في الدورة الثلاثين من مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، اختار المنظّمون أن يقوموا بإهداء هذه الدورة الاحتفائية إلى الفنانة ليلى علوي، ضيفة شرف المهرجان ومكرمته الأولى. لحظة التكريم في الافتتاح، ليلة أمس، ودخول النجمة المصرية على خشبة المسرح المغربي، بدت هذه اللحظة شديدة الخصوصية، كأن السينما تحتفي بذاتها عبر وجهٍ من وجوهها الأكثر صفاءً واستمرارًا. إطلالة ليلى علوي بالقفطان المغربي لم تكن مجرّد اختيارٍ أنيق، بل بيان ثقافي ناعم يوحّد بين المشرق والمغرب، بين هوية الفنانة المصرية وحميمية الجمهور المغربي الذي استقبلها بمحبةٍ واضحة. يأتي هذا التكريم في وقتٍ يتعزّز فيه حضور المغرب كأحد أهم المراكز الثقافية العربية، إذ لم يعد المهرجان مناسبةً للاحتفاء بالعروض فحسب، بل منصةً لإعادة تعريف معنى السينما في زمن التحوّل الرقمي. تكريم ليلى علوي في هذا السياق ليس حدثًا عرضيًا، بل اعترافًا بفنانة حافظت على اتزانها الفني وسط موجات التبدّل، وعلى حضورٍ يجمع بين الرصانة والجمال، بين النجومية والصدق الإنساني. لماذا ليلى علوي؟.. ربما طرح البعض هذا التساؤل، وهو سؤال مشروع، يعيد قراءة المشوار الحافل لفنانة ظلت منذ بداياتها في الثمانينيات، وجهًا صادقًا لصورة المرأة بتنوعاتها في السينما المصرية.. امرأة تحلم وتقاوم وتحبّ وتفكّر. تنوّعت أدوارها بين الواقعي والرمزي والفانتازي والرومانسي وحتى الكوميدي والاستعراضي أحيانا، كذلك كان الأمر في أدوارها بالدراما التلفزيونية التي منحتها بعدًا اجتماعيًا أكثر حضورًا. لأنها تمثّل نموذج الفنانة التي تجمع بين الموهبة والنضج والوعي الثقافي، فإن اختيارها لتكون "ضيف شرف" في الدورة الثلاثين من مهرجان سينما المؤلف يُعد تكريمًا للسينما التي تصنع المعنى لا المجد فقط. ليلى علوي ليست غريبة على المهرجانات المغربية. فقد سبق أن كُرّمت في مراكش وتطوان والدار البيضاء، غير أن تكريم الرباط يبدو مختلفًا في دلالته. في حين كانت التكريمات السابقة احتفاءً ب"المسيرة الطويلة"، يأتي تكريم الرباط احتفاءً بالفكر الفني ذاته، في مهرجان يُعنى بالمؤلف، بالسينما التي تنبع من الرؤية لا من الاستعراض. بما يؤكد في الجوهر أن حضور ليلى علوي لم يعد حضور ممثلة، بل رمز فني عربي يجمع بين الحسّ الجمالي والإدراك الثقافي، بين النجومية والالتزام. وأن هذا التكريم يعبّر في رأيي عن دبلوماسية ثقافية ناعمة بين القاهرةوالرباط. فهو ليس فقط تحية لفنانة مصرية، بل أيضًا رسالة تشير إلى السينما كأداة تواصل بين الشعوب. المغرب بهذا الاختيار يؤكّد انفتاحه على الفضاء العربي، ويحتفي بالروابط التي تجمعه بمصر، البلد الذي أهدى العالم العربي واحدة من أعرق مدارس الفن السابع. أما ليلى، فهي واحدة من أيقونات السينما المصرية التي تجسّد هذا المعنى.. الفن الذي يوحّد ولا يفرّق. خلال مشوار طويل من العمل والتحديات، انتقلت ليلى علوي من كونها "وجه أنثوي جميل" إلى أن تصبح صوتًا يعيد تعريف دور المرأة في السينما. تكريمها في الرباط لا يُعيدنا إلى الماضي بقدر ما يفتح أفقًا للمستقبل: هل يمكن أن تتحوّل الممثلة إلى "مؤلفة بالضوء"؟ وهل يمكن أن تصبح الصورة أداة وعي لا مجرد وسيلة فرجة؟ نعم .. يمكن، فالمسألة تتجاوز حدود الشخصي إلى ما هو أبعد من النجم، فهو يعكس تحوّل المرأة في السينما المصرية والعربية عموما من موضوعٍ للفرجة إلى ذاتٍ فاعلة ومبدعة ومفكّرة. عشرات الأدوار التي تنوعت في طبيعتها ومضمونها، تكاد تصل إلى 200 عمل في السينما والمسرح والتلفزيون، لكنها جميعًا تشترك في القدرة على التلوّن دون فقدان الهوية. من أبرزها :إنذار بالطاعة" (1993) إخراج عاطف الطيب، في دور يحمل تدرجات إنسانية واجتماعية مختلفة من الفرح والألم، كذلك «يا دنيا ياغرامي» (1995) إخراج مجدي أحمد علي، يُعد هذا الفيلم من علامات السينما النسوية في التسعينيات، إذ تناول حياة ثلاث نساء من الطبقة الشعبية المصرية وسط تحولات المجتمع. أدّت ليلى علوي دورًا يجمع بين المرأة المكافحة والأنثى الحالمة، مانحة الشخصية صدقًا ودفئًا جعلها قريبة من وجدان الجمهور. أداؤها كان طبيعيًا، لا يعلو على السياق، لكنه يرسّخ العمق الداخلي للشخصية، في انسجام مع بقية بطلات الفيلم. و«سمع هس» (1991) إخراج شريف عرفة، في هذا العمل الكوميدي الاجتماعي الساخر، قدّمت ليلى علوي أداءً متوازنًا بين الطرافة والوعي، مجسّدة شخصية الراقصة الشعبية التي تشارك في حلمٍ فني يقف في وجه القمع والفساد. ما ميّزها هنا هو قدرتها على أن تكون نغمة خاصة وسط فريق قوي، إذ استخدمت ملامحها وأسلوبها التعبيري ببراعة، دون الوقوع في النمطية المعتادة لأدوار الراقصات. أما «يا مهلبية يا» (1991) إخراج شريف عرفة، ففي هذا الفيلم التاريخي الساخر، برزت ليلى علوي كشخصية نسائية لافتة داخل بناء درامي معقد يمزج الماضي بالحاضر. حضورها كان بمثابة مرآة ساخرة للسلطة والتاريخ، مع أداء يجمع بين الجاذبية الأنثوية والوعي النقدي. استطاعت أن تضيف نكهة خاصة إلى الفيلم، من خلال ذكاء أدائي يوازن بين الكوميديا والدلالة الرمزية. غير أن هذا الفيلم من إنتاجها، تجربتها الإنتاجية، هذا الفيلم ومسلسلين أخرين، وإن لم تكن غزيرة كمًا، فإنها ثريّة نوعًا ودلالةً؛ لأنها تعبّر عن فنانة اختارت أن تكون جزءًا من الحركة الإنتاجية بالمعنى الذي يجعل الانتاج امتدادا طبيعيا لنضجها الفني والإنساني. بينما "خوخة" في فيلم (خرج ولم يعد) إخراج محمد خان ، برزت من خلاله ليلى علوي بدور وبدت كرمز للبراءة والتمرد الخفي، مقدّمة أداءً يجمع بين هشاشة الروح وقوة التعبير. استطاع محمد خان أن يعكس صورة المرأة المصرية في المجتمع الحديث والمعقد، حيث القيود والعلاقات العاطفية والاجتماعية المتشابكة. في هذا الدور أظهرت ليلى قدرة ملحوظة على التعبير الصامت: نظراتها، حركاتها الدقيقة، وحتى صمتها كان يملأ المشهد دلالات. أداؤها لا يعتمد على الكلمات فقط، بل على التوتر الداخلي والحركة المرهفة، ما جعل خوخة شخصية حية وواقعية. خوخة كانت محطة مهمة في تطور ليلى علوي الفني، إذ أظهرت قدرتها على تحمل أدوار مركّبة ومعقدة منذ بداياتها. في حين جاء حضورها مثلا في مسلسل «حديث الصباح والمساء» (2001) المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، يتحلى ببراعة استثنائية في تجسيد تطورات الشخصية عبر الزمن. استطاعت أن تعبّر عن تحولات نفسية واجتماعية دقيقة، مانحة الدور عمقًا ملحوظا. كان هذا العمل تأكيدًا على قدرتها على تطويع الأداء للمراحل العمرية والفكرية للشخصية، بعيدًا عن أي استعراض شكلي. تتعدد الأدوار والنتيجة واحدة أننا بصدد ممثلة استطاعت أن تحطم الحاجز الوهمي بين التمثيل والنجومية، فامتلكت طرفي المعادلة، لذا فإن تكريمها خلال مهرجان الرباط لسينما المؤلف في دورته الحالية، هو نوع من الاحتفاء بالفنانة الدؤوبة التي تواصل مسيرتها رغم أية تحديات، كذلك بالسينما التي لا تزال قادرة على أن تجمع الشعوب رغم اختلاف الجغرافيا.