لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن القاهرة أحفل بلد فى الشرق الأوسط بالطرب والملاهى والترويح عن النفس، فقاهرة الفاطميين كانت تلهو وتطرب، وقاهرة الأيوبيين كانت تلهو وتطرب، وقاهرة المماليك كانت تلهو وتطرب حتى قاهرة العثمانيين كانت تلهو وتطرب، فإن طبائع أهل هذا البلد غالب عليها حب التنفيس عن القلب والترويح عن النفس، فأهله ظرفاء فلاسفة ضاحكون دائما، وقد حدث أن نابليون حين دخل القاهرة أبصر فى طريقه مائة عرس تذخر بالطبول والمزامير، فعجب القائد الفرنسى، وقال: عجبت لهذا البلد الذى لا يعرف الحزن أبدا. فأهل القاهرة مرحون، يعجبهم السهر والسماع واللهو والاختلاف إلى دور اللهو، والمتنزهات فى كل العصور، ويحبون الشراب والسماع والاحتفاء بزفافهم وختان صبيانهم، وتوديع بعضهم بعضا عند ذهابهم إلى حجهم، وعند عودتهم منه، كما يحب المسلمون منهم تعظيم نبيهم وصلحائهم فى ليال صاخبة آونة، وقورة آونة أخرى. تضطرب بالطبل والزمر، وتسكن بالقرآن وتلاوته. أما شارع وجه البركة «نجيب الريحانى» فقد كان أعظمها خطرا، فإذا أقبل المساء خرج بعض أهل القاهرة من عشاق السهر، وكثير من الوافدين من المدن والريف إلى حى الأزبكية للهو والمتعة البريئة وغير البريئة، فكانوا يرتادون محال الغناء مثل الألدراتو القديم فى شارع كلوت بك، حيث يستمعون إلى الصرفية المغنية، وأسماء الكمسارية، وسيدة اللاوندية وغيره من المغنين والمغنيات المحترفين، كما يرتادون الألدراتو الجديد فى شارع وش البركة ونزهة النفوس، حيث كانت تغنى هناك السيدة منيرة المهدية، التى كان أول غنائها فى مقهى فى بير حمص. وكان ظهورها فى نزهة النفوس دائما فى الساعة الثانية عشرة مساء، حيث كانت تقف على المسرح وتغنى «أسمر ملك روحى» وغير ذلك من الأغانى الخفيفة، وهى واقفة تقرع خشب المسرح بنعل حذائها. وكان على مقربة من حى الأزبكية فى شارع البواكى: ملهى ألف ليلة حيث كانت تجلس لبيبة فخر الوافدة من الشام والتى تسمت باسم توحيدة، وعلى جانبيها تختها بآلاته الموسيقية، يرجعون ما تعيده من غناء ناعم سيئ التأليف. ليلى وقمر وربما عرج أصحاب اللهو على حديقة الأزبكية فدخلوها، حيث توجد فيها مقاهى الرقص والغناء، فهناك شفيقة القبطية فى مرقصها، تلك الراقصة التى بلغت فى الشهرة مكانا ذائعا ونالت من الذهب الشىء الطائل. ثم أضاعت كل هذا، وسلخت شيخوخة معدمة بائسة وماتت وهى لا تملك شيئا. أول من غنى المنولوج فى القاهرة هما: ليلى وقمر اليهوديتان، وكان لهما منولوج محفوظ من عامة شعب القاهرة، وهو: عصفورى يامه عصفورى أرقص وأورى له أمورى ثم طرقه بعد ذلك على الطريقة الغربية: الأستاذ عبدالقدوس، فكان يلقيه فى المسارح العامة. ومنولوج حسن فايق معروف عند العامة وغير العامة، هو الكوكايين خلانى مسكين. وأما شارع وش البركة «نجيب الريحانى» فقد كان ممتلئا بالبارات العامة، وفيه من النساء عدد وفير بين مصريات وأجنبيات لخدمة الزوار وتسليتهم. وكان من أشهر هذه البارات التى تشبه علب مونمارتر ومونبرناس فى باريس: بار الألكزندرى، وباميه بار، والكستبان الأحمر، وبار مارى، وأوبلسك وشولار. وفى شارع كولت بك بار السبعة أبواب وحلوانى اللوفر. وعلى أطراف شارع وش البركة كان يجسم باران هما من أشهر بارات القاهرة قاطبة: دير أكاتوس. وكفية إجبسيان. وكان يجلس فى البار الأول الملك فؤاد أيام تعطله، وكان ربما يحتاج إلى خبز غير الخبز المقدم له فى مزة الخمر. فنادى بائع الصميت وابتاع منه ذلك الخبز المملح الذى يطلق عليه الأشتنجل. وفى مائدة أخرى كان يجلس البرنس أحمد ذلك الأمير الإقطاعى الهائل، وهو والد الأمير السابق يوسف كمال، الذى كان يملك مدنا كاملة فى صعيد مصر. وكان يحف بهذا الأمير الضخم الأحمر الطربوش كثير من الندماء وأصحاب النكتة مثل الدكتور بكير ومحمد البابلى وعجموغلى الإيرانى. من أشهر مقاهى القاهرة ولا يزال إلى اليوم: مقهى نوبار. فقد كان مجمعا للذوات والفنانين ووجهاء الريف. وفيه كان يقضى عبده الحامولى الموسيقار الأشهر أمسياته مع صديقه الثرى الذى أفلس بعد أن أنفق نصف مليون من الجنيهات: باسيلى بك عريان. وكان يجلس معهما محمد بك ثابت بن ثابت باشا الوزير فى عهد إسماعيل. ومحمد عمر الصراف الذى أشرف بعد ذلك على التسعين. ولم ينس نصيبه من الدنيا. والفريق إبراهيم فتحى المعروف بالصراحة المفضوحة. وربما طرقهم خليل مطران الشاعر وسليم سركيس الصحفى. وعبدالحميد أباظة الأنيق الفضى الشعر وفى فمه سيجاره الضخم. ويضيق باسيلى بك عريان بزبائن المقهى الغرباء فيأمر صاحبه أن يخليه له ولأصدقائه فقط. على أن يعوضه الخسارة وزيادة. ومن المقاهى الشهيرة أىضا: مقهى السنترال، وكان يقال له أيضا «أوبرا بار» وموضعه الآن جزء من ملهى صفقة حلمى فى ميدان الأوبرا وزوار هذا المقهى من هواة النرد والشطرنج ولعب الورق. ومن مشاهير المقاهى كذلك: إسبلندد بار. وكان يواجه حديقة الأزبكية، ويقع فى شارع الجمهورية «إبراهيم باشا» وجلساؤه من إخواننا الأدباء السوريين. مثل الدكتور إبراهيم شدودى. والدكتور شبلى شميل المتشكك. وجورج طنوس. وطنوس عبده. وكان يجالسهم ويحاورهم الشاعر ولى الدين يكن. وحافظ إبراهيم ووحيد الدين الأيوبى اللغوى العجيب. والشاعر أحمد نسيم وعبد الحليم المصرى. وممن مشاهير المقاهى: مقهى متاتيا وهو باق إلى اليوم. وهو مقهى من الدرجة الثانية. وكان المترددون عليه فى القديم: السيد جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده. وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوى. ثم جاء بعدهم إمام العبد الزجال الظريف. وخليل نظير الزجال أيضا الذى لا يفيق من الخمر، والأستاذان المازنى وعباس العقاد. والشاعر حافظ إبراهيم والشيخ فهيم قنديل صاحب جريدة عكاظ. وغيرهم من الأدباء الفقراء الذين كانوا يجدون حاجتهم من طعام الفول المستكن فى قدوره النحاسية. الذى كان يحتل مطعمه ركنا قصيا من هذا المقهى.