وأفترض دوما أنه لو لم يسافر أستاذي الجليل سعد أردش إلي إيطاليا ولو لم يندمج أردش في الفكر السياسي ولو لم يدخل معركته ضد (الأساطين) للكفاح من أجل المسرح الحر ولو لم يعرف برشت وبسكاتور، فماذا سيكون دوره كأستاذ عظيم من أساتذة الإخراج والتمثيل والتخطيط العملي للمسرح. أولاً: أردش سليل مدرسة الأداء الأدبي العريق والجليل وامتداده الطبيعي من أستاذه زكي طليمات وهو ملق للشعر رائع وقادر علي أداء الأعمال الكلاسيكية القيمة بكل الاكتمال والجلال الموروث في مدرسته السابقة بقناعة وبحرفة فنية عالية الصوت عرف الصنعة والتدريب وتم ضبط الإيقاع والنغمات ومخارج الحروف والألفاظ علي يد المشايخ والمنغمين الأصلاء (تأثير لكل الجيل). وتحرك للمسرح الشعبي عندما قذف نفسه وجماعة المسرح الحر وسط الناس بنصوص مكتوبة من أجل الناس ومثل وأخرج وشارك وأشرف وأدار أعمالاً في ميلاد نعمان عاشور وأنور قزمان وأنور عبد الله وسعد وهبة وغيرهم وتحرك المسرح الواقعي بكل مشكلاته الإنسانية والإنتاجية وبكل قضاياه وخناقاته. وإذا بالعاصفة السياسية الكبيرة تحتويه فها هو يدرس في إيطاليا وها هو المسرح معه يتألق في أبعاد أخري، وها هو المسرح بشكله الكلي ينشرخ ما بين مسرح نعرفه ومسرح آخر يصنع فعلاً وتغييراً، إنه المسرح السياسي وليس المسرح السياسي الذي هو مجرد (وثيقة اعتراض أو تلسين) أو مجرد شوية قلة أدب ضد العصر البائد أو العصر الآبر. لكنه تحليل جديد لدور المسرح ولعلاقة الفنان بالعالم وعلاقة مؤسسات الثقافة والتعليم بالسياسة والتنمية والاقتصاد وعلاقة هذا كله بالنظم والأفكار والتيارات والاتجاهات العالمية المختلفة والمسرح أصبح مفترق الطرق فلا أداء العاصفة يعبر عنه ولا العقل البارد يفك شفراته ولا نقل الواقع ينقل صراعاته، إنه شيء آخر، إنه جدلية شديدة التركيب والتعقيد، إنه خطاب مسرحي مغاير، إنه حرفة رجل يعمل بالسياسة ويستخدم المسرح وسيلته للوصول للبشر، إنه فنان يركب صاروخاً قابلاً للانفجار براكبه وربما قبل الانطلاق أو لمجرد التفكير في ركوبه، الأمور محسوبة والمخاطرة دائماً موجودة، لا أزعم أنه لم يكن هناك مسرح سياسي أو (ملون بالسياسة) توفر مسرح يصف ويرصد المتغيرات السياسية الاجتماعية الواقعية ويذكر الجمهور بما يقع له من فخاخ، ولا يطلب جديداً فالمسرح شريحة من الحياة وكل عام وانتم بخير ويوفر مسرحاً آخر ( للتنفيث السياسي) مسموحاً له أن يصرخ من الظلم الشديد (قبل قيام الثورة أو من اناس لا وجود لهم) إنه مسرح للتحريض السياسي وتقليب المواجع ويدل علي ديمقراطية المسرح والثقافة وبس، وجاء أردش ضمن موجة جديدة من الكتاب (الواعين سياسياً) ومن المخرجين (المقتنعين) بدور جديد للمسرح، لكن أردش اصطحب معه مشكلة اسمها (برشت) نظرية صعبة لافتة للنظر، أثارت من النظريات والمطولات والمبالغات الفكرية ما جعل الناس لا يلتفتون إلي (حلاوة عروض برشت) وفي تصوري دائماً أن عروض برشت أو نصوصه (حلوة جميلة ومسلية وقادرة علي أن تحرض الفكر علي أن يعمل وألا يستسلم لموقف واحد عند المشاهدة، وأنه يحول المشاهد (المسطول) لمشاهد نصف مسطول ( علي أفضل تقدير) وكم كان مشاهدنا فاقداً للوعي تماماًَ وليس مجرد مسطول كجزء من الوقت ولأن الدور الصعب الذي يفرضه الفكر السياسي علي الفنان هو دور اسمه الالتزام الدائم، ولأن الالتزام كان موقفاً يمكن أحياناً الفكاك منه، فقد التزم البعض التزاماً لا فكاك منه في القناعات الفكرية والسياسية وحتي في الجماليات الفنية (وفلسع) منه الكثيرون عند أول بادرة من التيار المضاد، لكن أردش صمد في قناعاته الفكرية وامتد التزامه بمنهجه الفكري مخرجاً ومنظراً ومعلماً للمثلين والمخرجين أضاف سعد أردش إلي باقة معلمي التمثيل في مصر والعالم العربي، إضافة جادة لرصيد التمثيل العربي. فإلي جوار ( جماليات الممثل العربي صوتاً وأداء وغناء واحتراماً للغة وخصوصياتها) أضاف بحثاً أكثر هؤلاء صعوبة ويكمن الهول في صعوبة ما طالبنا به سعد أردش، وما كان يتعارض وبشدة مع المناهج التي سبقته أو التي تعاصره كان يطالبنا بكسر الأوهام في الأداء، حرق نغمات البكاء والسعادة وتحكيم العقل والعقل والعقل فقط. فيما سنقدم من فكر مع ( اقتصاد) في الانفعالات. أدخلنا سعد ونحن نحبو في منهج برشت المسرحي في وقت مبكر وحاول الرجل معنا وكان من السهل أن نتعلم منه ( إشعال فتيل الفكر قبل الصنعة اللامعة المدهشة) وحارب كثيراً (المحترفين) ليخلع أوهام الأداء الموروث ويزرع أداء عقلياً لامعاً موحياً لافتاًً للعقل، وعاد الرجل إلي خلطة جديدة تعلمناها منه وعلمها للكل وهو المخرج الجاد بين نضوج الفكر ولمعان الأداء وأجهد نفسه وأجهدنا في أمر جديد اسمه خلق الشخصية فلا هي عقل فقط ولا هي مشاعر فقط. إنه المزيج الهائل الصعب، إنها وصفة لعطار قديم يعرف سر الأعشاب فأردش ليس خواجة إيطالياً وليس أيدولوجياً يسارياً، إنه مصري عربي قادر علي أن يصنع فناً يقرأه المثقفون وفقراء الفلاحين في روما وباريس وفي دمياط وفارسكور، إنه واحد من النخبة التي لا أعرف لماذا لا يجود علينا الزمان بتكرارها. جايز قريباً جداً - فالإنسان لا يمكن أن يحيا بلا أمل.