رئيس جامعة بنها: التعليم بداية الطريق وتقديم كافة أنواع الدعم للخريجين    بعد «الإحلال والتجديد».. افتتاح مسجد العبور بالمنيا    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 فلكيًا في مصر (تفاصيل)    الرئاسة في أسبوع، السيسي يوجه بوضع خارطة طريق شاملة لتطوير الإعلام.. حماية تراث الإذاعة والتلفزيون.. ورسائل حاسمة بشأن أزمة سد النهضة وحرب غزة    «يا رايح للنبي».. سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025    تفاصيل التقديم على الشقق البديلة لسكان «الإيجار القديم» (الأوراق والمستندات المطلوبة)    غدًا.. انطلاق حملة تحصين الماشية ضد العترة الجديدة من الحمى القلاعية في الشرقية    قبل ساعات من قمة ألاسكا.. بوتين في أكبر مصنع روسي لإنتاج كبسولات تعزيز الذاكرة والمناعة (تفاصيل)    «حرب أهلية».. أحمد موسى يرد على تهديدات أمين عام حزب الله    متحدث باكستاني: عدد قتلى الفيضانات المفاجئة في شمال غرب باكستان ارتفع إلى 157 شخصا    المتحدث العسكري ينشر فيديو عن جهود القوات المسلحة في إرسال المساعدات الإنسانية إلى غزة (تفاصيل)    عودة ديانج.. تشكيل الأهلي أمام فاركو في الدوري المصري    الاتحاد السكندري يعاقب المتخاذلين ويطوي صفحة فيوتشر استعدادًا ل «الدراويش» في الدوري    فليك: جارسيا حارس مميز وهذا موقفي تجاه شتيجن    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة بشأن حالة الطقس الأسبوع المقبل    ب6 ملايين جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    المنيا.. مصرع طفلة إثر صعق كهربائي داخل منزل جدتها بسمالوط    20 صورة من حفل تامر عاشور في «العلمين» بعد تخطي الطاقة الاستيعابية للمكان    فنانو مصر عن تصريحات «إسرائيل الكبرى»: «نصطف منذ اليوم جنودًا مدافعين عن شرف الوطن»    عمرو يوسف: تسعدني منافسة «درويش» مع أفلام الصيف.. وأتمنى أن تظل سائدة على السينما (فيديو)    وفاء النيل.. من قرابين الفراعنة إلى مواكب المماليك واحتفالات الخديوية حتى السد العالي    حكم من مات في يوم الجمعة أو ليلتها.. هل يعد من علامات حسن الخاتمة؟ الإفتاء تجيب    «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة».. إمام المسجد الحرام: تأخير الصلاة عند شدة الحر مشروع    خطيب الجامع الأزهر: الإسلام يدعو للوحدة ويحذر من الفرقة والتشتت    «السلام عليكم دار قوم مؤمنين».. عالم بالأزهر: الدعاء عند قبور الصالحين مشروع    بحث تطوير المنظومة الطبية ورفع كفاءة المستشفيات بالمنيا    نائب وزير الصحة: مهلة 45 يومًا لمعالجة السلبيات بالمنشآت الطبية في المنيا    بطعم لا يقاوم.. حضري زبادو المانجو في البيت بمكون سحري (الطريقة والخطوات)    خدمات علاجية مجانية ل 1458 مواطنا في قافلة طبية مجانية بدمياط    بافارد على وشك مغادرة إنتر.. هل يختار السعودية أم البقاء في أوروبا؟    الصفقة الخامسة.. ميلان يضم مدافع يونج بويز السويسري    متى تنتهي موجة الحر في مصر؟.. الأرصاد الجوية تجيب    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالفيوم    عودة أسود الأرض.. العلمين الجديدة وصلاح يزينان بوستر ليفربول بافتتاح بريميرليج    ترامب يؤيد دخول الصحفيين إلى قطاع غزة    مالي تعلن إحباط محاولة انقلاب وتوقيف متورطين بينهم مواطن فرنسي    البورصة: ارتفاع محدود ل 4 مؤشرات و 371.2 مليار جنيه إجمالي قيمة التداول    قصف مكثف على غزة وخان يونس وعمليات نزوح متواصلة    رانيا فريد شوقي تحتفل بعيد ميلاد الفنانة هدى سلطان    117 مليون مشاهدة وتوب 7 على "يوتيوب"..نجاح كبير ل "ملكة جمال الكون"    مديرية الزراعة بسوهاج تتلقى طلبات المباني على الأرض الزراعية بدائرة المحافظة    تراجع معدل البطالة في مصر إلى 6.1% خلال الربع الثاني من 2025    السيسي يوافق على ربط موازنة هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة لعام 2025-2026    الكنيسة الكاثوليكية والروم الأرثوذكس تختتمان صوم العذراء    الزمالك يمنح محمد السيد مهلة أخيرة لحسم ملف تجديد تعاقده    الكشف على 3 آلاف مواطن ضمن بقافلة النقيب في الدقهلية    «الطفولة والأمومة» يحبط زواج طفلتين بالبحيرة وأسيوط    محافظ الدقهلية يتفقد عمل المخابز في المنصورة وشربين    نائب وزير الصحة يتفقد المنشآت الطبية بمحافظة المنيا ويحدد مهلة 45 يوما لمعالجة السلبيا    الإدارية العليا: إستقبلنا 10 طعون على نتائج انتخابات مجلس الشيوخ    ضبط مخزن كتب دراسية بدون ترخيص في القاهرة    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025 والقنوات الناقلة.. الأهلي ضد فاركو    ياسر ريان: لا بد من احتواء غضب الشناوي ويجب على ريبييرو أن لا يخسر اللاعب    قلبى على ولدى انفطر.. القبض على شاب لاتهامه بقتل والده فى قنا    ضربات أمنية نوعية تسقط بؤرًا إجرامية كبرى.. مصرع عنصرين شديدي الخطورة وضبط مخدرات وأسلحة ب110 ملايين جنيه    الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب عن : المقاومة وراء الاعتراف بدولة فلسطين    نفحات يوم الجمعة.. الأفضل الأدعية المستحبة في يوم الجمعة لمغفرة الذنوب    بدرية طلبة تتصدر تريند جوجل بعد اعتذار علني وتحويلها للتحقيق من قِبل نقابة المهن التمثيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجامعة الزيتونية.. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود
نشر في المصريون يوم 01 - 08 - 2015


المقال مهدى إلى محسن العوني
بموجب الفترة المطوَّلة التي قضّيتها في جامعة الزيتونة في تونس طالبا وباحثا، على مدى السنوات المتراوحة بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي، سيكون جلّ اهتمامي في هذه المقالة منصبّا على التعرّض إلى تجربة التحصيل العلمي، إضافة إلى استحضار واقع الصراع على الزيتونة، بقصد التأمل في مسارات ومآلات مؤسسة دينية، لا تزال مثار جدل، لا سيما في ظل التحولات العميقة التي يشهدها مجتمعنا.
من الزيتونة إلى الغريغورية
غدا بمثابة اليقين لديّ، أن الإشكال الرئيس الذي يعاني منه الدرس الديني في مؤسساتنا التعليمية في تونس متلخص أساسا في أمرين: خضوع المقرّر التعليمي إلى وصاية سياسية توجه مساراته، ما انعكس على مضامينه وتطلعاته وآفاقه؛ ومن جانب آخر مجافاة منهج التعليم الديني للراهنية الحضارية، وهو ما يتجلى في غياب عناصر الواقعية، والعلمية، والمعقولية.
لم أكن قبل هجراني الزيتونة مقتنعا بالمنهج التعليمي السائد، لِما اتّسم به من قدامة وتقليد وسطحية وافتقار إلى البعدين النقدي والعقلي، في جلّ مواد العلوم الشرعية التي كنّا نتلقاها. وقد تبين لي جليا عقم هذا المنهج لما التحقت بوسَط أكاديمي كاثوليكي غربي، أقصد الجامعة الغريغورية، لفت انتباهي فيه تعاطيه المزدوج مع المسائل الدينية، وذلك ضمن مقاربتين، تنتهي كل منهما إلى الحرص على الإلمام بأبعاد "الكائن المتدين". حيث تتضافر الدراسة اللاهوتية الداخلية للدين مع الدراسة العلمية الخارجية له. وأعني بالدراسة الداخلية التركيزَ على دراسة علم اللاهوت المنهجي، وهو الاجتهاد لفهم مجمل الحقائق على ضوء تعاليم المسيحية، بما يماثل علم أصول الفقه لدينا؛ وعلم اللاهوت الرعوي، بما يضاهي دراسات الدعوة في جامعاتنا الإسلامية؛ فضلا عن اللاهوت التاريخي، ولاهوت الآباء، واللاهوت الروحي وغيرها من علوم الوسائل. تتضافر جميعا مع الدراسة الفلسفية ودراسة العلوم الاجتماعية، بما يسمح للدارس الإحاطة بمنهجين في معالجة الظواهر الدينية، أحدهما لاهوتي والآخر علمي، ويتيح له قدرات أرحب للتحليل والاستيعاب والفهم. فمن خاصيات المقاربة اللاهوتية/الشرعية أنها معيارية تحتكم سياقاتها إلى ما يتمتع به الإيمان من صدق، وهي تحاول أن تجيب عن أسئلة على غرار: ما الواجب علينا الإيمان به؟ وكيف نؤمن بالله؟ وضمن أي السبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي؟ وبشكل عام تتميز انشغالات هذا المقاربة في إقامة علاقة عمودية تصل الإنسان ببارئه، يتطلع فيها المرء إلى الانسجام الأمثل معه؛ وأما المقاربة العلمية والتي تستند بالأساس إلى الإناسة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والمقارنة، والظواهرية وغيرها، فهي تعنى بكل ما هو معتقَد من قِبل البشر، متطلّعة إلى فهم أكثر حداثة وأوفى إحاطة، بما يقدّمه كل دين لأتباعه، وباحثة عن التقاط معاني اللغات الدّينية ومفادها العميق. ولذلك كان علم الأديان يرصد ويقارن ويوضح ويسبر الأغوار، ويتفكر في الأمور بطريقة تحليلية نقدية توصل إلى توليف، متحوّلا من مستوى اختبار المقدّس المعيش إلى مستوى المفهمة.
تصحيح منهج الدرس الديني
غالبا ما برّر التعليم الديني في تونس عجزه الحضاري وخموله المعرفي بوقوعه رهن مؤامرة فرنكفونية علمانية، اُستهلّ مشوارها مع الاستعمار وتواصلت مع أعوانه، في حين أن الأزمة بالأساس هي بنيوية معرفية. وفي ظل اختلاط السبل، قنع الحريصون على التعليم الكلاسيكي بما كتب الله لهم، ولم تنشأ في أوساطهم عملية مراجعة تصحيحية داخلية. إذ كان الأولى طرح سؤال جدوى المعارف الدينية في الاجتماع، وأية مساهمة حضارية يمكن أن تسهم بها، بعيدا عن الإجابات الخلقية أو الميتافيزيقية أو المؤامرتية الجاهزة، التي تتوارى خلف قول النبي الكريم: "من أراد الله به خيرا فقّهه في الدين". إذ غالبا ما يُبرَّر الحرص على المعرفة الدينية بجدوى أنطولوجية ضامنة لحسن المآل، وإن كان مقاصد العلوم أن تستهدف بالأساس تطوير الموجود، وتحريك الراكد، وكشف المخبوء، والإحاطة بالماحول، ولكن سدنة المعارف الدينية، على وضعهم الحالي، يبدون غير قادرين على تولي هذا الدور المنوط بعهدتهم. فالمعارف في شكلها التقليدي السائد هي عاجزة عن بلوغ حاجات المجتمع، وبالمثل وكلاؤها هم أعجز عن بلوغ ذلك المراد، لافتقارهم الأدوات الموصلة إلى ذلك؛ وأما من ناحية طرْق مسارات نهضوية مستجدة، من خلال كشف المخبوء، فإن عدّتهم المعرفية لا تسمح لهم بخوض غمار شغل هو أكبر من قدراتهم، ما جعلهم منفعلين بالماحول، وعاجزين عن الفعل.
من هذا الباب، أقدّر أنه من غير المجدي متابعة التلقين والشحن للنشء بمعارف لا تنفع، ولا تتجاوز صدقيتها عتبات المساجد أو دائرتنا الإيمانية المتواضَع عليها. ولذلك يأتي إنهاك المرء بمقولات التراث المتراكم في علوم القرآن، وعلوم الحديث، والتفسير، والمقاصد، وما شابهها من المعارف، محدودَ الأثر. وفي الحقيقة من أوكد شروط التصحيح، وهو بلوغ الوعي بالبنى الاجتماعية والتاريخية التي ولّدت علومنا الدينية التي باتت تشكل وزرا علينا. لأن أي تكرار لمنهج التعليم السالف هو تعطيل لاندماج المرء في مجتمعه، فضلا عن صدّه عن بلوغ التعارف على مستوى كوني. وربما سؤال مباشر لكل منتسب للجامعات الإسلامية، وهو ما الشيء الذي يمكن أن يضيفه للعالمين خارج نسق مجتمعه الإسلامي؟ لذلك أقدّر أن شرط استعادة الدرس الديني دوره، يبدأ من مراجعة قدرة المدرّس على الإسهام الحضاري، فإن كان المدرّس ضنينا بذلك الدور، فهو أعجز عن مدّ يد العون للطالب ومرافقته نحو مدارج العلى المعرفي.
ربما يعي كثيرون ضيق أفق الدرس الجامعي لدينا، عند التطرق لمسألة الإلمام بالآخر، في وقت ما عاد فيه مبرّر لذلك الضيق. حين كنت طالبا في الزيتونة كان أحد أساتذتنا الأجلاء، ممن كلِّف بأداء درس علم الاجتماع الديني، وهو في الحقيقة مسقَط على هذا التخصص، يقرئنا القول الإنجيلي المأثور: "لا يعيش الإنسان بالخبز وحده بل بكلمة من فم الرب"، بطريقة مغلوطة: "لا يعيش الإنسان بالحبر وحده..."، ثم يستدرك مصححا: "لا يعيش الإنسان بالخبر وحده..." فتضجّ القاعة بالهتاف والضحك.
الصراع على الزيتونة
حين التحقت بالتدريس في جامعة "الأورينتالي" في نابولي، في مستهل مجيئي إلى إيطاليا، هالتني الحفاوة البالغة التي أحاطني بها كبار المستشرقين والمستعربين، بما خُيّل إلي أن الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، وتعُود تلك الحفاوة إلى أمر بسيط، أني خريج جامعة دينية، ما فتئت تمثل في المخيال الاستشراقي قلعة من قلاع المعرفة الإسلامية. في الحقيقة ما كنت أقدر على البوح لزملائي الإيطاليين بمآلات الانغلاق المعرفي الذي آلت إليه الزيتونة، فقد كانت نظرتهم مأسطرة عن هذه الجامعة، واردة من قرون مضت. والحال أنه بعد أن بات الصراع على أشده في الزيتونة وعلى الزيتونة، على مدار الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بين التيارات الإسلامية والسلطة، آلت فيه نتائج الصراع لصالح هذه الأخيرة. فشهدت المعرفة والدراسة حينها تورطا في مناورات سياسية ضارية، بما خلّف تراجعا معرفيا فادحا.
لكن رغم ابتعادي عن الجامعة الزيتونية، بقي سؤال استقلالية المعرفة الدينية وصوابية مضامينها العلمية حاضرا بشكل ملحّ في ذهني. أتساءل عن الحصيلة المعرفية التي توفرها الجامعة الدينية، وما تتيحه من قدرات للاندماج الاجتماعي لطالب العلم. غدا الأمر بمثابة اليقين لدي أن المعرفة الدينية الغيبية الطابع، والتي يعوزها التحاور مع المسارات الحداثية للمجتمع، هي غير قادرة على العيش إلا ضمن مؤسسات السلطان وفي ظله، وتعجز عن التواجد بذاتها، جراء الوهن المعرفي الذي تعاني منه. وهو ما جعل الخطاب الديني لدينا تابعا، وغير قادر على العيش بذاته. مع ذلك، كان وهْم الحضور لديه مستفحلا وهو غائب، وبالمثل كان وهْم الفعل لديه شائعا وهو عاجز.
الآفات المزمنة للدرس الديني
ثمة آفات عدّة تستحكم بالدرس الديني لدينا، سآتي لاحقا على ذكر بعضها. عموما لازم مطلب الإصلاح التعليمي تاريخ الزّيتونة، مع ذلك لم تتبلور بشأنه فلسفة للإصلاح، تخلّف تحوّلا وتطوّرا فاعلين. ولذلك تعدّدت دعوات الإصلاح دون أثرٍ يذكر، لما وعى به العديد العملية خطأً، كونها حلّة خارجية ترتديها المؤسّسة، على غرار الشعار الأجوف "الزيتونة أصالة وتفتّح" الذي رُفع طيلة التسعينيات. في حين يتمثّل الإصلاح الجوهري في ما ينبغي أن يقوم عليه الدرس من منهج عقلي تفكيكي، وأساس ديني إنساني منفتح، مصهورين في البرمجة. والملاحظ في مسار طروحات الإصلاح تلك، أن طلاّب الجامعة كانوا أكثر إدراكا لضرورته من شيوخهم، وهو أمرٌ عجزت هياكل الإشراف عن ترجمته إلى فلسفة تربوية علمية، لتناقُض نتائج العملية مع ولاءاتهم السياسية أو مع أهدافهم النّفعية. ومن الآفات المزمنة التي ألمحت، أذكر:
- آفة غياب شرط الواقعية في الدرس الديني، وهو شرط محوري، فلا يمكن ضمان فاعلية المعرفة الدينية في الاجتماع، ما لم تستجب للتحديات وتجيب عن التساؤلات. وبالتوازي لا يمكن للمعارف الدينية أن تكون واقعية ما لم تع أثر خطابها في العالم، فالمعرفة الدينية التي لا تستوعب المعطى الكوني هي معرفة منغلقة ومن اليسير انحرافها وسقوطها في الأوهام. وحتى تضمن المعرفة واقعيتها لزم أن تعيد النظر في مفهوم العلمية بشكل دائم ومتكرر وفق تعاطي نقدي مع الذات. فسابقا كان مفهوم العلمية في المعرفة الدينية مستمدا من سياق إيماني، ولكن في ظل واقع معولم ما عاد ذلك يفي بالغرض، حيث غدا مفهوم العلمية أوسع وأشمل. ما استوجب أن ينفتح فيه الدرس على المنجَز العلمي العالمي، أكان في المتابعة الداخلية للظواهر الدينية، في أديان قريبة أو نائية، أو كذلك في الانفتاح على المتابعة الخارجية للظواهر الدينية، ضمن الإلمام بعلوم شتى باتت ملحة للإحاطة بالكائن المتدين، على غرار علم الاجتماعي الديني والإناسة الدينية وتاريخ الأديان.
- آفة غياب شرط العقلانية: إذ ثمة تراجع هائل لمطلب العقلانية في الدرس الديني العربي، ولاسيما في كليات الشريعة. فهل معارفنا لها قيمة أو لها حضور خارج فضائنا المعرفي؟ ربما عدم الحضور عائد إلى عجزنا عن القيام بعملية نقدية لخطابنا الديني. وهل التعليلات التي نعلل بها جدوى معارفنا هي بحقّ تعليلات كونية؟ وهل خطابنا تجاه الآخر هو خطاب عقلاني ومعقول؟ لذلك طرح سؤال صِدقية المعرفة من الشّروط اللازمة لحفظ الفكر الدّيني من الزّيغ والضلال. ففي العصر الذي كانت فيه خيول الإسبان تدنّس حرم الزّيتونة، كان العقل الديني يتلهّى بفنطازيا الغيبيات وهو يحسب أنّه يحسن صنعا. ربما تعوزنا حتى الراهن الشجاعة الكافية للتطرق للزوايا المظلمة في تاريخنا الزيتوني وفي راهننا الزيتوني لافتقارنا لعقل ديني نقدي.
فمالم يكن ديدن المعرفة الالتزام بالنقد والتّمحيص من جانب، واليقظة والتنبّه لتبدلات الاجتماع البشري من جانب آخر، فإنها توشك أن تتحوّل إلى فلسفة إماتة للمجتمع. لعلّ المعرفة الإسلامية التي سادت في عصور الانحطاط والتي تخلّت عن هذين الشّرطين السّالفين، العقلي والاجتماعي، كانت مما شايع فلسفة الموات لا فلسفة الحياة، وهو ما وسمها بالتنكّر الرؤيوي للأسس الجوهرية للمعرفة الإسلامية.
- وهْم المعرفة المزيّفة: عادة ما يقع، عند استدعاء مجد التدريس الديني لدينا، التحجّج بالقلة والكثرة المتعلقة بأعداد الطلاب، دون التنبه إلى الإشكاليات الكامنة في ما وراء القلة والكثرة. سمعت كثيرا من أفواه أنصار التعليم الديني، أن الزواتنة كانوا أكثر نفرا إبان العهد الاستعماري منه أثناء العهد البورقيبي، وبالمثل غالبا ما تجري المقارنة بين أعداد طلاب الزيتونة، في مستهل عهد المخلوع وآخره، والحقيقة أن المساهمة الحضارية والإضافة المعرفية لا ترتبط بالكمّ بل بالكيف. فالإشكال الرئيس للدرس الديني متواجد حين سادت الكثرة وحين تراجعت إلى قلة، وهو عائد إلى غياب الأسس العلمية للدرس الديني. فاستدعاء مناهج العلوم الكلاسيكية الإسلامية لتدريس الدين ما عاد كافيا بالمرة، وما عادت تلك العلوم كفيلة بضمان تكوين متوازن للمرء. وما لم نوفق في تطعيمها بعلوم مستجدة فسيبقى حديثنا في الدين تكرارا فجّا. ولذا وجب طرح سؤال مدى قدرة مضامين تلك العلوم على وعي الظواهر الدينية، وعلى إفادة الفرد في عيشه وفي وجوده. فليست المعارف الدينية معارف غير مشروطة بواقعها بل هي معارف لصيقة بواقعها بالأساس، وإلا تحولت الاستعاذة منها "اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع" إلى شرط لازم.
- آفة تسييس المعرفة الدينية: في التاريخ المعاصر غالبا ما كان حشر الجامعة الزيتونية ضمن خيارات سلطوية أو إسلاموية مجلبة لكوارث جمة على المعرفة الدينية. وحين لهْوَتت الطروحات البورقيبية المعارفَ داخل "كلية الشريعة وأصول الدين"، غدت النظرة للدين شعائرية سطحية مبتذلة. تحول الفكر الديني إلى تابع خدوم، جاهز عند الطلب، لتبرير خطّ سياسي، وغدا هامشا في آلة سلطوية مفتونة بقدراتها.
ولاحقا حين تحولت الجامعة الزيتونية إلى معقل لحركة "الاتجاه الإسلامي" التي باتت "حركة النهضة" وإلى "الاتحاد العام التونسي للطلبة"، صارت الجامعة مدفوعة دفعا نحو مقصد سياسي، احتدّ فيه الصراع مع السلطة على هذا الفضاء الرمزي، كانت مآلاته كارثية على الزيتونة. وطيلة فترة التجاذب بين الأقنومين، الإسلاموي والسلطوي، تم التغافل عن المضمون المعرفي، مع أن فيه مربط الفرس للرسالة الجوهرية للزيتونة. وكان حريا أن يتركّز الاشتغال عليه، طلبا لنهوض فعلي، ولغرض صنع عقل ديني فاعل في فضائه وحاضر في كونه.
الرهان على العلمي
إبان حقبة الصراع الضاري بين السلطة و"حركة النهضة"، أي طيلة عشرية التسعينيات من القرن الماضي، حاولت السلطة الدفع بمن زعموا القراءة النقدية والعلمية للموروث الديني إلى واجهة الصراع الفكري، وتوظيفهم إلى مرادها ومبتغاها. وقد استعمل ذلك الشق أدواته "العلمية" بشكل مبتذل وممسوخ، فما كان المقصد إرساء جذور مقاربة ترنو إلى إعادة الوعي الصائب بموروثنا الديني، بل كانت العملية تتطلع إلى مغانم سياسية، وهو ما جعل المقاربة العلمية التونسية تولد مشوّهة وتفشل في خلق أجواء معرفية نقية.
وفي هذا الزمن الجديد الذي تعيشه تونس، لن يثني ذلك الفشل المبكر الصادقين عن مسعاهم الجاد، فكما فطنوا إلى كلمات الحق التي أريد بها باطل، يدركون بالمثل أن الدرس الديني الحالي مطالب بالخروج من رهن اللاتاريخية إلى رحابة الواقع الحي، وكل تفريط في قضايا الراهن والتلهّي عنها بقضايا ميتافيزيقية مغتربة من شأنه أن يغيّب العقل عن اهتمامه التاريخي. لأن الدرس الديني يصنع عزلته بتغاضيه عن قضايا مجتمعه. ربما فرصة الانعتاق السياسي للدرس الديني هي من أندر الفرص التاريخية التي نعيشها، حيث لا يجد المقول الديني نفسه رهينا أو مراقَبا إلا من ذاته، ومن هذا الباب ينبغي أن يراجع مهمته بالاحتكام إلى وعيه وشروطه.

* أستاذ من تونس بجامعة روما
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.