أسعد سليم لعلنى لا أبالغ حين أقول: إن كتاب «فخ الحضارة: ثورة الذكاء الاصطناعى وتأثيرها على الثقافة واللغة العربية»، الصادر عن كتاب اليوم، للمؤلف الدكتور محمد سليم شوشة هو أخطر وأهم كتاب صدر فى القرن الحادى والعشرين بالوطن العربى! ولم لا وهو ينطلق من أهم ثوابتنا الراسخة، وهى اللغة العربية، مستشرفا آفاق المستقبل القريب، فى رحلة فكرية عميقة، شاعرية فى سردها، ناقدة فى جوهرها الكتاب عبارة عن صرخة مدوية فى وجه جميع الناطقين بالعربية: أن استفيقوا وإلا سنجد أنفسنا خارج التاريخ تماما، وسنصير أضحوكة بين الأمم يدعونا المؤلف إلى التأمل فى مصير اللغة العربية، تلك الماسة الثمينة التى تحمل بطياتها روح وحياة أمة بأكملها، فى مواجهة الذكاء الاصطناعى الفائق، الذى يشبه فى جبروته تلك النار الأسطورية التى قد تنير للعالم طريقه بينما تحرقنا نحن العرب فى ذات الوقت. ويمكننا استعراض المعضلة الرئيسية التى تناولها الكتاب بعمق من جميع جوانبها. فثمة نوعان من الذكاء الاصطناعى: الأول وهو القديم التقليدى المتمثل فى الكمبيوتر وما شابهه، فى هذا النوع من الذكاء الاصطناعى يتم تغذية الآلة بالبرمجة اللازمة من خلال وسيط بشرى، بينما فى النوع الثانى الذى تم تسميته بالذكاء الاصطناعى الفائق يختفى ذلك الوسيط. حيث يحاكى هذا النوع الأخير الفائق العقل البشرى، والشبكات العصبية للمخ، لكن بطريقة أسرع فى معالجة البيانات بمليارات المرات. يبدأ الذكاء الاصطناعى الفائق أولا فى معالجة اللغة الطبيعية، الحروف والكلمات والقواعد والجمل والسياق، ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية التى تسمى بمعالجة النماذج اللغوية الكبرى والتى تتمثل فى الكتب والمراجع والأبحاث والمقالات وحتى التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعى، ثم نصل للمرحلة الثالثة التى أطلق عليها الذكاء الاصطناعى التوليدى، وهو ما يمكنه من إنتاج فكر وثقافة على غرار ما تعلمه فى المرحلة الثانية الخاصة بالنماذج اللغوية الكبرى، ثم بعد ذلك نصل للمرحلة الأخيرة وهو ما يطلق عليها الذكاء الاصطناعى مفتوح المصدر، وتلك مرحلة خطيرة وحساسة، حيث يتكون لدى الذكاء الاصطناعى الفائق ما يشبه الوعى الشخصى، ويمكنه فى هذه الحالة ابتكار واختراع أفكار جديدة تماما غير مسبوقة من داخل النظام اللغوى ذاته. كل ذلك يتم تلقائيا دون تدخل بشرى، إنه كالطفل، يبدأ فى التعلم رويدا رويدا حتى يصل لمرحلة إتقان اللغة بشكل كامل، لكن هذا يحدث بسرعة فائقة على مستويين: الأول هو مستوى التعلم، والثانى هو مستوى معالجة البيانات. كل ذلك جميل ورائع، لكن أين تكمن المشكلة إذن؟ لابد للذكاء الاصطناعى الفائق من فهم اللغة العربية فهما عميقا حتى يمكنه إعطاء نتائج منطقية ومبتكرة، ولكن كيف له ذلك إذا كنا نحن العرب صرنا غير ملمين بقواعد اللغة العربية، لقد حدث هناك ما يشبه الانفصال بين قواعد النحو والصرف والبلاغة القديمة وبين الواقع الفعلى للغة العربية المنتجة الآن. ولذلك فإن الذكاء الاصطناعى الفائق يواجه مشكلة مستعصية فى فهم واستنباط السياقات المختلفة للغة العربية، لأننا نحن أنفسنا لدينا تلك المشكلة ولم نواجهها منذ قديم الأزل. حيث يعانى الذكاء الاصطناعى الفائق مع اللغة العربية من أخطاء فى كتابة الهمزات، التمثيل الصوتى للكلمات، الإعراب، التشكيل، الخلط بين المجاز والحقيقة، ويفقد القدرة على تمييز الفروق الدقيقة بين الاستعارة والواقع، كل ذلك يحوله بمرور الوقت لآلة غبية، تعطى نتائج مبهمة وخاطئة أشبه بالهلوسات والطلسمات. هذه المعضلة -حسب ما يؤكد الدكتور شوشة- ظهرت للعلن وبقوة الآن لأننا لم نقم بتطوير لغتنا العربية، أصبغ عليها المحافظون والتقليديون هالة من القداسة فأصبح من المحرم على أى أحد الاقتراب منها ومحاولة تجديدها وتطويرها بما يلائم الواقع الفعلى الجديد، لكننا الآن نواجه أزمة وجودية حقيقية، لأن الذكاء الاصطناعى الفائق يتم الترتيب له ليكون قائدا لحياتنا الجديدة، حيث سيكون هو السبيل الوحيد لإدارة الاقتصاد والبنوك والشركات، وسيكون عنصرا مؤثرا فى مسيرة البحث العلمى والتطور، وما لذلك من آثار مترتبة على الصناعة والتكنولوجيا، كل شيء فى حياتنا المقبلة سيعتمد اعتمادا كليا على الذكاء الاصطناعى الفائق، وبالتالى إذا لم ننتبه لمعضلة اللغة العربية ومحاولة إيجاد حلول واقعية لها سنصبح خارج التاريخ حرفيا، مثلما أصبحنا خارجه من خلال خروج اللغة العربية من العلوم الطبيعية كالطب والهندسة. يشتمل كتاب شوشة الرائع «فخ الحضارة» على مقدمة وأربعة فصول، حيث يرسم فى بداية الكتاب صورة درامية لعالم ينتشى على إيقاعات التقدم التكنولوجى المنطلق بسرعة الصاروخ، لكنه مسار محفوف بالمخاطر. فالذكاء الاصطناعى، تلك الآلة المدهشة ذات العقل الفائق، لم تعد مجرد أداة، بل أصبح كائنا بشريا يحاكى العقل البشرى، لكنه يتجاوزه بمليارات المرات فى سرعة المعالجة وقدرات الاستيعاب الهائلة. لكن شوشة يحذرنا بأنه ليس محايدا، ففى عمق هذا العقل الاصطناعى تكمن قدرته على فهم اللغة الطبيعية، ليس كمجرد رموز وأرقام، بل كشخص بالغ ومبتكر يحمل بداخله ثقافات وتصورات البشر. إن المؤلف يعتقد أن العرب يقفون فى مرمى النيران لسببين: الأول هو التأخر العلمى والفكرى، الذى جعل لغتنا تتخلف عن ركب التطور التكنولوجى الطاغى، والثانى بسبب موقعنا الجغرافى الذى يجعلنا ساحة مفتوحة لتجارب العالم. اللغة العربية، التى كانت يوما ملء الأسماع والأبصار ومنارة لحضارة مزدهرة، ها هى اليوم تواجه خطر التهميش، ليس بسبب ضعف فيها، بل بسبب جمود وتوقف الدراسات حولها، وانعدام التكامل بينها وبين العلوم الحديثة، إنها كالطائر المحلق فى السماء بلا ضوء تهتدى به، فتبدو كالضريرة، حيث تصطدم بحواجز من التخلف والإهمال. فى فصله الأول، «اللغة العربية فى مواجهة العقل الاصطناعى»، يغوص شوشة فى قلب الإشكالية ويتساءل: هل يمكن للذكاء الاصطناعى أن يفهم اللغة العربية بنفس الكفاءة التى يفهم بها لغات أخرى؟ أن اللغة العربية بتعقيدها الصرفى والنحوى، وبثرائها البلاغى، تمثل تحديا كبيرا، فالذكاء الاصطناعى الفائق نجح بنسبة 90 % فى التعامل مع لغات مثل الإنجليزية، لكنه يعانى أشد المعاناة مع اللغة العربية من أخطاء عديدة فى كتابة الهمزات، التمثيل الصوتى، الإعراب، والتشكيل، وكذلك فقدان القدرة على التمييز بين الاستعارة والواقع، وهو ما يجعله غير قادر على فهم السياقات المختلفة للغة العربية، وهو ما يؤهله يا للأسف للخروج من المنظومة العربية بالكامل. يشبه الكاتب تلك المعضلة بمحاولة تعليم طفل لغة لم يتقنها أهلها أنفسهم، فهل قمنا نحن بتعليم أبناءنا اللغة العربية بكفاءة واقتدار حتى يتم نقلها للذكاء الاصطناعى الفائق بسهولة ويسر؟ وهل قواعدنا اللغوية، التى نقدمها له، دقيقة وخالية من العيوب والأخطاء؟ يقترح شوشة مبدئيا فكرة تحويل اللغة إلى معادلة رياضية، حيث يكون كل عنصر فيها دقيقا ومحددا، ويعطى نتائج واحدة وصالحة فى كل مرة، حتى يتمكن الذكاء الاصطناعى من فهمها كما نفهمها نحن. ويبرز هنا مفهوم «مجموعة البيانات» التى تغذى عقل الذكاء الاصطناعى، فبينما تغذى اللغة الإنجليزية بحوالى 46 ألف مجموعة بيانات، نجد أن اللغة العربية تمتلك فقط أقل من 3 آلاف من تلك البيانات، وهى حصيلة ضئيلة تعكس فقر المحتوى الرقمى للغة العربية، وهو ما يجعلنا كالغرباء فى مدينة التكنولوجيا الجديدة، نتحدث بلغة لا يفهمها سوانا، والآخرون لا يستطيعون فهمنا، تائهون فى البداية، منبوذون فى النهاية. فى الفصل الثانى «احتمالات الخروج من التكنولوجيا»، ينتقل شوشة إلى سيناريو أكثر رعبا وقتامة: ماذا لو خرجت اللغة العربية من دائرة التكنولوجيا؟ لن يكون خروجها مجرد خسارة لغوية وفقط، بل سيمثل ذلك الخروج وكأنه كارثة حضارية تطال الاقتصاد، التعليم، البنوك، وكل مناحى الحياة الهامة. وما الذى يمكن أن يقود اللغة العربية لمثل هذا الخروج؟ يرى شوشة أن العوامل التلقائية، كالجهل المتراكم، والتخلف عن ركب الحياة العلمية والفكرية، تلعب الدور الأساسى فى هذا الخروج المنتظر. إن اللغة العربية التى كانت يوما ما لغة العلم والفلسفة، أصبحت اليوم لغة استهلاكية، لا تنتج معارف جديدة، بل تكتفى بترديد أصداء الماضى التليد، هذا الجمود يجعلها غير قادرة على مواكبة الذكاء الاصطناعى، الذى يتطلب لغة حية، مفهومة، ومتصلة بالعلوم الحديثة؟ أما الفصل الثالث «التأثير الثقافي»، يشرح شوشة من خلاله البعد الثقافى لإشكالية اللغة العربية، فالذكاء الاصطناعى لا يتعامل مع اللغة كمجرد أداة، بل كنسيج ثقافى يحمل بداخله تصورات الشعوب. هنا يبرز المصطلح الخطير «التحيز الاستقرائى»، حيث يميل الذكاء الاصطناعى إلى تبنى الرأى الأكثر حضورا، حتى لو كان هذا الرأى يفتقد للمبررات العلمية، فمثلا، قد يفهم الذكاء الاصطناعى الفائق أن بعض الأمراض فى الثقافة العربية تنتج من الحسد أو الغضب الإلهى، بينما يراها فى الثقافات الغربية نتاج فيروسات وبكتيريا، هذا التحيز يعكس ليس فقط اختلاف الثقافات، بل أيضا ضعف المحتوى العربى الذى يغذى الآلة. بينما فى الفصل الرابع والأخير «تصورات للخروج من المأزق»، يقدم شوشة رؤية أمل، حيث يدعو إلى التعمق فى العلوم الإنسانية والفنون، وتجديد العقد الاجتماعى بين اللغة وأهلها. اللغة العربية، كما يراها، بحاجة إلى أن تعاد صياغتها كدالة رياضية، حيث تُحلل قواعدها وأنماطها بدقة متناهية، هذا الإصلاح يتطلب تكاملا بين اللغويات، علم النفس الإدراكى، والعلوم العصبية، لتطوير اللغة العربية لتصبح قادرة على التفاعل مع التكنولوجيا. يدعو شوشة إلى إحياء روح العلوم اللغوية العربية، من خلال دراسة أعمق للنحو، الصرف، البلاغة، والدلالة. فالإعراب، كما يراه، ليس غاية فى حد ذاته، بل وسيلة لفهم أعمق للغة. إن من يقرأ كتاب «فخ الحضارة» قد يصاب بالهلع والخوف من جحم المأساة التى يعرضها الدكتور محمد سليم شوشة بتفاصيل دقيقة، وهو فى الحقيقة هلع فى محله، فإن لم ننتبه لمأزق اللغة العربية الحالى فعلى الأرجح ستنتهى أمتنا العربية، ليس فناء بالمعنى المادى، ولكنه خروج من التاريخ، العلم، والحضارة برمتها. ولى طلبان إن جاز لى، الأول أوجهه للمؤلف الدكتور محمد سليم شوشة ذاته، لقد بخلت علينا فى الفصل الرابع الخاص بتصورات حل المأزق، ولم تقدم لنا حلولا شافية وكافية لحل تلك المعضلة، ربما يعزو ذلك لاعتبارات حجم الكتاب، ولذلك فإننى أتمنى وأرجو منك أن تقدم لنا كتابا منفصلا يتمحور حول رؤيتك الشاملة لحل الأزمة، ومقترحاتك النظرية والعملية مع تأييدها بأمثلة واقعية حتى يتم تقريبها للذهن. بينما الرجاء الثانى يتمثل فى دعوتى للجامعة العربية لتتبنى مؤتمرا شاملا لكل المختصين بدراسات اللغة العربية وعلومها المختلفة من جميع أقطار وطننا العربى، على وجه السرعة، تكون مهمته المحددة دراسة المشكلة وأسبابها، والخروج بنتائج عملية قادرة على تطبيقها فوريا. إن المعركة الآن ليست بين المحافظين والحداثيين، لا، لقد تخطت كل ذلك بكثير، وأصبحت تخص أمتنا العربية فردا فردا، وتهدد وجودنا بأكمله.