• بعد ثورة يناير صادفنا هوسًا دينيًا وسيطرة للأحزاب الدينية خلقت أزمة للديمقراطية كانت بداية الخيط مع ذلك التعليق الذى بدر من صديقه الذى يلقب عادة ب«الإسلامى المستنير».. تعليق أثار قلق الدكتور جلال أمين كثيرا.. جاء ذلك خلال ندوة عقدت بالقاهرة قبل أكثر من عشرين عاما، فى أعقاب إحدى أحداث الفتنة الطائفية الملعونة فى كل وقت.. فى ذلك الوقت طالب أمين فى تلك الندوة بمراجعة ما تدرسه المدارس للتلاميذ من مناهج وما تبثه وسائل الإعلام من مواد ربما تكون سببا فى نشر رسائل مؤججة للفتنة فى مصر. محور الخلاف كان فى استشعار صديق جلال أمين «المستنير» أنه يدعو لتقليل الجرعة الإسلامية فى المدارس، وهو ما حرضت أمين على الكثير من التأمل. هل هو فعلا يدعو إلى تخفيض الجرعة الإسلامية فى المدارس؟ أم أن صديقه قد أساء فهمه؟ يستهل المفكر الكبير جلال أمين بهذا الطرح أحدث كتبه «محنة الدنيا والدين فى مصر»، الصادر عن دار الشروق، وهو الكتاب الذى يتناول جذور المحنة المصرية فى الدنيا والدين وتأثير ذلك على ما تمر به الثورة المصرية من مصاعب. • أمين: الدين ليس هو الحياة والإسلام دين ودنيا.. ولا أرفض اتخاذ الشريعة مصدرًا للتشريع موقف فردى موقف أمين الذى لم يتغير هو اعتبار أن «الدين موقف فردى» وكذلك «الدين ليس هو الحياة، ولا يمكن أن يكون، بل هو جزء منها» ومع الاعتراف ببديهية ذلك الأمر بالنسبة له فهو مع ذلك لا ينكر أن «الإسلام دين ودنيا، ولا أرفض اتخاذ الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع» على حد تعبيره فى مقدمة الكتاب. يعود الحديث إلى الفتنة الطائفية التى اعتبر المؤلف أن العلاقة بين فهم الدين والدنيا لها علاقة وثيقة بها، وبالطبع بالعلاقة بين المسلمين والأقباط، «ففى مناخ يعطى الدين أكثر من حجمه الطبيعى، المباح فيه هو فقط ما اتصل بالدين بصلة، وتتحول المدارس فيه ووسائل الإعلام، والثقافة إلى وسائل لا لنشر قيم الدين بل للدعاية الدينية الأشبه بترويج السلع». نشر جلال أمين تعليقه على تلك الندوة فى كتابه «مصر فى مفترق الطرق» 1990 ولكنه أراد أن يلقى مزيدا من الضوء على تأثير معادلة الدين والدنيا الشائكة على أعقاب قيام ثورة يناير 2011 التى جاء بعدها تيار الإسلام السياسى إلى الحكم، واعتبر أن إلقاء الضوء على ثورات مصر الثلاث 1919 و1952 و2011 خلال ال100 عام الماضية ربما تحمل التناول الأمثل للتغيرات التى طرأت على المجتمع المصرى وما حملته من تأثير على العلاقة بين الدين والدنيا. هوس دينى يقول المؤلف «منذ أن قامت ثورة 25 يناير 2011، صادفنا جميعا أمثلة متتابعة من الهوس الدينى، بدأت بهجوم على إحدى الكنائس، ثم السير فى جماعة كبيرة من الناس للاعتداء على كنيسة أخرى، كان هذا العمل يمثل درجة من الهوس لم أستطع معه أن أقتنع بأنه لم يجر ترتيبه من قبل جهات لها مصلحة فى إفشال الثورة»، وتوقف فى فصل كامل خصصه للحديث حول العلاقة بين «الدين والديمقراطية» طارحا مسألة الهوس الدينى وما تسبب فيه ل«مأزق للديمقراطية» لاسيما بعد نمو ظاهرة الأحزاب السياسية الدينية، وما وصفها بعد ذلك ب«أغلبية اللحى» فى المجلس التشريعى الذى كان مثيرا للكثير من السخرية المقترنة بالأسى فى ذلك الوقت. البساطة المتقنة التى ميّزت أسلوب جلال أمين على مدى تاريخه، كان لها نصيب كبير فى هذا الكتاب رغم «تعقيد» القضايا التى تناولها إلى حد بعيد، فتراه يناقش ثنائية «الدين والتحديث» فى سياق تاريخى ذهب فيه إلى المُحدث الأول محمد على، وحتى عهد المعزول محمد مرسى، يتساءل «كيف نجعل تراثنا منسجما مثلا مع مبدأ المواطنة ولا يخل بحق الأقليات الدينية فى ممارسة حرياتهم الكاملة، أو كيف نجمع بين احترام التراث والتقاليد وبين التقدم الاقتصادى فى عصر العولمة، حيث تزيد الحاجة إلى تقديم الائتمان وقبوله، وإلى الاستثمار الأجنبى فيما يسد نقص الادخار المحلى، وإلى تشجيع السياح على المجيء إلى مصر دون خوف؟ هذه هى بعض الأسئلة المهمة التى تفرضها العلاقة الصحية المأمولة بين التراث والتحديث» يتساءل المؤلف. فضائح أخلاقية يطرح جلال أمين فى ثنائية أخرى «الدين والأخلاق» يقول إنه «فى المناخ الاجتماعى الذى يسود مصر الآن اتجاهان شديدا القوة ولكنهما أيضا متضادان تمام التضاد، اتجاه أو خطاب يمعن فى تمجيد الحياة ومسراتها، ويدعو الناس إلى التمتع إلى أقصى حد ممكن بالحياة، ويعلى من شأن المتع الحسية والمادية على حساب أى قيمة معنوية (..)، وخطاب آخر لا يقل قوة، ويدعو إلى العكس بالضبط، يقول إنه لا قيمة للحياة الدنيا بالمقارنة بالحياة الأخرى، بل يكاد يقول إنه لا قيمة للحياة الدنيا أصلا»، يطرح من خلال هذين الفريقين أزمة الأخلاق الغائبة فى المجتمع المصرى لاسيما بعد رصد فضائح كذب صارخة لنواب محسوبين على التيار الإسلامى فى عهد المعزول محمد مرسى. أزمة تبعية تناول الكتاب، الذى يقع فى 171 صفحة، كذلك علاقة الدين بفكرة المجتمع الاستهلاكى وكذلك بمفهوم التنمية، ولم يفت جلال أمين الذى طالما أكّد على مدى تاريخه كواحد من أكبر وأهم الباحثين الاقتصاديين فى العالم العربى أن يؤكد فى خاتمة كتابه من جديد على عدم انفصال فكرة تحرر مجتمعنا من التبعية السياسية والفكرية عن تحررنا فى الدنيا والدين على السواء، يقول «فى البدء كانت لدينا محاولات رائعة للتنمية الاقتصادية الواعدة (تذكر تجربة محمد على) وجهودا رائعة فى التنوير دون التنكر للتراث (تذكر الطهطاوى ومحمد عبده)، ثم اقتصرت جهود التنمية على محاولات جزئية لم تصمد لتيار المنافسة الشديدة فى الغرب (تذكر جهود طلعت حرب وجمال عبدالناصر)، واقتصرت محاولات التنوير على جهود للتنوير الزائف، تكتفى بتكرار ما يقوله الغربيون دون احترام كاف للتراث، حتى انتهينا إلى طغيان تيار ظلامى فى الفكر، إلى جانب استسلام مشين لقوى العولمة فى الاقتصاد».