاية المطاف، نتيجة لتداخل المواد في جوهر روحه، بدليل أنه بمجرد ما تنتهي عملية تغير اسمه وشخصه، يصرح بأنه في صحة جيدة. إذن، إننا لسنا أمام مسرحية تتحدث عن عملية غسل الدماغ. لأن "كالي كاي"، الوحيد الذي يبادر في عدم الرد، على اسمه، ولم يعد يتعرف عليه.
كالي كاي: من هذا الذي يحضرونه؟
بغبيك: شخص اعدم في اللحظة الأخيرة.
كالي كاي: ما اسمه؟
بغبيك: إذا لم تخني ذاكرتي فاسمه كالي كاي.
كالي كاي: وماذا سيجري له؟
بغبيك: لمن؟
كالي كاي: لكالي كاي هذا.
بغبيك: سيدفنونه الآن.
كالي كاي: هل كان إنساناً طيباً أم شريراً؟
بغبيك: كان رجلاً خطيراً.
بريشت مع زوجته هيلينه هاسغل أمام فرقة المسرح البرليني
هناك سر عميق، هو أننا لم نصنع من تراكب حالاتنا المتعاقبة، مثلما يفكر مارسيل بروست؟ كائنات تنزع نفسها باستمرار، مثل الأفاعي، وتنظر إلى جلودها القديمة دون الاعتراف بها؟ لقد كان برشت أكثر وضوحا من بروست، عندما قال: "الذات المستمرة هي خرافة". الإنسان يتخلى عن قناعه الخاص من أجل أن يصنع له، على الفور، واحداً آخر. ومن هوية إلى أخرى، ومن حزن إلى ثان يرسم الإنسان مساره، وحركته، وأثره. مثل قلم الرصاص في الرسم اليدوي، حيث يأخذ القلم، في كل لحظة، اتجاهاً مختلفاً، ويرسم شيئاً مختلفاً عن الشكل الأول. وكلما يتردد القلم في اليد، ينفتح عالم ممكن، نحو الأفضل أو الأسوأ. وفي الفترة الفاصلة بين القديم والجديد، تولد الوحوش.
لقد نشرت مسرحية "رجل برجل" في عام 1927، أي في الوقت الذي عرفت أعمال هذا المؤلف البافاري الذي يدعى بريشت العظمة، والانحطاط مع صعود النازية. إذن، ألم تكن هذه المسرحية نوعاً من التنبؤ والاستشراف للاضطراب الوجودي الذي عانى منه بريشت فيما بعد؟ وربما لهذا السبب، قد قال عنها، في عام 1939: "إن مشكلة هذه المسرحية، هو الكذب الجماعي، والفرقة السيئة، والقوة الإغرائية". إن الكذب الجماعي، بمثابة تنديد بتأثير النظام النازي، الذي دفعه إلى المنفى، في السويد، وفنلندا، وكاليفورنيا في عام 1941. والفرقة السيئة، فرقته وانقطاعه عن والديه في عام 1918، والإعراب الصريح عن مرارته من أمريكا، التي طردته من أراضيها في عام 1947، ومن الحلفاء الذين لم يسمحوا له بالعودة إلى ألمانيا الغربية. أما القوة الإغرائية، فهي بصمة رجل مسرح يشار إليه دائماً من خلال أعماله، التي أكسبته إمكانية الاستقرار في برلين الشرقية، وتأسيس فرقة مسرح البرلين انسامبل، مع زوجته هيلين فايكل، الموجودة دائماً حتى وقتنا الحاضر.
ما الذي يصنع جوهر الإنسان؟ يحاول المخرج الفرنسي "كليمنت بواري" الإجابة على هذا السؤال الوجودي الذي وضعه بريشت على المسرح في شبابه، من خلال مسرحية "رجل برجل". ولكن، لكي يقص علينا المخرج "كليمنت بواري"، هذه الحكاية، اختار سينوغرافيا، على هيئة بناء معدني ضخم، وكأنه معمل لصنع القرطاسية أو مطبعة، على ما يبدو، مع لفات ضخمة من الورق. بحيث بدت هذه السينوغرافيا، وكأنها ليس لها أية علاقة مع حبكة المسرحية، ولكن عناصرها، سمحت شيئاً فشيئاً، بتشكيل مرة، معبدا بوذي، وأخرى، مطعما للجنود، أو قاطرة قطار.
وفي عمق المسرح، أبواب زجاجية كبيرة تفتح على التاريخ وتغلق على السرد. وقد ترك الإخراج مجالاً كبيراً إلى الكوميدية الجسدية، بحيث نعثر في المشاهد الأولى للمسرحية، على أجواء تذكرنا بالسينما الصامتة. وكان الممثلون يجسدون هذا النوع من اللعب ببراعة مدهشة، مستحضرين من خلاله شخصيات نمطية مشهورة جداً في عالم الفن. ولكن في نهاية المسرحية، أصبحت لهجة العرض أكثر جدية، واتخذت شكل الصرامة، واكتسب الروي فيه عمقاً، وذلك من خلال طرحه ضمنياً للسؤال التالي: هل أن الإنسان قابل للاستبدال؟ وأمام الضغط، يوافق "كالي كاي" على انتحال هوية أخرى، لأن ذلك أفضل دائماً من أن يطلق عليه الرصاص. إن مسرحية "رجل برجل"، تذكرنا من خلال نكاتها الهزلية الساخرة، بأن نفي الإنسان، يبدأ دائما بحيلة.
تبدو هذه المسرحية كما لو أنها وعاء يغلي على خشبة المسرح، مشاهد المسرحية أصلية، خيالية، واحتفالية، تلعب فيها شخصيات فاحشة بشكل خاص، مثل الرقيب تشارلز فيرتشيلد، الملقب بالخماسي الدموي، وصاحبة الحانة ليوكاديا بغبيك. ولقد استدعى الإخراج الخيال بحيوية كبيرة، وتوزيع للأدوار ملفت للنظر. إن ‘رجل برجل'، مسرحية غنية جدا، ويستحق اختراقها نوع من الصمت، ويجب علينا أن نعترف بأنها كما هي تعتبر مسرحية كثيفة جدا، وكثيرة الخصال، وإنها تطلب من مشاهدها نوعا من المسافة عند رؤيتها. ولقد أختار المخرج ‘كليمنت بواري'، أن يذهب نحو هذه المسرحية، مشيا على الأقدام، دون تشذيب، أو حذف أو تقصير من طول مسافتها. وربما كان الأجدر به أن يقلل قليلا من طولها، ويكثف من أحداثها أكثر فأكثر، كي لا يسمح لتسلل الضجر إلى بعض المشاهد. فالضجر شيطان ثقيل المعشر، ما أن يحل ضيفا على العرض مرة، حتى يصعب التخلص منه بسهولة، فهو يدعو المتفرج للكلام مع من بجانبه، ويسمح له بالتأفف، أو للالتفات يمنة ويسرة أحيانا، وهكذا دواليك. ولكن على الرغم من ذلك، فقد كان العرض على النحو الذي شاهدناه فيه، حدثا مدويا، وصدى حادا وقويا، ربما، لأن اللوحات التي اقتبسها بريشت من العصر الكولونيالي، لم تنتهي بعد من تحديها لنا. وربما أن المخرج أراد أن يجعلنا أمام أنفسنا من خلال استنطاقه لشريط الماضي القديم الذي مازال يمارس علينا تأثيره، لا سيما ان الاستعمار لم ينتهي بعد، حتى وان رحلت آلته الحربية وجيوشه المدججة، يبقى جاثما على الصدر مثل كابوس ليس له نهاية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.