أصبحنا فى عالم تحكمه الخوارزميات والمعادلات والروبوتات والذكاء الاصطناعى بشكل غير متوقع يفوق الخيال، وهو ما يضع الأديان بعمقها التاريخى ومرجعيتها الروحية والإيمانية التى تراكمت عبر قرون عديدة فى اختبار حقيقى - وهو اختبار تجاوز البعد الفكرى والإيمانى - إلى تحدى البقاء والوجود. وذلك بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعى ليس مجرد وسيلة لمساعدة الإنسانية على التطور والارتقاء، بل إلى عامل تغيير رسم منظومة المعرفة الإنسانية من جانب، وما يمس المعتقدات الدينية ودور المؤسسات الدينية التقليدية من جانب آخر. فضلًا عن تحديد الفرص والتحديات، ويبقى السؤال الأساسى: هل فعلًا أصبح الذكاء الاصطناعى أخطر على الدين من الإلحاد؟! الفرص لمن يريد أن يرى الضوء فى لقاء «إيجاد الشجاعة لتحقيق السلام» الذى عقدته جمعية سانت إيجيدو بروما فى 28 أكتوبر سنة 2025. أكد د. أحمد الطيب «شيخ الأزهر» أن الأزهر مع الفاتيكان يعملان على صياغة «ميثاق لأخلاقيات الذكاء الاصطناعى» لتكون مرجعًا أخلاقيًا وإنسانيًا عالميًا.. ينظم العلاقة بين الإنسان والتقنيات الحديثة، وهو ما يفتح الباب لحوار لأحد أهم التحديات المعاصرة. من الممكن أن يكون الذكاء الاصطناعى حليفًا للدين من خلال توظيف كل روافد المعرفة فى تحليل النصوص الدينية، وترجمتها إلى لغات متعددة، وتقديم شرح مبسط لها.. مما يسمح من انتشار الفكر الدينى من خلال الوسائط الرقمية التفاعلية للعديد من أتباع الأديان بشكل غير مسبوق، وهو ما يجعلها أكثر تأثيرًا على المدى القريب. ويمكن أن يدعم الذكاء الاصطناعى ما يخص البعدين القيمى والأخلاقى.. فى حالة إذا تم توجيهه وتغذيته بما يدعم ويقوى القيم الإنسانية المشتركة من العدل والمسواة والتسامح وقبول الاختلاف والتعددية بشكل لم يكن متاحًا قبل ذلك من خلال استخدام كل أدوات الذكاء الاصطناعى التى تخاطب بشكل يتناسب مع الأجيال الشبابية. من الفرص المتاحة أيضًا أن يدعم الذكاء الاصطناعى الباحثين والدارسين فى الحقل الدينى العديد من أدوات التحليل المتقدمة: تحليل المخطوطات، والربط بين العلوم الدينية، واستنباط ما لم يكتشف.. مما يعزز تأصيل الدراسات الدينية بشكل أكثر شمولًا. كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعى وتوظيفه فى رصد الاتجاهات الفكرية الحديثة، والكشف المبكر عن الخطابات المتطرفة أو البديلة، مما يمكن المؤسسة الدينية من أن يكون لها فعل استباقى، وليس مجرد رد فعل. تحديات التحول ليست بالأمر الهين.. رغم وجود فرص قوية متاحة، فهناك تحديات جوهرية تنتظر الدين مع تصاعد تطور الذكاء الاصطناعى. منها: -1 التحدى المعرفى: يعيد الذكاء الاصطناعى تشكيل الوسائل المعرفية التقليدية، وهو ما يعنى أنه سيقوم بتحليل النصوص الدينية، وتقديم تفسيرات وتحليلات ومقارنات نقدية بين الروايات الدينية المتعددة بمناهج بحثية وآليات علمية بعيدًا عن المكانة المقدسة للنصوص الدينية. -2 التحدى المؤسسى: قد تجد المؤسسات الدينية نفسها غير قادرة على مواجهة التحولات التقنية المتسارعة.. ليس فقط بسبب تأخيرها فى دراسة المتغيرات المترتبة على تغول الذكاء الاصطناعى فى حياة الإنسان، وسبل التعامل معه. ولكن بالدرجة الأولى أيضًا بسبب تأثير ذلك التطور على أتباع الأديان خارج نطاق تأثير المؤسسة الدينية عليهم.. مما سيسهم فى إضعاف قوتها الروحية والإيمانية عليهم، وهو ما سيترتب عليه بشكل أسرع من الطبيعى أن تتحول المؤسسة الدينية إلى رد فعل لهذا التأثير، وليست المسئولة عن صناعته. 3 – التحدى القيمى: من أخطر التحديات لأن الذكاء الاصطناعى يعتمد على السرعة وتوافر المحتوى والتفاعل اللحظى فى الرد على أى سؤال أو نقاش. بينما ترتكز الدراسات والعلوم الدينية فى مجملها على التأمل والتحليل والإيمان واليقين بالغيبيات. بالإضافة إلى أن أحد الثوابت الحاكمة لكل ما هو تقنى هو الربح، وهو ما سيهمش القيم الدينية للمجتمع باستبدالها بقيم العصر الرقمى. 4 - التحدى الأخلاقى: بعد أن تحول الذكاء الاصطناعى بخوارزمياته إلى رجل دين. وما يمكن أن يحدث فى حالة لو أخطأ الذكاء الاصطناعى فى فتوى أو تفسير أو تحليل؟ والأسوأ لو لم يكتشفه من يسأل الذكاء الاصطناعى، وتعامل مع إجاباته وتفاعل معها بثقة. وهى جميعها أسئلة ليس لها حلول قاطعة إلى الآن، ولا بد للمؤسسات الدينية أن تبادر قبل أن يخرج الأمر برمته عن نطاق عملها. 5 – تحدى العلم والإيمان: لأن الذكاء الاصطناعى يدعم العلم، على غرار: الجينات والبيئة والفضاء وتكنولوجيا المعلومات والأمراض. والمقابل هو القصص الدينية الغيبية التى تعتمد على الإيمان وحده فى مواجهة الانتقادات المنطقية.. خاصة فى الحالات التى تتعارض فيها النصوص والروايات الدينية الثابتة مع النظريات العلمية المتغيرة. ومع تأكيد مكمن الخطورة هنا فى تحويل المعرفة الدينية إلى خوارزميات دون التأكد من عدم تحريفها أو تأويلها. الذكاء الاصطناعى أخطر من الإلحاد.. فى اعتقادى، أن الإلحاد يمثل نوعًا من التحدى الفكرى للإنسان بوسائل محدودة بشكل مباشر، أما الذكاء الاصطناعى.. فلا يمثل فقط مجرد رؤية نقدية للمعتقدات الدينية، بل هو فى حقيقته تغيير للأساس المعرفى للدين، وإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم من خلال دعم العلم ونظرياته، وهو ما يؤكد أنه عندما تصبح حياتنا مرتكزة على الذكاء الاصطناعى، فإن الغيبيات المرتكزة على الإيمان.. ستتراجع فى مقابل تقديس البيانات والأرقام والمعلومات. ببساطة، إذا كان الإلحاد يعارض الإيمان بالأديان، فإن الذكاء الاصطناعى قد يجعل الاشتباك القادم موجه فى اتجاه تحديد مدى احتياج الإنسان للعقائد الدينية التاريخية من الأصل! ولماذا نحتفظ بالمقدسات الثابتة فى ظل التحليلات المتغيرة مع التطور المذهل للنظريات العلمية؟! وهنا، سيتجاوز الذكاء الاصطناعى مساحة المنافسة الفكرية إلى مساحة تشكيل من يملك الوسائل والأدوات المعرفية.. فالمعلومات هى أقوى أسلحة المستقبل على الاطلاق. المحذور هو أنه إذا استمرت المؤسسات الدينية خارج هذا السياق، فإن الذكاء الاصطناعى سيتجاوزها فى ظل التشكيك فى كل ما هو ثابت، وتعظيم قيمة المعرفة المرتكزة على المعلومات الدقيقة الضخمة اللانهائية. وهو ما يعنى أن الخطر الحقيقى ليس فقط فى فقدان المؤسسة الدينية لتأثيرها الروحى الدينى، بل فقدان أهميتها من الأساس فى حياة الإنسان المعاصر.. أو بمعنى أدق الإنسان الرقمى. مع العلم وضد الغيبيات.. قام رجال الدين ومجتهدوه على مر العصور.. بتفسير ما يخص الإنسان والحياة والكون، ولم يكتفوا بالحديث عن ما يندرج تحت مفهوم المجرد. ولكن بتطور الذكاء الاصطناعى ودخوله فى التفسير والتحليل.. تم تغيير القواعد المعتادة، وعلى سبيل المثال: لدينا الآن نماذج متعددة لتحليل المعلومات التاريخية، والتى تخضع للمقارنة بين فرضيات كثيرة. وهو ما يفرض قاعدة مرجعية جديدة، وهى: هل يمكن حقًا أن يكون هذا النص الدين أو ذاك بهذا المعنى؟ وكيف تغيرت المفاهيم الدينية وتطورت عبر الزمن؟ فى المقابل، نجد أن الروايات الغيبية والإيمانية، مثل: المعجزات والنبوات والمعانى التى لا تختبر حسب خوارزميات الذكاء الاصطناعى.. تصبح أقل حضورًا فى الوقت الذى نطالب فيه بالتواصل بين المعرفة والعلم. إن تقنيات الذكاء الاصطناعى لا تتعاطى مع الغيبيات بالقبول التلقائى، بل تحاول بناء نماذج أو تفسير أو حتى تشكيك فى بعض الأحيان. وهو ما يشكل ضغوطًا لا مثيل لها على المنظومة التى تعتمد على الغيبيات الإيمانية كأساس للمعتقدات الدينية. نقطة ومن أول السطر.. الدين فى العصر الرقمى.. إما أن يكون فاعلًا مبدعًا أو تابعًا مهمشًا، وإذا كان الإلحاد يشكل تحديًا فكريًا، فإن الذكاء الاصطناعى يشكل تحدى البقاء والوجود.. كيف ننتج المعرفة؟ وكيف نتعلم؟ وكيف نؤمن؟ وكيف نعيش؟! ترى، هل سنبدأ أم سنترك الآلات لتعبر عنا وتحكم حياتنا ومعتقداتنا؟! 1750