ككل بلاد العالم التزمت أقطار الوطن العربى بكل متطلبات العولمة الاقتصادية، سواء الفكرية منها أو الإجرائية التى أملتها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولى أو صندوق النقد الدولى وغيرهما. كانت روح العولمة فى شكل عباءة جديدة لرأسمالية قديمة ترفع شعاراً سياسياً جديداً : الليبرالية الجديدة. لقد زُفت العجوز الشَّمطاء على أنَّها صبيَّة عذراء، وكان شيخ وكاهن الزواج استاذ الاقتصاد الأمريكى ملتون فريدمان، عرَّاب مدرسة شيكاغو، وتابعه وتابعو التابعين من المنظّرين. ما نريد التنبيه له، قبل الولوج فى موضوعنا الأساسى، هو أن عرّابى الرأسمالية العولمية التى تجتاح عالمنا قد غلفوها بادعاءات أثبتت الأيام عدم صحتها. ولذلك فليس بمستغرب صدور العشرات من الكتب الرَّصينة التى تفند تلك الادعاءات. ولعل من أكثرها صراحة وجرأة كتاب أستاذ الاقتصاد فى جامعة كامبريدج البريطانية، المؤمن بالرأسمالية المتوازنة، الدكتور هاجون شنغ، تحت عنوان « ثلاث وعشرون حقيقة عن الرأسمالية لا يتحدَّثون لك عنها». وبالطبع فإن تلك الادعاءات عن الرأسمالية العولمية بدورها مبنية على ادعاء، يختلف الكثيرون بشأنه، يتعلق بمدى علمية ودقة وحتى تسمية ما يطلق عليه «علم الاقتصاد». نبرز تلك المقدمة وتلك الخلفية لنظهر مدى هشاشة وضعف الأرضية التى تقف عليها أقوال الاقتصاديين العولميين بشأن ما يجب أن تفعله الدول والمجتمعات فى الحقل الاقتصادى وبشأن ما يجب أن تتجنبه. ••• الموضوع الذى نود مناقشته يتعلق بأحد أخطر ادعاءات العولمية الرأسمالية القائل بأنه فى عصرنا الحالى لا تحتاج الدول النامية، لكى تصبح دولاً صناعية متقدمة، أن تمارس سياسات وخطوات حمائية، تحمى بها مؤسساتها الصناعية والخدمية الوطنية الوليدة إلى أن تكبر ويشتدُّ عودها وتقف على رجلها فى الأسواق الدولية. وعليه فإن المؤسسات العولمية، ومن ورائها جيش من المنظرين والإعلاميين والزُّبونيين المستفيدين، لا يرون حاجة لفرض ضرائب جمركية عالية، ولا لتقديم دعم مباشر أو غير مباشر للشركات الوطنية الناشئة، ولا لسن تشريعات تعطى أية أفضلية أو حماية أو إسناد للصناعات الوطنية. فالمنطلق عند هؤلاء هو عدم التدخُّل التام فى حرية الأسواق وفى التنافس، حتى لو كان الأخير متوحشاً استئصالياً، إذ الداروينية فى الإقتصاد هى أيضاً بدورها تؤكد أن البقاء للأقوى والأفضل دون الالتفات لأية عوامل مؤثرة أخرى مثل التاريخ الاستعمارى وضعف القاعدة العلمية والبحثية والظروف الإجتماعية والثقافية المتخلفة. لكن من حسن الحظ أن تاريخ نشأة وتطوُّر الاقتصاد الإنتاجى الصناعى فى البلدان التى تعتبر اليوم متطورة ومتقدمة، هذا التاريخ يردُّ على هذا الادعاء وهذه الأكذوبة. فمراجعة تاريخ بلدان صناعية فى الغرب والشرق، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى كثيرة وفى الشرق مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، تؤكد أنهم جميعاً، منذ القرن الثامن عشر وحتى عصرنا الذى نعيش، مارسوا كل أنواع الحماية الجمركية والدعم اللوجستى بشتى أنواعه وسن القوانين الحمائية، وذلك من أجل الدفاع عن صناعاتهم ومؤسساتهم الوليدة. ولم يتوقًّف أى منهم عن ذلك الدعم إلا بعد وصول تلك الصناعات والمؤسَّسات فى بلدانهم إلى مرحلة النضج والوقوف على الأرجل فى مواجهة منافسة الآخرين على المستوى العالمى. لقد مارست تلك الدول عكس ما تريد فرضه على الدول النامية فى الحاضر. ولو قيض لقادة تلك الدول، الذين مارسوا الحماية لأسباب وطنية، أن يخرجوا من قبورهم لصعقوا مما يريد أحفادهم أن يفعلوه بالآخرين. ••• لنعد إلى وطننا العربى ولنطرح الأسئلة على أنظمة الحكم العربية. ولنطرحها على الأخص على بلدان ثروات البترول والغاز التى يأمل الجميع أن تكون فى المستقبل قاطرة التنمية الاقتصادية العربية من خلال استثمار عائداتها الهائلة لبناء أقتصاد عربى إنتاجى صناعى يرفده اقتصاد خدمى ومعرفى حديث متطور. الأسئلة الملحة هى: هل ما زلتم تصدقون أكذوبة السوق الحرة التى لا يخضع إلا لمنطقه وحاجاته، مع أنه لا توجد سوق فى أى بلد تتمتع بحرية مطلقة؟ متى ستستعيدون إرادتكم وتقررون البدء، فرادى أو كتكتُّل عربى بأشكاله المختلفة، باتخاذ الخطوات الضرورية لحماية صناعاتكم ومؤسسات اقتصادكم الإنتاجى والخدمى، وذلك على ضوء ما تثبته الأيام، من خلال تجارب الكثير من الدول، من أن الاقتصاد الخدمى، حتى ولو كان متطوراً، لا يسدُّ مكان الاقتصاد الإنتاجى السلعى بما فيه الصناعى؟ متى ستدركون أن كل أنواع التنمية ستحتاج لدعم وتدخُّل الدولة فى مراحلها الأولى على الأخص؟ وبالتالى ترفضون مقولة أن الاقتصاد والخدمات الاجتماعية يجب أن يتركوا للقطاع الخاص، فهو الأقدر والأكفأ؟ متى ستدركون أن الدول الرأسمالية الغنية، التى تلقى عليكم يومياً المحاضرات الطويلة بشأن تحرير الأسواق العالمية، هى أول من يتخلى عن الاتفاقيات ويكسر القواعد عندما تتعرُّض مصالحها الاقتصادية لأى خطر؟ الأسئلة كثيرة جداً، وهى ليست رفضاً للعولمة، وإنُّما تشكيكاً فى بعض مقولاتها، ومناشدةًّ ألا تنحر محاولات النهضة الاقتصادية العربية، التى بدأت منذ الاستقلال الوطنى، تنحر ككبش فداء لرأسمالية عولمية أنانية متوحشة. للمرة الألف نذكُّر بأن فترة فوائض ثروات البترول والغاز الحالية هى فرصة تاريخية يجب ألا تضيع. إن إحدى وظائفها هى مساعدة النفس فى تخطًّى بعض الأكاذيب التى تنشر باسم العولمة.