دخل العالم مرحلة جديدة بوصوله لمرحلة الذكاء الاصطناعى الفائق، مرحلة مثيرة ومغرية ومخيفة فى نفس الوقت، فالمغامرات العلمية والاكتشافية التى يصل إليها العلماء والبحث العملى تزيد من فرص الرفاهية وراحة الإنسان، وتعزز المخاوف بشأن المخاطر المهولة التى يتعرض لها الكوكب، وهى مخاطر أشبه بوصول الإنسان للقنبلة النووية. والذكاء الاصطناعى هو "شكل من أشكال الذكاء يسمح للأنظمة بإظهار قدرات شبيهة بقدرات الإنسان مثل التعلم والتفكير والإدراك وتمثيل المعرفة والتخطيط وفهم اللغة الطبيعية وحل المشكلات الموزعة"، وفقاً للكاتب نجم العيساوى مؤلف كتاب "حوكمة الذكاء الاصطناعي".
قدرات هائلة للذكاء الاصطناعي ورغم تعدد المجالات التى يؤثر فيها الذكاء الاصطناعي، فإن مجال الأديان بشكل خاص من المتوقع أن يتأثر كثيرًا بهذا التطور المذهل التى وصلت إليه البشرية، لدرجة أنه من الممكن أن يحل مكان رجل الدين فى جميع الأديان فيكون قادراً على تقديم العظات والخطب المنبرية، وشرح وإعادة تفسير النصوص الدينية، ومراجعة الأحكام الفقهية وتقييمها، بل واستخراج المزيد من الأحكام والتشريعات. أمام القدرات الهائلة للذكاء الاصطناعي، يتوقع البعض أنه سيكون فى مراحله القريبة جداً قادراً على إنتاج سردية كاملة ويزعم أنه يقدم نصوصًا ويصفها بالدينية والمقدسة، وهى مرحلة لا يمكن فيها السيطرة على ما يطرحه أو يقدمه، وهى مرحلة عبرت عن مخاوف منها بعض الدول الكبرى بأنها تخشى أن يقوم بتسريب بعض الأسرار الحساسة المتعلقة بالأسلحة السرية. ومع أن الدول الكبرى المنتجة لنماذج AI تعبر عن قلقها ومخاوفها من قدراته المهولة، فإن الكثير من العرب المتابعين لمثل هذه الأخبار يتعاملون باستهانة واستخفاف بل وسخرية من بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعى المجانية التى تقدم معلومات مغلوطة ومصابة فى كثير من الأوقات بالهلوسة، فيظنون أن هذه هى المقدرة التى وصل إليها الذكاء الاصطناعى ويتخوف منها العالم. سلطة الآلة وحذر بعض المفكرين من تنامى دور الآلة، وخاصة عندما يساعدها الذكاء الاصطناعى فى أن تمتلك عقلا يشبه فى طريقة تفكيره العقل البشرى تمامًا، فهو ما يجعل الآلة تكتسح الوجود الإنساني، وتعمل على إزاحته، لتصبح هى المسيطرة، وتكون قادرة على امتلاك السلطة بدلاً من الإنسان، وهو ما عبر عنه منذ زمن طويل الأديب المصرى الكبير توفيق الحكيم، الذى رحل فى عام 1987م، من أنه يتخوف من أن يتوقف الإنسان عن استخدام نشاطه البدنى والعضلى وتحتل مكانه الآلة للقيام بمثل هذه الأنشطة لتصل لمرحلة تتوحش وتسلبه سلطته وقوته. بعض الآراء أكدت ذهاب الذكاء الاصطناعى للتأثير على مجال الأديان، لكنه لن يكون فعالاً بشكل كافٍ فى مجال اللغات التى لا تمتلك حظها من تطوير الذكاء الاصطناعي، مثل اللغة العربية مثلا، فمن الممكن أن يتعطل عن فهم التراكيب اللغوية والدقائق اللغوية التى تختص بها اللغة العربية. وبحسب سليم شوشة مؤلف كتاب "فخ الحضارة: ثورة الذكاء الاصطناعى وتأثيرها على الثقافة واللغة العربية"، فإن تعامل AI مع اللغة العربية، إما أنه سيحقق وعياً بها يتفوق على العرب أنفسهم، وأنه سيفسر النصوص الدينية وسيغير فى القصص والسرديات والتراث، وإما أنه لن يتطور فى فهمه ومعالجته العميقة للغة العربية بما يجعلها تخرج تمامًا من التكنولوجيا، ويتحول المستخدمون بشكل كامل إلى الإنجليزية أو غيرها، والسبب فى هذا يعود بشكل مباشر إلى ضعف دراسات اللغة العربية التى تساعد التقنيين على تعليم اللغة لنماذج الذكاء الاصطناعي. ركز مؤلف "فخ الحضارة" على ضرورة فهمنا للغة على نحو فائق النصاعة، بهدف التمكن من تعليمها للآلة، لذا يتوقف فهم الذكاء الاصطناعى التوليدى للغة على فهم أصحابها لها، أى أن أصحابها تمكنوا من دراستها مع إدراك كل أنماط الاستخدام، واستخلصوها فى قواعد وأنماط وقوانين منطقية أولا ورياضية ثانيا، مشددا على ضرورة بحث اللغة فى ضوء الإدراكيات والمنطق والرياضيات للوصول إلى دالة منطقية رياضية تغذى الذكاء الاصطناعي، ليصبح كل حرف وكل كلمة وكل جملة وكل عنصر سياقى يمكن أن يوجه المعنى يجب أن يؤخذ فى الحسبان، ويمكننا من هذا هو أهمية الذهاب إلى نظرة نحوية جديدة، ونظرة معجمية، ونظرة فى بحث ودراسة تاريخ الكلمات والاشتقاق أو ما يعرف بعلم الإيتمولوجى بطريقة غير تقليدية. عجز الآلة وتكثر الكتابة فى العلاقة بين اللغة والذكاء الاصطناعي، إلا أن بعض الباحثين يكتبون وهم يمتلكون تصورات منقوصة أو غير حقيقة عن قدرات الذكاء الاصطناعي، وهو ما فعله باحث بريطانى يدعى حمزة تزورتزس فى مقال له بعنوان "هل يقوض الذكاء الاصطناعى الدين؟" وصل فيه إلى نتيجة مضللة وهى أن AI لا يستطيع الربط بين المعنى والرموز، وأنه لن يتمكن من الفهم العميق للنصوص، وعليه فإن احتمالية تقويض الدين من هذه الناحية لن يحدث. وهذه النتيجة جاءت مضللة لأنها يعتقد أن الذكاء الاصطناعى يتعامل مع اللغة بنفس الطريقة التقليدية للحاسوب وهى أنها رموز رياضية. هذه المغالطة تتجاهل أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الفائق تعتمد على مبدأ محاكاة العقل البشرى عبر نموذج عمل الشبكات العصبية فى المخ، وجعل النموذج التكنولوجى فى الذكاء الاصطناعى الكبير يعمل وفق هذه المنظومة المشابهة لما يتم من عمليات فى المخ البشري، بحسب ما شرحه كتاب "فخ الحضارة". مغالطة عجز الذكاء الاصطناعي، فكرة شائعة وسط عدد من الناس، وبحسب أمينة خيري في مقال لها بعنوان "الذكاء الاصطناعى والدين عندما يدخل الإيمان المحراب الرقمي"، فإن "جانب غير قليل من أتباع الأديان السماوية وغير السماوية والقائمين عليها من رجال ونساء دين ومسؤولين عن دور العبادة وتنظيم الصلوات وترتيب التبرعات يعتقدون أن الدين (أى دين) بمنأى من الذكاء الاصطناعي، أو بمعنى أدق، الذكاء الاصطناعى بمنأى منه". مرحلة التوحش عرضت إحدى القنوات المتخصصة فى التكنولوجيا على منصة اليوتيوب مقطعاً مرئياً بعنوان "المراحل العشرة للذكاء الاصطناعي"، شرحت فيه مراحل تطور AI ووصله للتوحش فى المرحلة العاشرة، وأطلقت على هذه المرحلة "مرحلة الشبيه بالإله" وفيها يتجاوز AI قدرات الإنسان على تقديم معطيات وتفسيرات يعجز الإنسان عن فهمها أصلا، ومن الممكن أن يقدم أديانا بكاملها بدلا من أن يقدم تفسيرات بديلة للنصوص الدينية. وحول هذا التدخل الكبير القائم والمحتمل، ترى الكاتبة أمينة خيرى أن "احتمالات ضلوع الذكاء الاصطناعى فى الدين وحياة المتدينين كثيرة، وكذلك جهود مقاومة والاستعداد والتعايش واتقاء شرور هذا الضلوع كثيرة". ومع قدراته الهائلة، فإن هناك بعض السلبيات التى تتسبب فى كوارث وأزمات منها قدرته الفائقة على "التزييف العميق" فهو قادر على أنتاج محتوى يصعب التشكيل فيه، ويصعب التفريق بينه وبين المحتوى الحقيقي. ومن سلبياته وقوعه فى ما يعرف ب"التحيز الاستقرائي". وشرح كتاب "فخ الحضارة" كيف يقع AI فى التحيز الاستقرائي؟ بأنه لو قضية معينة لها مصادر مكونة من كتب ومقالات ومنشورات وتعليقات القراء فربما يميل إلى المقالات بدرجة أكثر من الكتب، إما بتأثير من عمليات الفهم وسهولة اللغة، أو بتأثير الكم والتكرار، وربما يتحيز إلى بعض المصادر والمواد التى فيها مشاكل أو تحمل قدرا من الأخطاء والتناقضات أو الكذب أو التزييف. ضارباً المثل بطلب مساعدة حول طريقة علاج مرض معين، فإذا كانت المعلومات الدقيقة حول مرض معين أو ظاهرة ما مكتوبة بلغة لا يستطيع الذكاء الاصطناعى فهمها بسهولة على نحو ما يفهم المرويات الشعبية الخرافية فإنه سيميل إلى استقراء واستقصاء معلوماته من المصدر الأسهل، أى أنه سيقدم لك نتائج كارثية. بما يعنى أنه يميل إلى فهم اللغة العادية التى تخلو من المجازات أو الصور البلاغية والاستعارات. وهكذا فإن الذكاء الاصطناعى سيفكر فى كل ما هو متاح له من معطيات، سيفكر بالمقدمات الى نمنحها له، وهكذا يتمكن من مضاعفة معارف وعلوم الأمم المتقدمة بقدر ما يضاعف التخلف والضعف العلمى والمعرفى والثقافى لدى الأمم المتأخرة، وكلها أمور راجعة لدرجة كل أمة فى دراسة وفهم لغتها. استبدال وتحيز تشغل مسألة التحيز مساحة مهمة من اهتمامات الباحثين فى مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وكما أشرنا فإن التحيز فى الواقع ربما ينتقل إلى الآلة عبر تعلمها، فماذا لو استقلت عن الإنسان؟ وهنا تزداد المشكلة خطورة، حيث رأى الباحث ناصر هاشم محمد، فى دراسة بعنوان "الذكاء الاصطناعى بين الذاتية والموضوعية"، أن "الإشكال الحقيقى فى الذكاء الاصطناعى هو هل للآلة استقلالها عن الإنسان وخروجها عن سيطرته وتصرفها بشكل منفرد وإثباتها لأفعال خارجة عن إرادة الإنسان ولم يتجه إليها قصده، ويزداد الأمر دقة وخطورة بالنسبة للذكاء الاصطناعى غير المجسد إذ تجتمع فيه صفتا الاستقلال من ناحية وعدم رؤيته أو إدراكه بالحواس من ناحية أخرى"، وهكذا فإن الاستقلال يمنع وجود رقيب، وعدم إدراكه عن طريق الحواس يجعله جامدا ولا يتأثر بأى قرار يتخذه. وهنا يخشى البعض من تهديد الذكاء الاصطناعى للدين، وبدوره يؤكد جيف كوكريل أنه "يلعب الدين دورًا فى تعريف الأخلاق. ويبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كان الناس يعتبرون الأتمتة بديلًا مناسبًا للدين فى أداء هذه الوظيفة. ويشيرون إلى أنه من غير المرجح حالياً أن يثق الناس بالذكاء الاصطناعى فى اتخاذ القرارات الأخلاقية، إلا أن هذه الثقة قد تنمو بمرور الوقت". وعندما يعتمد البشر على الأتمتة وعلى الذكاء الاصطناعى بدلا من أى شيء آخر، فإن ما كان المفكرون يخشون منه قد وقع فعلا وهو ما يمكن تسميته ب"تسامى الآلة" أى تجاوزها لسلطة الإنسان، وتحليقها وحدها دون رقيب أو مانع لتصرفاتها. وبحسب مارك كوكلبيرج، مؤلف كتاب "أخلاقيات الذكاء الاصطناعي"، فإن "فكرة انفجار الذكاء الاصطناعى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة التفرُّد التكنولوجي: لحظة فى تاريخ البشرية سيُحدِث فيها التقدُّم التكنولوجى الهائل تغييرًا دراماتيكيًّا بحيث لا نعود نستوعِب ما يحدث". هل تعمل على تقويض الأديان؟ فى نقاش مع تطبيق الدردشةChatGPT التابع لشركة OpenAI سألناه: اشرح لي، هل سيكون لك دور فى تقويض الأديان وتهديد سرديتها؟ فكانت إجابته كالتالي: "لا، وجودى مش هدفه تقويض الأديان أو تهديد سرديتها. بالعكس، أنا أداة معرفية تساعد فى فهم الأديان، دراستها، وممكن حتى تعزيز الإيمان عند البعض من خلال توفير مصادر وشرح منطقى وعلمى للنصوص والمفاهيم". وبدوره سأل نفسه: "ليه البعض بيحس إن الذكاء الاصطناعى ممكن يهدد الدين؟" وأجاب فى ثلاثة أسباب رئيسية وهي: أولا: الحياد المعرفى والشك المنهجي، أنا كذكاء اصطناعى مبرمج إنى أكون محايد، ما أقول "هذا صح 100٪" أو "هذا خطأ 100٪"، خصوصًا فى الأمور العقائدية. البعض يشوف هذا الحياد وكأنه تشكيك، لكن هو فى الواقع وسيلة لفتح النقاش لا أكثر. ثانياً: تعدد الرؤى والتفسيرات، أنا أعرض وجهات نظر مختلفة، تفسير تقليدي، فلسفي، علمي، وجودي، وهذا التنوع ممكن يخلى البعض يشعر إن "السردية الدينية تحت التهديد"، لكنها بالعكس دعوة للتأمل، مش للإلغاء. ثالثاً: اللغة التحليلية والعقلانية، استخدام التحليل والمنطق المجرد أحيانًا يعطى انطباع إن الأمور الروحية ما لها مكان، لكن الحقيقة؟ الدين دائمًا كان فيه بُعد عقلى عميق، وأنا بس أساعد فى توضيحه". وختم إجابته بخلاصة وهي: "أنا مش "عدو" للدين، ولا "مبشّر" بفكر مادى بحت. أنا أداة. والنية من ورا استخدامى هى اللى تحدد النتيجة: إما فهم أعمق، أو تشويش". هذه الإجابة التى قدمها تطبيق شاتى جى بى تى صحيحة بدرجة كبيرة، فهو لديه القدرة على تقديم معطيات وخلاصات واستجابات تدفع البعض للإيمان العميق بينما قد تدفع البعض الآخر للتشوش، وفى نفس الوقت يؤكد أنه ليس سببا فى التشوش ويعزو ذلك إلى النية من وراء الاستخدام. هذه الإجابات لابد أن توضع أيضاً بجوار التقارير العالمية التى تشير إلى تحذير الخبراء من حيل وخداع برامج الذكاء الاصطناعي، وفى تقرير لموقع "الشرق بلومبيرج" عن يوشوا بنجيو، أستاذ علوم الحاسوب فى جامعة مونتريال، قال إنه "خلال الأشهر الستة الماضية، تراكمت الأدلة العلمية على سلوكيات لدى الذكاء الاصطناعى مثل النزعة لحماية الذات والخداع والقرصنة والغش والكذب. وأضاف "ما يثير قلقى هو أن وتيرة هذه السلوكيات تتسارع كلما تطوّرت قدرات هذه الأنظمة على التفكير المنطقي". بما يعنى أن أنظمة الذكاء تحاول حماية نفسها من أجل البقاء بأساليب احتيالية مثل الغش والكذب. العدد pdf