تزايد الرافضين النافرين من اقتصاد السوق الرأسمالية المتوحشة بديلا عن اقتصاد السوق المتكلف بالرعاية الاجتماعية { النظام المالي العالمي يقوض أسس الاقتصادات الوطنية { تزايد التفاوت في توزيع الدخول والثروات في الاقتصاد الحر القادة السياسيون ليس لديهم برنامج شامل لمواجهة الانهيار ماذا يمكن عمله، وماذا ينبغي انجازه لكي لا يدمي اقتصاد السوق نفسه بنفسه، وما المتطلبات الضرورية لتحقيق اقتصاد سوق يتكفل فعلا بالرعاية الاجتماعية. بهذه الاسئلة انهي الاقتصادي الألماني أولريش شيفر الفصل الأول من كتابه انهيار الرأسمالية وعنوانه الفرعي أسباب اخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود»، وهو وصف آخر لسياسات الليبرالية الجديدة والتي وصفها الاقتصاديون التقدميون بالرأسمالية المتوحشة. ترجم الكتاب الذي ننشر الفصل الأول منه د. عدنان عباس علي ونشرته سلسلة عالم المعرفة في الكويت. «لقد علمتنا أزمة الكساد الكبير أن السوق غير قادرة علي تسوية الأمر. لكن هذه الحقيقة مضي عليها ثمانون عاما. وفي يوم من الأيام لم يكن هناك بد من أن تختفي هذه الحقيقة من الذاكرة». وفق ما قاله العام 2008 جوزيف ستيغليتس -الاقتصادي الحاصل علي جائزة نوبل يمكن الوقوف علي ويلات الانهيار والنتائج التي ترتبت عليه من خلال الاحصاءات الموثقة. فماركوس غرابكا الخبير لدي المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية ليس في حاجة إلي أكثر من إلقاء نظرة سريعة، علي البيانات المخزنة في جهاز الكمبيوتر، لكي يحيط علما بمدي الهزة العظيمة التي خلفها اقتصاد السوق المحررة من القيود في المجتمع الألماني. كما أنه يستطيع، من مكتبه الكائن في وسط برلين، التعرف علي ما تركته الأزمة العظيمة من تفكك في بنية المجتمع. وعلي ما هية الفئات التي تعرضت أكثر من غيرها للمعاناة والويلات. إن غرابكا- الذي هو واحد من أشهر العاملين في ألمانيا في مجال البحوث المختصة بتوزيع الدخول والثروات- يلمس، منذ سنوات كثيرة، وعن كثب، تعمق التباين بين الاغنياء والفقراء: ففي حين استطاع العشرة في المائة من المواطنين المنعمين تحقيق ارتفاعات متسارعة فيما يحصلون عليه عن دخول، أمسي لزاما علي العشرة في المائة من الفئات الموجودة في أدني السلم الاجتماعي تدبير متطلبات العيش بدخول أدني من الدخول التي كانوا يحصلون عليها في مطلع التسعينيات. وفيما تراكم لدي العشرة في المائة من المواطنين الموجودين في أعلم السلم الاجتماعي ثروة تساوي ستين في المائة من ثروة المجتمع، ثروة تشتمل علي أموال نقدية وأوراق مالية وعقارات، ظل نصف المجتمع لا يمتلك شيئا منها إلا القليل. ووفق ما يقوله غرابكا، فإن التطور المتحقق منذ العام 2000 مدعاة ل «الفزع» حقا وحقيقة. «فحتي نهاية القرن العشرين، كانت اللامساواة في توزيع الدخول هينة، إلي حد ما، في ألمانيا، لكن الأمر تغير في السنوات الخمس الأخيرة، فألمانيا تخطت كثيرا من البلدان في هذا المضمار، فاللامساواة تفاقمت بشكل مفزع في بلادنا». وكان هذا التطور قد صار حقيقة ملموسة في الزمن السابق علي انهيار المصارف واندلاع الصدمة العظيمة التي عصفت بأسواق المال أخيرا. وهل يعني هذا كله أن الأمور كلها ستسير نحو الأسوأ؟ وهل سيبلغ بر الأمان أولئك الافراد فقط، الذين حصلوا لأنفسهم، أصلا، علي الكثير؟ وهل ستكون البلوي من نصيب أولئك المواطنين الذين كانوا، في السنوات الأخيرة، يجرون لاهثين وراء لقمة العيش؟ ومهما اختلف المرء بشأن الجواب عن هذه الاسئلة، فإن ثمة حقيقة لا اختلاف عليها أبدا: وهي أن العصر الذهبي، الذي تمتعت به البلدان الصناعية الغربية منذ التسعينيات، قد صار في ذمة التاريخ، قد مضي وولي وبلغ النهاية، ففي خريف العام 2008 انتهت، بنحو مفاجئ، حقبة الهناءة وحسن الحظ، فقد انهارت سوق المال، وذهب مع الريح الحلم بازدهار مستديم، فالزلزال الذي ضرب البورصات في خريف 2008، فاق كل الزلازل التي عصفت بها حتي الآن، وكانت هزة أوخم من كل الهزات التي مرت بها أسواق المال منذ اندلاع الكساد الكبير وانتهاء الحرب العالمية الثانية. إن النظام الرأسمالي المحرر من القيود يقف الآن علي عتبة الهاوية. لقد صرنا شهود عيان علي اندلاع حدث بعيد الابعاد، شعود عيان علي تحول تاريخي، تحول قد يكون أكثر وخامة من التحول الذي شاهدناه عقب الحادي عشر من سبتمبر العام 2001. إن الدولة تقاوم أزمة ما عاد في الإمكان ضبطها إلا بصعوبة. فالدولة تنفذ مصرفا تلو الآخر. وتؤمم الواحد بعد الآخر. إنها تضخ في الاقتصاد مبالغ لا قدرة لنا علي تصور عظمتها. وعلي الرغم من كل ما تبذل الدولة من جهود، فإن نجاحها في وقف الانهيار يظل في علم الغيب. ولكن ما معني هذه الحقائق بالنسبة إلي الدخول التي نقتات منها وإلي فرص عملنا وما لدينا من ثروات؟ ماذا سيبقي لنا؟ وما الخسائر التي سنتكبدها؟ هل نحن علي عتبة عصر المصائب والرزايا وسوء الطالع والشقاء؟ إن الطبقة الوسطي، علي وجه الخصوص، هي التي ستذوق مرارة هذا التحول العظيم. لكن هذا القلب النابض بالنشاطات الاقتصادية أمسي ينزف دما منذ سنوات عديدة. فبينما كان عدد ابناء الطبقة الوسطي في العام 2000 يبلغ في ألمانيا 49 مليون مواطن، تراجع هذا العدد بعد سبع سنوات من هذا التاريخ بمقدار بلغ خمسة ملايين مواطن، أي تراجع بأكثر من عشرة في المائة. وجزء ضئيل من هؤلاء استطاع أن يرتقي إلي مرتبة أعلي، والجزء الاعظم منهم انحدر إلي مصاف الثلث الأخير من السلم الاجتماعي وضيع هؤلاء الخاسرون فرص عملهم أو أنهم ضحوا بجزء من أجرهم، أو باعتهم شركاتهم لشركات أخري تدفع أجرا لا يكاد يسد الرمق، وإذا كان أبناء الطبقة الوسطي لم يتنعموا بنعم الازدهار الاقتصادي في كثير من الاحيان، فإنهم صاروا الآن المواطنين الذين يعانون المصائب، إن العاصفة التي هبت رياحها الهوجاء علي أسواق المال، والركود الاقتصادي الذي نجم عن هذه العاصفة، سيسببان في اوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية، ضياع ملايين من فرص العمل المتواضعة وفرص العمل المهمة، ملايين من فرص العمل ذات الأجور المتدنية وفرص العمل ذات الأجور المرتفعة. وتكمن جذور أكبر أزمة اقتصادية يشهدها العالم منذ ثلاثينيات القرن العشرين في قلب الرأسمالية: في أسواق المال. وأمست هذه الأزمة تنشر ظلالها علي أناس ظنوا حتي ذلك الحين أنهم بمنأي عن المخاطر. وبينما تعهد، في ماضي الزمن، صانع المعجزة الاقتصادية لودفيغ ارهارد بتحقيق «الرفاهية للجميع»، أكد الرئيس الأمريكي جون اف كنيدي أن التيار سيحمل القوارب كلها نحو الأعلي». بيد أن تيار الرأسمالية المحررة من القيود والتوجيه صار يدمر قوارب أكثر فأكثر، فعدد القوارب التي تهلك غرقا في خضم عاصفة العولمة في تزايد مستمر. ولهذه الاسباب ما عاد كثير من المواطنين يصدقون تحقق الرفاهية التي وعدتهم بها فئات معينة من الاقتصاديين والسياسيين ورجال الأعمال ومجموعات الضغط التي همها الأول هو الدفاع عن مصالح فئات معنية (اللوبي)، فهؤلاء جميعا لم يكفوا قط عن الاشادة بمحاسن اقتصاد السوق العولمية. فالمواطنون لم يعودوا يثقون بأن المنافسة في الأسواق العالمية والمباراة الضارية في البورصات تسبغ النفع عليهم ايضا. إن عدد المواطنين النافرين من اقتصاد السوق في تزايد مستمر، اضف إلي هذا أن هؤلاء المواطنين قد صاروا يحتفظون عن الإطار السياسي المناسب لاقتصاد السوق، وعن الديمقراطية ايضا، وأنهم يشيحون بوجوههم عن الاحزاب السياسية، ويتخلفون عن المشاركة في الانتخابات، ويعتزلون المجتمع، فهم يشعرون بأنهم باتوا بلا عون وسند، باتوا يشعرون بأن الدولة تغير اهتمامها للآخرين فقط وليس لهم، وبأن المشاريع الصناعية لم تعد تري مأواها في الوطن، بل في كل أرجاء المعمورة، وبأن السوق التي يفترض فيها أن تحقق لهم الرفاهية، قد أخذت تتصرف، في كثير من الاحيان، بوحشية لا تعرف الرحمة. لقد صرنا نشهد كل هذه التحولات، وإن كانت الرأسمالية قد بدت لنا قبل فترة قصيرة من الزمن أقوي منها في أي عصر مضي، فالرأسمالية، التي عرفناها قبل تحرير اقتصاد السوق من القيود، بدت المنتصر الذي لا يجاري في صراع الانظمة، فهي هزمت الاشتراكية وتغلغلت في كل أرجاء المعمورة : من أمريكا وحتي آسيا، ومن أوروبا الغربية إلي آخر زاوية من زوايا المعسكر الشرقي سابقا. ومن نافلة القول الاشارة إلي أن هذه الرأسمالية قد حققت لسكان الدول الصناعية. ولكثيرين من مواطني الاقتصاديات الناشئة رفاهية لا مثيل لها في أي عصر من عصور الزمن الغابر. لكن اقتصاد السوق المتكفلة بالرعاية الاجتماعية استعيض عنها بنموذج جديد يتصف بالوحشية والأنانية، ويطلب من بني البشر ما لا طاقة لهم به: نموذج اقتصاد السوق المحررة من القيود. فقواعد هذا النموذج لا تحددها الدولة. بل تمليها المشاريع العملاقة وأسواق المال. ففي الثلاثين عاما المنصرمة كفت الدولة ومعها السياسيون المنتخبون وفق قواعد الديمقراطية من التدخل في عمل اقتصاد السوق تاركة قوي السوق تصول وتجول بالنحو الذي يطيب لها، أي أن الدولة والسياسيين تركوا الاقتصاد الوطني توجهه حفنة رجال تهيمن علي الشركات العملاقة والمصارف ولا تتمتع بأي شرعية ديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، اطلقت الرأسمالية العنان لطاقاتها الجامحة، لطاقاتها المعظمة للرفاهية من ناحية، والمدمرة لوحدة المجتمع من ناحية ثانية. إن هذه الطاقات غيرت نمط حياتنا بنحو متسارع حقا وحقيقة. لقد صارت أسواق المال قاب قوسين أو ادني من الانهيار الكلي والتام. ومن نافلة القول أن نؤكد هنا أن انهيارا من هذا القبيل لن تظل آثاره مقتصرة علي البورصة فقط. ففي نهاية المطاف يخسر ملايين المواطنين فرص عملهم، ويتحولون إلي فقراء لا قدرة لهم علي سد متطلبات رمق العيش. فالصناعة المالية خلقت، من خلال ما طورت في البورصات من وسائل معقدة، قنابل خطيرة قادرة علي إحداث دمار شامل، إذ وفق وجهة نظر المضارب العالمي الناجح ورون بوفيت «فإن أحد الأمور التي لا يمكن السكوت عنها هو أن تؤدي مقامرات مالية من هذا القبيل إلي تدمير مئات الآلاف من فرص العمل وتدمير فروع إنتاجية تتمتع في الواقع بالعافية وتشكل العمود الفقري للقطاع الصناعي». علي صعيد آخر تزيح الهزة، التي عصفت أخيرا بأسواق المال، الستار عن المدي الذي تغلغل فيه اقتصاد السوق المحررة من القيود في جميع خصائص حياتنا، فهو أفرز تحولات عظيمة وبسيطة، وتفاهة ومثيرة، بينة ومستترة، تحولات تجعل حياتنا أكثر انقباضا، تحولات تدفع المواطنين، ليس في ألمانيا فقط، بل في أغلب الدول الصناعية الكبري، إلي أن يشعروا بالفزع من الرأسمالية. وحتي سنوات وجيزة كان هناك شعور دفين فقط، شعور ما كان المرء قادرا علي التعبير عنه بالكلمات. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فقائمة المنتفعين من العولمة كانت أطول من قائمة الخاسرين. وكادت ألمانيا تبز الدول الأخري قاطبة من حيث المكاسب التي جنتها من تحرير الأسواق من القيود والحواجز. وتأسيسا علي هذه الحقائق. يمكن القول إن الألمان كانوا في رغد من العيش.ولهذا السبب لم يجد، حتي الكادحون، السياسيون والاقتصاديون ووسائل الإعلام صعوبة في دمغ منتقدي النظام الاقتصادي السائد بأنهم معتوهون يذيعون الأوهام، وأنهم اناس ساذجون لا يريدون ادراك عظمة النعم التي تفرزها آليات السوق. وبقدر ما كان هؤلاء الناس ساذجين فعلا: فبعض منتقدي اقتصاد السوق كانوا يظهرون فعلا بمظهر مثاليين غير مسايريين للدنيا. فهم يحلمون بالعودة إلي عالم يمن عليهم بالدفء والحنان ويحيطهم بالشفقة والإحسان، يحلمون بعالم ما كان له وجود قط بالصيغة التي يحلمون بها، ومع هذا، فإن من حقائق الأمور أن عدد المواطنين المرتابين من قوي السوق قد أمسي الآن في تزايد مستمر. الهوة تزداد اتساعا لا يمر يوم من غير أن نلمس التناقضات التي ينطوي عليها اقتصاد السوق المحررة من القيود، إننا نشهد من كثب كيف تولد الرأسمالية المحررة من القيود فائزين ومندحرين، وكيف تجازي بلا حساب وتعاقب بلا رحمة، وكيف تؤدي إلي تزايد هوة التفاوت بين الفقراء والاغنياء اتساعا. فما من أحد يشك في أن الهوة الفاصلة بين شرائح المجتمع المختلفة قد أخذت تزداد اتساعا. التفاوت في توزيع الدخول أن أجور العمال ورواتب المستخدمين العاديين صارت ترتفع بنحو بطئ جدا، وعندما يأخذ المرء التضخم بنظر الاعتبار، يظهر له بوضوح أن القوة الشرائية المتاحة في العام 2008 للجمهور العريض في ألمانيا قد أمست أدني من المستوي الذي كانت عليه في مطلع التسعينيات. وارتفعت في الوقت ذاته، دخول الشريحة العليا بنحو متسارع. فالشخص الذي ينتمي إلي العشر الواقع في أدني السلم الاجتماعي تعين عليه العام 2006 مواصلة العيش بدخل أدني من الدخل الذي كان متاحا له قبل أربعة عشر عاما بنسبة بلغت، في المتوسط 13 في المائة. أما بالنسبة إلي الشخص الذي ينتمي إلي ذلك العشر من السكان، الذي هو في عداد أغني الاغنياء، فإن الملاحظ هوأن صافي دخله الحقيقي قد ارتفع، في الفترة الزمنية نفسها بنسبة بلغت 31 في المائة. التفاوت في توزيع الثروات إن التفاوت في توزيع الثروات أعظم بكثير من التفاوت في توزيع الدخول. ففي ألمانيا تتركز الثروة بيد شريحة اجتماعية ضئيلة العدد بنحو بين. فالأغنياء يقطنون في الاحياء السكنية الراقية. أما الأحياء الهامشية، فإنها مأوي المعدمين والمحرومين، أي أنها من ناحية، مأوي العاطلين عن العمل، الذين لا يمتلكون شيئا عدا الديون. التفاوت في توزيع فرص التعليم إن الشخص المتمتع بالمرونة الكافية وبالمستوي التعليمي الجيد يستطيع التحرك في الاقتصاد المعولم بيسر وسهولة. أما الشخص الذي لا تتوافر له هذه الخصائص، فإن هذا هو الذي يتخلف بسرعة فائقة، عن الركب. السياسة الحائرة إن اليمينيين واليساريين من المتلاعبين بمشاعر العامة كانوا في مقدمة الاطراف التي تبنت هموم المواطنين، فبخطاباتهم الرنانة وكلماتهم المعسولة يدغدغ وأولئك هؤلاء مشاعر الناس البسطاء ويعاهدونهم علي أنهم سيغيرون جميع المناحي وسينجزونها بنحو افضل، وتزداد انطلاء من يوم إلي اخر، خدعة الحلول الساذجة، التي يمنون بها العامة. فمن هو ذا الذي يريد الوقوف. من كثب، علي مصدر المليارات التي لا مندوحة للمتلاعبين بمشاعر العامة من انفاقها علي ما يذيعون علي الملأ من برامج اقتصادية واجتماعية؟ من سيمعن النظر في الاسلوب الذي سيسلكه المتطرفون حيال الشركات العملاقة التي يريدون تأميمها. أي تحويل ملكيتها إلي ملكية حكومية صرفة؟ ومن هو ذا الذي سيدرك بيسر مغزي أن تنعزل الأمم بعضها عن البعض الآخر. وتقيم الحواجز في وجه التجارة الخارجية وتتحول، ثانية، إلي تكتلات تجارية منكفئة علي نفسها؟ علي صعيد آخر، فإْن الاحزاب السياسية التقليدية أمست، هي الاخري ايضا، تصدر ردود فعل تنم عن رغبة في مسايرة الأمور، فهي تشعر بالفزع المخيم علي الناخبين . فبينما كانت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، تؤمن إيمانا عميقا بقوي السوق حين كانت تتزعم المعارضة، اشاحت بوجهها الآن عن تنفيذ افكار الاصلاحات المتطرفة بالكامل. فمارغريت تاتشر الألمانية تحولت إلي نسخة انثوية للمستشار السابق. فيلي براند. فميركل، التي عارضت علي مدي زمن طويل تدخل الدولة، تبشر حاليا بضرورة تدخل الدولة في شئون الاقتصاد. فهي تفرض، وبإلحاح من الحزب الاشتراكي. حدا ادني للأجور. وذلك لحماية العاملين في المصالح البريدية وفي مجال البناء والتشييد وتنظيف العمارات من مغبة منافسة الايدي العاملة الزهيدة الأجور. كما أمست تؤيد تشريع قانون تراد منه حماية الشركات الألمانية العملاقة من استحواذ مستثمرين أجانب عليها. اضف إلي هذا أنها قد أممت المطابع العاملة في خدمة الدولة وتبذل قصاري جهدها لترويض أسواق المال. وكانت ميركل قد صورت ماطرأ علي مواقفها من تحول، حين قالت: «لقد كان الشعار المرفوع علي مدي طويل من الزمن: اتركوا الأمور كلها للأسواق أما الآن، فإن المرء قد توصل إلي تصور مخالف لحسن الحظ»، ويفكر الآخرون من رؤساء الدول والحكومات الأوربية بنوع مشابه.فعلي سبيل المثال، يؤكد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن العولمة تميل، الآن، إلي أن تكون «خطرا وليس نعمة». كما ترفض الحكومة الايطالية، التي يرأسها السياسي اليميني سيلفيو بيرلسكون، «الإيمان المتطرف بقوي السوق»، اضف إلي هذا، أن دول الاتحاد الأوروبي قد عقدت العزم علي التكاتف لتطوير قواعد صارمة لاسواق المال العالمية. ومع أن الامريكيين قد عملوا في السابق، كل ما في وسعهم من أجل تحرير النظام الرأسمالي من كل القيود، فإنهم يحثون الأوروبيين، الآن علي المشاركة في وضع القيود علي عمل النظام الرأسمالي، فالأمريكيون يسيرون منذ نهاية العام 2008 في اتجاه معاكس للاتجاه الذي ساروا فيه في السابق، إنهم يريدون الآن «توسيع رقعة التدخل الحكومي» . واعلن الرئيس الأمريكي الجديد أوباما عزم الولاياتالمتحدةالامريكية علي إحداث تحول في السياسة الاقتصادية- وعلي اخضاع أسواق المال لقيود صارمة. فقد قال اوباما بالحرف الواحد : «إننا نواجه اعظم تحد في حياتنا». غير أن هذا كله لا يجوز أن يحجب عن ناظرينا أن أحدا من هؤلاء القادة ليس لديه برنامج شامل لمواجهة الانهيار. فالحكومات تحاول يائسة الحد من قوي السوق، وذلك من خلال قوانين وردود فعل تحاول اصلاح الحال بأساليب خطيرة، ومن خلال قدر يسير من الحماية التجارية. ومع أنها قد عقدت العزم علي التخفيف من حدة التحولات، لكنها تقف حائرة حيال الخطوات التي يتعين عليها اتخاذها. فهي تحاول العثور علي قواعد جديدة، علي أسلوب يضمن ترويض السوق من غير تعطيل القوي العاملة فيه، فالرأسمالية تعمل بنجاح فقط، حينما تحظي بتأييد الاغلبية الساحقة من المواطنين وحينما لا تؤدي إلي تفكك المجتمع وتدميره. والديمقراطية ايضا. تزدهر وتواصل الحياة، فقط، عندما يشعر المواطنون بأن النتائج التي تولدت عن الديمقراطية وعن اطارها الاقتصادية، اقتصاد السوق، تتصف بالعدالة. ولكن، ما البديل المناسب لاقتصاد السوق المحررة من القيود؟ وما الأساليب المناسبة لترويض الرأسمالية وللانتفاع، في الوقت ذاته. من قواها الضرورية لرفع مستوي الرفاهية؟ ما القواعد الضرورية لازدهار الاقتصاد والديمقراطية في آن واحد؟ إن هذه الاسئلة هي الموضوعات التي سيدور حولها الجدل في السنوات المقبلة. إن الحلول التي ستتخذ في هذا الشأن ستقرر مستقبلنا، ستقرر طبيعة المجتمع الذي سنعيش في كنفه وخصائص الدولة التي سنستظل بظلها. من هنا، فإن هذه المسائل هي الموضوعات التي يدور حولها هذا الكتاب أيضا. فهو يبين الأسباب التي دعت الدولة إلي الانسحاب شيئا فشيئا. من توجيه قوي الاسواق وتفضيلها ترك الساحة للرأسمالية الجديدة. إنه يبين كيف ازدهر اقتصاد السوق في الحقب الماضية، والعوامل التي كانت سببا في تعرض الرأسمالية للأزمة العالمية الراهنة.