قال محمود جبريل رئيس وزراء ليبيا السابق في حواره مع صحيفة «الحياة» اللندنية، إن الانحياز القطري إلى تيار الإسلام السياسي لم يكن ادعاء، مؤكدًا ان الثورة الليبية «مرت بمواقف كلها تصب في هذا الاتجاه». أوضح جبريل، أنه «منذ الأسابيع الأولى للثورة بدأت ترد بعض الأخبار عن أن هناك لقاءات يعقدها رئيس الأركان القطري مع شخصيات ليبية محسوبة على تيار الإسلام السياسي التي كانت في أفغانستان مثل عبد الحكيم بلحاج. وكانت تلك مراحل تشكيل جبهة قوية ضد نظام شرس، وكنا نرى أن كل القوى الوطنية الليبية بتياراتها المختلفة مدعوة الآن للوقوف في وجه هذا النظام». وقال: «بدأت بعض المواقف المنحازة إلى هذا التيار تتضح. ربما كان الموقف الأول قبل انتفاضة طرابلس بحوالي ثلاثة أيام في أغسطس، إذ كان متفقًا أن تتم الانتفاضة بداية من 14 يوليو بناء على طلب من الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي، وكنا شكلنا غرفة عمليات «انتفاضة عروس البحر»، وهو الاسم المشفّر لانتفاضة طرابلس، وهذه الغرفة كانت في جزيرة جربة التونسية، ثم انتقلت إلى مدينة الزنتان جبل نفوسة (الجبل الغربي). كانت البادرة الأولى عندما جاء وزير الدفاع الليبي جلال الدغيلي، وأحضر معه بلحاج وضابط استخبارات قطريًا ودخلوا إلى غرفة العمليات في جربة وحاولا تقديم بلحاج، على أنه هو مَنْ يقود عملية تحرير طرابلس أو عملية انتفاضة طرابلس. عبد المجيد المليقطة الذي كان يرأس غرفة عمليات تحرير طرابلس، أغلق الكمبيوتر المحمول وقال لهما: لا، أنا آخذ تعليماتي من رئيس المكتب التنفيذي محمود جبريل، ولم يسمح لهما بالاطلاع على تفاصيل العمليات». تكرر الأمر بعد أن اتفقنا على موعد 14 يوليو، وأن هناك أسلحة ستأتي من قطر بناء على طلب من فرنسا، ويدخل بها الثوار وينقلونها إلى طرابلس تمهيدًا لانتفاضة طرابلس. وصلت الأسلحة إلى بنغازي فعلاً، ثم اكتشفنا أن هذه الأسلحة سرّبها أحد العناصر في التيار الإسلامي من بنغازي، ونقلها إلى بلحاج في الجبل الغربي، بالتالي تعطلت عملية انتفاضة طرابلس. وحول تلقي أسلحة من السودان قال جبريل: «بعد تأجيل الانتفاضة في طرابلس سافرتُ إلى السودان مع أحمد المجبري وفوزي عبد العال، في محاولة لإحضار أسلحة وقابلنا الرئيس عمر البشير، ووزير الخارجية ورئيس الاستخبارات. وافق البشير على إعطائنا أسلحة وأبدى دعمه وأمر بتزويدنا بكل ما نطلب، ووصلت الأسلحة بعدها بحوالي عشرة أيام، لكننا اكتشفنا فيما بعد أن قطر هي التي دفعت فاتورة الأسلحة السودانية. الأسلحة دخلت عبر البحر بالقوارب المطاطية إلى بنغازي، إلى أن تمكنا من إيصالها إلى منطقة تقع شرق طرابلس اسمها القرابوللي، وكان أحمد المجبلي هو المسؤول عن إدخال هذه الأسلحة. ومن القرابوللي كانت تدخل بالسيارات إلى ضواحي طرابلس، القطريون كانوا على علم بانتفاضة طرابلس وأشركناهم وأطلعناهم على الخطة، وكذلك الإماراتيون والفرنسيون والبريطانيون. هذه الجهات الأربع كانت تعلم بخبايا تفاصيل خطة تحرير طرابلس». يوم تنفيذ العملية في 17 أغسطس، وكان من المفروض تنفيذ العملية في وقت أذان المغرب، وقت إفطار رمضان، اتصل بي رئيس الأركان القطري حوالى الساعة الثانية بعد الظهر ليخبرني أنه يرجو تأجيل العملية، لأن قيادة «ناتو» تقول إنها لا تستطيع قصف الأهداف التي كنا طلبنا قصفها داخل طرابلس، التي هي مراكز القيادة والسيطرة للنظام. كنا حددنا حوالى 28 هدفًا وأعطيت هذه الأهداف لقيادة «ناتو» لتقصفها قبل بدء الانتفاضة لكي نقلل الخسائر في المدنيين. وأبلغني أن مسؤولي «ناتو» يطلبون تأجيل العملية، لأنهم لن يتمكنوا من قصف تلك الأهداف خوفًا على المدنيين، واتفقنا أن تتم العملية يوم 20 أغسطس. في 20 أغسطس تكرر الموقف ذاته مرة أخرى من رئيس الأركان القطري، اتصل بي ظهرًا وقال لي: يا محمود، مرة ثانية ال«ناتو» يطلب التأجيل. قلت له استحالة، لا أستطيع أن أطلب التأجيل أكثر من ذلك، لأن الناس جاهزة وكلمة السر انتشرتن والاسم المشفّر للعملية هو «عروس البحر»، ورغم ذلك سأتصل وسأبلغ هذا الأمر. عندما اتصلت برئيس غرفة العمليات أغلق السماعة في وجهي، وفعلاً انطلقت الانتفاضة، وبفضل الله سبحانه وتعالى كُلِّلَت بالنجاح. عند دخولنا طرابلس اكتشفنا أن من بين الأهداف ال28 المحددة حوالى 24 هدفًا دمرت بالكامل. ويرى جبريل أن: «التحليل الوحيد أن قطر كانت تحاول شراء مزيد من الوقت ليتمكن بلحاج من أن يستجمع قوات كافية في الجبل ليدخل بها طرابلس، حتى يُعلن أنه هو مَنْ حرَّرها. رغم ذلك، في اليوم الثالث ظهر بلحاج في سيارة لاندكروزر ودخل باب العزيزية وأجرت معه قناة الجزيرة لقاء على أنه هو قائد ثوار ليبيا. كان للأمر وقع المفاجأة على ثوار الجبهات الأخرى، خصوصاً أنه في لحظة الإعلان تلك كان لديَّ موعد مع ولي عهد قطر. كنت في اليوم السابق زرت الأمير الشيخ حمد وطلبت منه أن يرعى حواراً بين الأطراف السياسية المختلفة وتيار الإسلام السياسي، وأن يجتمع مع عبد الرحمن شلقم ومحمود شمام وعلي الصلابي في محاولة للمّ الشمل، لأننا لا نريد للعملية السياسية بعد سقوط النظام أن تتعطل. أبدى موافقة على هذا الأمر، وقال لي إنه سيكلف ولي العهد الشيخ تميم، وفعلاً تحدث معه وأنا معه، وأبلغه بأن محمود سيمر عليك في الغد لتتفقا على كيفية إجراء هذا الأمر». معركة طرابلس كانت لا تزال مستمرة لليوم الثالث (23 أغسطس)، وتوجهت للقاء ولي العهد. درجت العادة سابقاً أن ألتقيه على ترّاس خارجي للفيلا، لكن ذلك اللقاء تحديدًا كان داخل قاعة فيها شاشة تليفزيون كبيرة. كنا جالسين وفجأة أثناء حديثي معه جاء الشيخ حمد بن ثامر، رئيس مجلس إدارة «الجزيرة»، وهمس في أذنه فوجدت ولي العهد التفت بالكامل إلى الشاشة وأهملني لحظة نقل «الجزيرة» دخولَ بلحاج باب العزيزية. انسحبتُ وخرجتُ من القاعة، واستقللت السيارة وغادرت .. وبدا أن الأمر كان مرتباً ومتوقعاً وأن ما هُمِس في أذنه كان أن «الجزيرة» الآن ستنقل في هذه اللحظة. عبدالجليل والزيارة «السرية» يقول جبريل «بعد التحرير مباشرة كنت أتحدث مع مصطفى عبدالجليل صباحاً من الدوحة، في أمر يخص فرانكو فراتيني، وزير خارجية إيطاليا، وأعتقد أنه كان يوم 25 أغسطس إذا لم تخنّي الذاكرة. قلت له إنني سأكلمه بعد ساعة بعد أن أتحدث مع فراتيني مجدداً. اتصلت به بعد حوالى ساعة، ووجدت هاتفه مغلقاً. فسألت علي البرغثي، مدير مكتبه، فقال لي: ألا تعرف أن مصطفى في طريقه إليكم في الدوحة، وهو في الطائرة حالياً؟! استغربتُ حقيقة أنني كنت أتحدث معه من ساعة فقط ولم يبلغني، ومن المفترض أنني رئيس وزرائه. أذكر أن محمود شمام عبدالرحمن شلقم كانا موجودين في الدوحة وأبلغتهما بالأمر. قلت لهما إنني محتار بين أمرين: بروتوكولياً من المفترض أن أكون في استقباله، ومن ناحية أخرى الرجل لم يبلغني بالزيارة ولا علم لي بها. عبدالرحمن ومحمود قالا لي إنهما لن يتوجها إلى المطار ولن يشاركا في الاستقبال. أنا بروتوكولياً كان من الواجب أن أظهر في الصورة حتى لا يُقال إن هناك انشقاقاً. لم يكن في علمي في ذلك الوقت أن سرّية الزيارة كانت مقصودة كي تحجب عني. توجهت إلى المطار فوجدت حمد العطية، رئيس الأركان، ووجدت عبدالرحمن العطية الذي كان مديراً للديوان الأميري في ذلك الوقت ووزيراً للطاقة سابقاً، في انتظار طائرة عبدالجليل. عند هبوط الطائرة خرجت معهما للاستقبال فنزل عبدالجليل وكان معه عبدالحكيم بلحاج ووزير الدفاع جلال الدغيلي الذي كان منحازاً إلى المشروع القطري ومشروع تيار الإسلام السياسي، وفوزي أبو كتف، وهو من قيادات التيار. فوجئ مصطفى بوجودي فصافحته وحاول تبرير الأمر بأنه توقع أن يكون القطريون أبلغوني بالزيارة، فقلت له: لا علاقة لي بالقطريين فأنا علاقتي بك وكنت أتكلم معك صباحاً ولم تخبرني. قال لي: لا مشكلة، اليوم ليلاً، بعد الإفطار عند سمو الأمير، سنتحدث ونوضح الصورة. قلت له: أي إفطار؟ أنا لم يوجّه إليَّ أحد دعوة إلى إفطار. القطريون يثقون بعبد الجليل ويضيف «أعتقد أن القطريين كانوا يثقون بمصطفى عبدالجليل أكثر من ثقتهم بي، أحسوا أنه متعاطف مع التيار الإسلامي، وهو كان أعلن أنه متعاطف مع الإخوان، وقال إنه لو قرر يوماً الانضمام إلى أي حزب، سينضم إلى حزب العدالة والبناء الذي يمثل الإخوان المسلمين، وهذا حقه واختياره. ولكن هو كان يقود ثورة (...) اكتشفنا في اليوم التالي أن هناك اجتماعاً دعت إليه قطر لرؤساء أركان دول «ناتو» في الدوحة وأن من المقصود ألا يحضر محمود جبريل هذا الاجتماع، باعتباري كنت أحضر اللقاءات السابقة في بروكسل. افتتح المؤتمر رئيس الأركان القطري، ثم أُعطيت الكلمة إلى عبدالحكيم بلحاج على أنه قائد ثوار ليبيا، وأنا لم أدعَ إلى ذلك الاجتماع، رغم وجودي في قطر. بلحاج قُدِّمَ إلى رؤساء أركان «ناتو» على أنه قائد ثوار ليبيا ليخطب في الحاضرين كقائد ثوار ليبيا. هذا اللقب كان غريباً، إذ لم يكن هناك مركز «قائد ثوار ليبيا». هذه كانت حادثة مهمة جداً». موقف آخر أكثر وضوحاً بعد دخول طرابلس، في 1 سبتمبر 2011، عُقد في باريس مؤتمر أصدقاء ليبيا. وفي مؤتمر صحفي بعد الاختتام، وكنا ديفيد كامرون ونيكولا ساركوزي والأمير حمد ومصطفى عبدالجليل وأنا على المنصة، سألني أحد الصحفيين: الآن سقط النظام، ماذا ستفعلون بهذه الأسلحة المنتشرة؟ فقلت له إن لدينا خطة لاستقرار طرابلس ولجمع الأسلحة وشرائها. فقاطعني أمير قطر أمام الجميع وقال: «الثوار لا يلقون السلاح أبداً، الثوار هم الذين لديهم الشرعية». وكان ذلك طبعاً موقفاً مُحرِجاً وغريباً. ثم دخلنا إلى غرفة الاجتماعات لجلسة منفصلة للوفدين الليبي والقطري، وكان من الجانب القطري: أمير قطر والشيخ حمد بن جاسم والشيخ خالد العطية الذي أصبح الآن وزيراً للخارجية، وسفيرهم في باريس. ومن الجانب الليبي كان حاضراً مصطفى عبدالجليل وأنا ومحمود شمام ومنصور سيف النصر. كنتُ وعدت بتقديم استقالتي فقال أمير قطر: «لا أنت يجب أن تستمر رئيساً لوزراء ليبيا، ولكن لا علاقة لك بالداخلية والجيش». فقلت له هل يوجد رئيس وزراء في الدنيا يكون غير مسؤول عن الأمن وسيادة البلاد، فهو رئيس الجهاز التنفيذي؟. قال: «لا، أنت رجل تخطيط وتنمية واستمر في التخطيط والتنمية». وحصل خلاف بيننا في هذا الأمر. عبدالجليل في ذلك الاجتماع لأول مرة يصرح بانحياز قطر إلى التيار الإسلامي، حيث قال لأمير قطر: «إنكم منحازون إلى التيار الإسلامي، وربما هذا يُحدث نوعاً من الانشقاق في الصف الوطني». اقترح الشيخ حمد، لحل الإشكال، أن يُشكَّل «مجلس أعلى للأمن القومي» برئاسة عبدالجليل وأكون أنا عضواً فيه ووزير الداخلية ووزير الدفاع. فقلت لهم إن هذا الأمر مرفوض تماماً بالنسبة إلى رئيس الوزراء الذي يجب أن يكون مسؤولاً تماماً عن الأمن. لقاء عاصف حول لقائه العاصف في نيويورك مع الشيخ حمد قال جبريل: «في 20 سبتمبر كان هناك لقاء في الأممالمتحدة، على هامش الجمعية العامة، وكنت موجوداً ضمن وفد ليبي ضم عبدالجليل وشلقم. أبلغني الشيخ حمد بن جاسم أن أمير قطر يريد أن يجلس معي ومع شلقم على انفراد لتسوية الأمور وتهدئة الخواطر. فباركت هذه الخطوة وطلبت من عبدالجليل أن يصحبنا، فقال: لا، أنا سألتقيه في اليوم التالي. ورفض أن يأتي معنا فذهبتُ أنا وعبدالرحمن الى مقر إقامة أمير قطر الخاص في مانهاتن. رحب بنا ترحيباً شديداً وفوجئتُ بالرجل يقبّلني على رأسي، وقال لي: لا أريدك أن تزعل، قلت له: العفو، فالعين عمرها لا تعلو على الحاجب، فأنت قدمت الكثير للثورة الليبية وفضلك علينا كليبيين لا يمكن أن ننساه، لكن الخلاف هو خلاف في المواقف، وهذا لا ينكر دور قطر التاريخي ووقوفها التاريخي معنا. ففتح مرة أخرى ملف رئاسة الوزارة وأنني يجب أن أستمر. قلت له إن هذا الطرح، رئيس وزارة لا يشرف على جيش ولا على داخلية، ولا يشرف على حمل سلاح، يؤكد صحة موقفي بتقديم استقالتي. وعدتُّ بأنني سأقدم استقالتي وسأقدمها، لكن ما تطرحه أنت الآن يؤكد صحة هذا الموقف أكثر».