ورشة حكي عن الفنان محمد الكحلاوي بمناسبة ذكرى وفاته    الشيوخ: الأمانه انتهت من اللمسات النهائية استعدادًا لاستقبال الأعضاء المعينين    النائب أيمن الصفتي: ثقة الرئيس السيسي وسام على صدري ومسؤولية وطنية أتشرف بها    البيئة: زراعة 10 ملايين شجرة مثمرة وخشبية ضمن المبادرة الرئاسية 100مليون شجرة    سعر الريال السعودى مقابل الجنيه اليوم الإثنين 13-10-2025    معلومات الوزراء يقدم رؤية تحليلية حول دور المناطق الصناعية فى تحقيق التنمية    إزالة 9 حالات بناء مخالف خلال حملة مكبرة بمدينة البياضية بالأقصر    صحيفة إسرائيلية: نفوذ مصر يتصاعد مع استضافتها قمة شرم الشيخ للسلام    السفير حجازى: قمة شرم الشيخ تاريخية وتعكس تقدير المجتمع الدولى لمكانة مصر    من مستشفى الشفاء إلى ميدان الشهداء.. صور جنازة صالح الجعفراوي تهز القلوب    الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يصل إسرائيل.. بث مباشر    تعرف على موعد جلسة استماع الزمالك باتحاد الكرة بسبب زيزو    طبيب الأهلي يفحص ياسر إبراهيم قبل السفر إلى بوروندي    المصري يدعو أعضاء جمعيته العمومية لاجتماع خاص لاعتماد تعديلات لائحة النظام الأساسي    شهود عيان: فتاة صدمت شاب ووالدته أثناء تعلمها القيادة في البراجيل    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى فيصل دون إصابات    الحماية المدنية بأسيوط تواصل البحث عن مفقودين فى حادث سقوط تروسيكل بمصرف    الداخلية تضبط عاملًا تحرش بموظفة داخل صيدلية بسوهاج    تموين الفيوم تلاحق المخالفين وتضبط عشرات القضايا التموينية.. صور    "آداب القاهرة" تحتفل بمرور 100 عام على تأسيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية    الخارجية تهنئ السفراء المعينين في مجلس الشيوخ بقرار من رئيس الجمهورية    صحة الأقصر تطلق القافلة الطبية بحاجر المريس بالطود.. صور    وزير الصحة يبحث مع رئيس التحالف الصحي الألماني تعزيز التعاون الاستثمار في القطاع    إحالة العاملين المتغيبين في مركز الرعاية الأولية بالعريش للتحقيق    تشكيل منتخب فرنسا المتوقع أمام آيسلندا في تصفيات كأس العالم 2026    الدرندلي بعد فوز المنتخب: "أول مرة أشوف جمهور مصر بالكثافة دي"    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 13 أكتوبر والقنوات الناقلة    وزيرا ري مصر والأردن يفتتحان الاجتماع ال38 للشبكة الإسلامية لتنمية وإدارة مصادر المياه    بعد منحها ل«ترامب».. جنازة عسكرية من مزايا الحصول على قلادة النيل    جامعة بنها: فحص 4705 شكاوى بالمنظومة الموحدة.. تفعيل نقطة اتصال جديدة لخدمة المواطنين    تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم الاثنين 13 أكتوبر 2025 بمحافظة بورسعيد    من شرم الشيخ مدينة السلام ماراثون سياسى غير مسبوق |ترامب.. المهمة الصعبة فى الشرق الأوسط    بالفيديو.. الأرصاد: فصل الخريف بدأ رسميا والأجواء مازالت حارة    حجز محاكمة معتز مطر ومحمد ناصر و8 أخرين ب " الحصار والقصف العشوائي " للنطق بالحكم    لحضور أولى جلسات الاستئناف.. وصول أسرة المتهم الثاني في قضية الدارك ويب لمحكمة جنايات شبرا    نتنياهو يستقبل ترامب لدى وصوله تل أبيب    ستارمر: المملكة المتحدة مستعدة لدعم إعمار غزة    محدش يعرف حاجة عنهم.. 5 أبراج تكتم أسرارها وخطوات حياتها عن الناس    وزير السياحة يترأس اجتماع مجلس إدارة هيئة المتحف القومي للحضارة المصرية    أحمد فهمي الأعلى مشاهدة ب «ابن النادي»    بورسعيد أرض المواهب.. إطلاق مسابقة فنية لاكتشاف المبدعين    الليلة بمسرح السامر.. قصور الثقافة تطلق ملتقى شباب المخرجين في دورته الرابعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 13-10-2025 في محافظة قنا    أوقاف السويس تبدأ أسبوعها الثقافي بندوة حول المحافظة البيئة    هل الغسل يغني عن الوضوء؟ أمين الفتوى يوضح الحكم الشرعي بالتفصيل    تباين أداء مؤشرات البورصة في بداية تداولات اليوم وسط مشتريات محلية وعربية    اليوم.. بدء استيفاء نموذج الطلب الإلكتروني للمواطنين المخاطبين بقانون «الإيجار القديم» (تفاصيل)    «المالية»: فرص اقتصادية متميزة للاستثمار السياحي بأسيوط    رئيس «الرعاية الصحية» يتفقد مجمع الفيروز بجنوب سيناء استعدادًا لقمة شرم الشيخ    بعد استشهاده أمس.. ننشر نص وصية صالح الجعفراوي    «في ناس نواياها مش كويسة وعايزة تهد أي نجاح».. رسائل نارية من إبراهيم حسن بعد التأهل لكأس العالم    محمد صبحي: المنافسة في منتخب مصر صعبة بكل المراكز    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق وبورصة الشرقية الإثنين 13-10-2025    تحرك عاجل من نقابة المعلمين بعد واقعة تعدي ولي أمر على مدرسين في أسيوط    هل يجوز الدعاء للميت عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟.. «الإفتاء» توضح    موجودة في كل بيت.. أهم الأطعمة لتقوية المناعة خلال تغير الفصول    إسرائيل تجري تعديلا عاجلا على قائمة الأسرى المشمولين في صفقة التبادل    قبل عرضه بمهرجان الجونة.. طرح البوستر الرسمى لفيلم «50 متر»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عزالدين عنايه:الإسلام السياسى.. عملاق من صلصال
احتكار الدين فى البلاد العربية فى طريقه للانهيار

وسط عالم تتخاطفه الأحداث من كل جانب جاءت الحوارات , محاولة لترتيب أفكارنا والدوران فى فلك وعى جديد ,لعلنا نصل الى القدرة على اعادة التفكير فى الاسئلة المطروحة على الساحة العالمية .
فالحوارات التى نقدمها حول المستقبل بمثابة حفر معرفى فى أذهان النخبة العالمية الذين قبلوا بشجاعة تحدى الاجابة عن أسئلة محورية وشاملة حول الموضوعات الاكثر أهمية وحيوية على الساحة العالمية المعاصرة وارتدادتها على المحيط المصرى والعربى , ونتوقف عمدا عند محطات فكرية ذات دلالة فى السياق التاريخى والحضارى منها التجربة الديمقراطية... ونتاجات الحداثة... وحوار الحضارات والتعددية الثقافية فى مواجهة العولمة.... ولا يمكننا أن نغفل هذه الثلاثية التى تثير جدلا صعودا وهبوطا ,كرا وفرا ,وهى الدين بالمعنى العام ,والعلمانية ,والاسلام السياسى بوجه خاص . فجاءت حوارات المستقبل محاولة لقراءة هذا الوضع المتفجر بالاسئلة المتشابكة.باختصار هى قراءات متأنية فى زمن متعجل .

لم يكن سفر المفكر التونسى عز الدين عناية من الزيتونة الى روما انتقالا عاديا او ترحالا كما الغير, بل كان سفرا فكريا ,خرج فيه من نطاق المحدود الى عالم منفتح من الرؤى والتساؤلات ومحاولات الاجابة ,فكم من الوقت .. وكم من الحيرة اجتاحت هذا الشاب العربى .. ليقف فى مفترق طرق حياتية وفكرية ,ويسأل عن هذا العالم الذى غادره وذلك المقبل عليه,هنا كان السؤال الأول ..سؤال الهوية ,ومعه مساحات من التوقف والتأمل والتفكير .
من مجتمع محلى تحدد ملامحه العادات والتقاليد الى مجتمع «كوزموبوليتانى» تضيع فيه التحديدات والملامح ويصنع فيه البشر ملامح جديدة لحياة جديدة ,وتشكيلات تتسم بالابداع والجدة.
هذا العربى المسلم المستنير تراه ماذا هو فاعل على أرض هى مهد الكاثوليكية فى العالم ,أى نظرة دينية اختلفت عنده لفكرة الدين ذاته , وكيفية ارتباط الدين بالمجتمع ومدى التأثيرات المتبادلة بين ما هو لاهوتى وما هو اجتماعى , هذا الكم الهائل من الأسئلة دار فى ذهن هذا العربى الأستاذ فى جامعتى «لاسابيينسا فى روما والأورينتالى فى نابولي» لذا نتحاور معه حول رحلته الفكرية وانتقاله الذى نطرحه فى صورة عنوان (من لاهوت التحريم الى لاهوت التحرير ) ونسأل أنفسنا معه هل اجاباته هذه تعنى لنا حلا لاشكالية مؤرقة , اشكالية الدين والحياة .بين حدين , حد اسلامى قرره النبى محمد (ص) حينما قال أنتم أعلم بشئون دنياكم , وحد اخر وضعه السيد المسيح عندما قال اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر ,كيف يستخدم الحرمان الاجتماعى فى دائرة التحريم الدينى ,وكيف يستطيع الدين أن يحرر الانسان من حاجاته اليوميه ,من خوفه ومن فقره .
عزالدين عناية أستاذ تونسى إيطالى يحاضر لشباب العالم فى اوربا والغرب . ويشرف على رسائل تخرّج عشرات الطلاب الإيطاليين المتخصصين فى شئون العالم الإسلامي. أهم مولفاته.. الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن، العقل الإسلامى عوائق التحرر وتحديات الانبعاث، نحن والمسيحية فى العالم العربى وفى العالم، الاستهواد العربى فى مقاربة التراث العبري.
ومن ترجماته..الفكر المسيحى المعاصر, السوق الدينية فى الغرب،علم الاجتماع الديني، الإسلام فى أوروبا: أنماط الاندماج، الإسلام الإيطالي،علم الأديان.

اذا كان «الدين « لله ..» فالحياة « آنئذ ... لمن؟
ضمن التفسير السوسيولوجي، لا وجود للدين فى غياب الإنسان ولا معنى لحياة يتوارى منها البشر، وبالتالى الدين للإنسان والحياة للإنسان. ولكن وفق الإجابات المؤدلجة هناك تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، مثلما قيل «الدين لله والوطن للجميع». فقد استهلكنا هذا الشعار دهرا ولم نحقق التعاطى الديمقراطى مع الدين، ولم نبلغ مفهوم «الدين المدني». لذلك أرى ضرورة التفكيك الدائم للمفاهيم وإعادة صياغتها مجددا، وطرح الأسئلة والبحث عن إجابات علمية لها بعيدا عن تبنى رؤى الآخرين. فلكل عصر رؤاه ولكل أمّة جعلنا منسكا هم ناسكوه.
ففى التعاطى العربي، غالبا ما يُطرح السؤال الديني، وتُتلمَّس الإجابة له من داخل النسق اللاهوتي. لعل ذلك عائد إلى أن المعالجة العلمية الشاملة، بمفهوم الفرنسى ميشال مسلان، لا تزال يتيمة فى الثقافة العربية، بموجب هيمنة رؤى تصورية إيمانية لم تنفتح على مقاربات علم الأديان. ذلك أن الدين، كظاهرة اجتماعية خارج وعى الإنسان، لا وجود له. ومن هذا المنظور يغدو الدين ظاهرة لصيقة بالاجتماع، ولا سبيل فيه للحديث عن «الكائن المتدين» خارج النسق الاجتماعي.
ثمة فارق بين لاهوت التحرير ولاهوت التحريم .. من واقع التجربة ما هى رؤيتكم؟
انتقالى من «الزيتونة» فى تونس إلى «الجريجورية» فى روما، ومن مجتمع سنّى مسلم إلى مجتمع كاثوليكى مسيحي، زعزع فى ذهنى العديد من المفاهيم. لعل من بينها أن العلمانيين واللاأدريين والملاحدة، الذين تربّيت على أنهم أشد الناس عداوة للدين، قد وجدتهم أقرب الناس مودّة إلى الإسلام المهاجر من أرباب الكنيسة (أتحدث عن الواقع الأوروبى الذى أعيش فيه)، هذا بشكل عام. وأما من جانب آخر، ففى السياق العربى لا يمكن الحديث عن لاهوت التحرير، بالمعنى الأصيل للظاهرة المتولدة فى أمريكا اللاتينية، وإن تشابهت الوقائع الاجتماعية بين كثير من البلدان فى الفضاءين. حيث يمكن تلخيص طرح لاهوت التحرير فى جملة من العناصر: - الإدانة الصريحة للرأسمالية ومن ورائها الليبرالية الجديدة، باعتبارها خطيئة بنيوية، مع توظيف أدوات النقد الماركسية فى تلك العملية. - خيار موالاة الفقراء سعيا لتحقيق التحرر الاجتماعى لهؤلاء المستضعَفين. - واعتبار الوثنية الجديدة الخطر المحدق بالدين لا الإلحاد كما يصوَّر، بصفة الوثنية هى النمط الرأسمالى المتجلى فى الاستغلال فى «دِين رأس المال»، الذى يضفى طابعا قدسيا على البضاعة، التى باتت معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، ولاهوتها (المتشكل من المخططات الاقتصادية).
فى واقعنا العربى المعاصر هناك فهمٌ للدين من منظور التحريم، ولا أتصور أنه يرتقى إلى لاهوت قائم الأركان، بل هو فوبيا مرضية، منجرّة عن فهم سطحى هيمن على الرؤية الدينية، مع أن فقهاءنا قديما صاغوا قاعدة فقهية جليلة بقولهم «الأصل فى الأشياء الإباحة». وفوبيا التحريم هذه قادتنا إلى صحوة دينية مشوَّهة، تحدّدت خريطتها بما هو حلال وبنقيضه ما هو حرام. أُدخل المسلم حقلا دلاليا ورمزيا قسرا، والحال أن معركته مع اللامعقول والاستغلال والتدمير لكيان الفرد المادى والمعنوي.
هل لاهوت التحرير ثورة دين أم ثورة على الدين.. أى ثورة على الدين من الخارج أم عملية تثوير داخلية ؟
أتى لاهوت التحرير بالأساس ثورة داخل الدين، وثورة على المؤسسة الدينية، على كنيسة روما بالأساس. لم يحصل أن تنكر لاهوتيو التحرير لكنيستهم الكاثوليكية، لكن ما حصل هو التطلع لإصلاح الانحرافات التى دبت فى المركز، فقد تأوربت المسيحية وترسملت، أى صارت أوروبية وغدت ذات طابع رأسمالي. وتحديدا ليس الإصلاح المراد إصلاحا دغمائيا، أو ليتورجيا، بل هو إصلاح فى الخيارات. من تُوالى الكنيسةُ الفقراءَ أم الأغنياء، الجياع أم المتخمين، المستضعَفين أم المستكبِرين؟
فالفرق بين الإصلاح البروتستانتى وإصلاح لاهوت التحرير جوهري، لئن توجّه الأول إلى أصول الدين من حيث تحريرها من الإكليروس وإعادة توزيعها بين الناس، فإن الثانى لم يكلف نفسه عناء إصلاح الدين مرتئيا أن الخلاف الأساسى مع روما فى خيار الموالاة داخل الكنيسة للفقراء أم للأغنياء. فمن جانب ما يعرف بمجال «نقد الكتاب المقدس» لم يقدّم لاهوت التحرير شيئا يذكر، وإنما كانت إضافته فى التذكير بجوهر الرسالة المسيحية نصيرة الفقراء الذين بشروا بوراثة الفردوس.
هل يصلح لاهوت التحرير على الأرضية العربية الإسلامية.. وهنا نتحدث عن اختلاف البيئة أم اختلاف الدين؟
حين بدأ الأستاذ حسن حنفى فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى بالتنظير لمسألة اليسار الإسلامي، وجدت أطروحاته صدى طيبا فى تونس، لاسيما فى أوساط مجموعة (15/21) ذات المنحى الإسلامى التقدمي. وهو بالفعل استنساخ لنموذج أمريكا اللاتينية، على اعتبار أن البؤس الاجتماعى متفشّ فى العديد من الأوساط لدينا. كما سعت تلك المجموعة فى الآن نفسه إلى ردم الهوة الفاصلة بين الفكر الحداثى العلمانى والفكر الديني، من خلال طروحات نقدية ومراجعات. وكانت واعية بأن تراثا من اللامعقول جاثم على العقل الدينى لدينا. وأن المسائل الاجتماعية والاقتصادية والنقابية طارئة على العقلية الدينية، وحرى التنبه إليها.
لكن ذلك الخط التقدمى فى تونس ممثلا فى الأستاذين حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي، وهو عبارة عن شكل من لاهوت التحرير الإسلامي، أُجبر على الصمت. وانهمكت السلطة –سلطة السابع من نوفمبر- فى ما عُرف بسياسة تجفيف المنابع، التى أهلكت الزرع والضرع. ولذلك العنف المتلبس بالدين الموجود اليوم فى تونس هو عنف متخلّد وليس عنفا ناشئا جراء الثورة كما يروج.
ومن منظورى الشخصى أومن أن لكل مكان عبقريته فى التعاطى مع أوضاعه، ولكل دين «موسيقاه» فى التغيير الحضاري، ولستُ ممن يرون توريد الأنماط الدينية على غرار ما يقول به البعض: نحن فى حاجة إلى «بروتستانتية إسلامية» أو إلى «لاهوت تحرير إسلامي»، أو إلى «أحزاب ديمقراطية إسلامية» على غرار «أحزاب الديمقراطية المسيحية». مآزق الشعوب لا تحل باستيراد الحلول بل بإبداعها، والشعوب التى لا تبدع من داخلها سُبل قيامها فبشّرها بالزوال. ولا يعنى ذلك الانغلاق، بل توظيف الوعى بالآخرين لإثراء الذات لا لتدمير قدراتها.
ثمة ثورات وحركات خروجية فى تاريخ الإسلام –الزنج, القرامطة, الخوارج- كيف يمكن قراءتها الآن فى ضوء المتغيرات على ساحة الإسلام السياسي؟
الإسلام السياسى العربى هو حركة سياسية وليس حركة فكرية، لذلك ما يناهز القرن من الحضور وهو يراوح فى المكان نفسه. فهو عملاق من صلصال، قادر على الحشد وعلى التهييج وعلى الدفع بالناس فى مسارات حالمة، ولكنه عاجز عن تحوير البنى العقلية للشعوب أو إنقاذها مما ترزح فيه. وبالتالى فالإسلام السياسى هو خط يمينى اتباعى (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا). وحركات الزنج والقرامطة والخوارج –وفق منظوره- هى حركات بغاة وخوارج، عن نسق أهل السنة والجماعة، لا كما نعتموها خروجية.
فى إطار تشابه الصراع بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد .. وفى إطار لاهوت التحرير ولاهوت التحريم .. كيف ترى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك وبين السنة والشيعة .. ما أوجه الشبه والاختلاف؟
إن كان ثمة قاسم مشترك بين الصراعين، لدى طرفى النزاع فى كلا الدينين، فهو السعى للفوز بالمشروعية. لكن الصراعين مختلفان مبنى ومعنى. يأتى الحراك داخل فضاء دينى واجتماعى لا تتشابه فيه الطروحات ولا الوسائل. الصراع السنى الشيعى اليوم يعبّر عن أقصى درجات اغتراب العقل الدينى لدينا، عن ورطة العقل الإسلامى فى وحَل السياسة جراء تدنى الرشد، وذلك من خلال استحضار عناصر صراع لا تمت للواقع بصلة وإعادة استثمارها مجددا فى الراهن. لا أقول إن اللاوعى الجمعى العربي، بالمفهوم اليونغي، هو المتحكم بالراهن، ولكن هناك أمّية دينية تدعمها صبيانية عقلية ندفع ضريبتيهما.
الصراع بين البروتستانت والكاثوليك -برغم وجهه العنيف فى مراحله الأولى- ولّد رؤى جديدة فى الدين والحياة. أفرز «الإصلاح» و»الإصلاح المضاد» وما تمخض عنهما من تحريك للواقع الفكرى والدينى فى الغرب. وإن كان هناك من درس لذلك فى الواقع الإسلامى فهو أن نخرُج من الصراع العنيف بين السنة والشيعة، لأنه مدمر لكلا الطرفين ومن ثمة للإسلام، إلى التنافس الثقافى والمعرفي.
طيلة مرحلة دراستى فى جامعة الزيتونة كان كل ما يمت للتشيع غائبا، وإن حضر فبوجهه السلبي؛ ولكن حين انتقلتُ إلى الجامعة البابوية الجريجورية فى روما كنت أدرس ضمن المقرر الدراسى تاريخ الإصلاح البروتستانتى هذا هو الفارق بيننا وبينهم فى التعاطى مع المنافس والخصم.
كيف تفسر الردة الإنجيلية الأصولية بأمريكا هل فشل العقل الوضعى أو الفكر الوضعي؟
فى أمريكا السوق الدينية مشرعة على التنافس الحر، بما لا يضاهيها أى فضاء دينى آخر. وقد استطاعت الإنجيلية الأصولية أن تفرض نفسها داخل هذه المعترك. يقول سباستيان فات، أحد كبار المختصين الفرنسيين فى الظاهرة الإنجيلية، إن الإنجيلية حاملة طابعا مقاولاتيا قادرا على إغراء الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء فى أمريكا. وكما أسالت لعاب جورج بوش الابن فهى تقوم بالدور نفسه مع باراك أوباما أيضا. فكلاهما أدرك أن قوة الشبكات الإنجيلية، على المستوى العالمي، فائقة، وما يمكن أن توفره من سند «للقوة الناعمة» الأمريكية فى مجال تصدير الديمقراطية، أو فى مجال دعم الشركات الحرة، المعتمدة على جمعيات محلية فاعلة لا يُستهان به.
ومن هذا الباب لا نقول إن العقل الوضعي، أو الفكر الوضعي، قد فشل فى الغرب، ولكن هناك تبدلا للتدين، وانتشارا «للبريكولاج الديني» كشكل من الاعتقاد دون انتماء، وتطورا لأنشطة الحركات الدينية. فمما يميز الإنجيليين التعويل على الفعل التبشيري، و«الولادة مجدّدا»، والهاجس التنصيرى الطاغى فى أوساطهم. حتى اكتسحت هذه الحركة ما يزيد على ثلثى البروتستانت فى أنحاء العالم، فى ظرف لا يتعدى الأربعة عقود، لتُقدَّر أعدادهم مع مطلع العام الحالى ب 565 مليونا، وفق سباستيان فات.
هل ترى ان غياب الحداثة وأمراض المتدينين وأزمة الهوية ونشوء الأصوليات والاستبداد والفساد وغياب العدل والحريات وراء ظهور الوحش الإرهابى أم هناك أسباب أخرى؟
بدءا لا يُرجى من حقل اجتماعى فاسد ومفسِد أن يكون مصدرا لصنع الأمن. ولكن لِنَعد إلى مسألة الدين والعنف التى باتت مهيمنة فى الأوساط العربية. يورد الإيطالى إنزو باتشى فى مؤلفه «علم الاجتماع الديني» أن العنف المشوب بالقداسة يأتى تحت ضربين: إزهاق لأرواح الآخرين وإزهاق للذات، أى القضاء المبرم على من لا ينتمى للتنظيم الدينى أو كذلك إماتة من ينتمى للتنظيم. ففى الحالة الأولى نحن أمام أنواع الأصوليات العنيفة، التى تقترف العنف لفرض مبدأ ديني، تقدّر أنه مهدَّد من عدوّ خارجي؛ وفى الحالة الثانية ندنو من حالة التحمّس للاستشهاد الفردى والجماعي.
وفى كلتا الحالتين يرتهن الالتجاء إلى العنف، ليس إلى حوافز ذات طابع إيديولوجي، متولّدة عن رؤية لاهوتية مميزة للعالم فحسب، بل أيضا إلى قاعدة تنظيمية أن قتل الذات أو الآخرين، له وظيفة تمتين اللّحمة داخل جماعة الانتماء. فليس اقتراف العنف نحو الآخرين أو نحو الذات عملاً عفوياً، بل يأتى جراء انقلاب دينى عميق، ينضُجُ فى عقبه اختيار طوعى للقيام بفعل القتل. وأمام هذا الاختيار ينغمس المؤمن، فردا كان أم جماعة، فى عالم رمزي. فحين يدّعى تشكيل اجتماعي-دينى أنّه الطريق الوحيد والأوحد للخلاص، والقابض على ناصية الحقيقة المطلقة مقابل عالم خارجى يُعدّ بمثابة مملكة الشرّ، والتهديد الخطير للطهر والحقّ، الذى يتصور حيازته، فإن تطوّر احتمالات تفجّر بذور العنف تصير عالية.
هل هناك حاجة ضرورية لترتيب العلاقة مع الشأن الدينى أو إعادة الخطاب الدينى إلى المسار الدعوى فقط؟
فى ظل التحولات الكبرى لا يمكن تعليب الدين، أى حصره ضمن قناة رؤيوية محددة أو مسار بعينه. كان ممكنا فى ما مضى ضبط وعى الناس، وبمقدور حكامهم أن يملوا عليهم ما يرتؤون، ولكن عصرنا الحالى يبدو أنه خرج من الضبط، فالناس هم من يقررون علاقتهم بالدين. وبات يصعب اليوم إقناعهم وإلزامهم بخط معين. صحيح أن المجتمعات العربية مجتمعات هشة ولا تتوافر على دعامة مؤسساتية قوية، أو وعى ثقافى عميق، أو دربة مدنية عريقة، حتى تأخذ زمام الأمور بيديها. لكن مع هذا فهى قد ذاقت طعم الحرية وسكنها فيروس التمرد وبات من الصعب ضبطها فى خط محدد حسب هوى حكامها. فى أمريكا تحديدا هناك حديث عن بلوغ مستوى تحرير السوق الدينية، وخروجها من احتكار المؤسسة. فى العالم العربى اليوم يبدو هذا الطرح خطيرا ومغامرا ومدعاة للانفلات والفوضى، وكأن الراهن العربى ملزم باحتكار جهة محددة الدين، لتوجّهَ الناس من خلالها. لأن تحرير الدين فى ظرف لا تتوافر فيه منافسة متكافئة بين الأطراف فيه خطورة على الدين وعلى الناس.
قال هيجل إن المسيحية هى الطريق المطلق للثورة الفرنسية وقال إسلاميو الربيع العربى إن الإسلام هو الذى مهد للثورات هذه النظرة تزداد فى عالمنا انتشارا فهل تصلح كمقدمة لقراءة تزايد الأصوليات فى العالم؟
اندلعت الثورات جراء تضافر عوامل عدة وتدفق جداول مختلفة، وهى ليست فى حاجة إلى شهادة ميلاد من أحد. ولكن داخل هذا الحدث ينبغى التنبه إلى الثورات العفوية والثورات المقلِّدة والثورات المصطَنعة. لأن عملية النضج واللانضج فى البناء الاجتماعى تجعل نتيجة الثورة محسومة سلفا، كون المنبتّ لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع كما نقول.
كيف تحولت جوانية الدين –العلاقة بين العبد وخالقه– إلى برانية –العمل خارج هذه العلاقة أى خروج الدين والعلاقة ذات الخصوصية إلى الشأن العام السياسي؟
أن تنزاح العلاقة بالدين من نمط إلى آخر ليس انحرافا بالدين وليس تشويها له، فالدين فيه من الثراء الدلالى ما لا نجده فى ظواهر اجتماعية أخرى. ولكن المسألة اليوم فى توهم أن المدخل السياسى هو جوهر الدين ومنتهاه، وهو موجة ستنقضى بعد أن تخلّف ضحايا وهدرا للوقت.
قد يتصور البعض أن الدين فى أصله هو علاقة فردية بعالم علوى أو بكائن مطلق، وأن إخراجه من ذلك الطابع هو انحراف بمساره. والحال أن الدين كواقعة اجتماعية هو كلٌّ متداخل، فيه بعدٌ باطنى وبعدٌ حياتى معيشي. وبقدر ما يجرّب الإنسان من انسجام ولذة وسكينة فى أدائه الشعائر نحو بارئه، يجد فى علاقته بنظرائه من البشر، وفى نشاطه الاجتماعي، المشوب بطابع الدين الإشباع نفسه. ولذلك كان فعل الخير والإحسان لدى المؤمن يضاهى عبادته لربه من حيث ما يجده من رضا وزهو.
داخل هذه الثنائية التى عادة ما تطرح، بين جوانية الدين وبرانيته، غالبا ما تتخفى المقاصد الأساسية. فهناك سعى لحصر الدين فى نطاق محدد لاحتكار المجال الآخر النقيض والمقابل.
هنا نطرح إشكالية الخاص والعام .. كيف يمكن تخصيص الدين وهو الشأن العام بشكل طائفى لتدّعى مثلا جماعة –الإخوان- احتكارها واعتبار نفسها الممثل الشرعى للدين فى السلطة؟
الإسلام مستأمَن عليه لدى جمهور المسلمين وليس لدى حركة بعينها. فالتشكيلات الاجتماعية مهما اصطبغت بطابع القداسة فهى ناشئة وعابرة وزائلة. وكلما حرصت الحركات على احتكار الشرعية لنفسها إلا وسارع إليها الفساد. وأعتبرُ أن السقوط المدوّى للإخوان فى مصر جاء جراء العمى المعرفى الذى استبدّ بقادتها، ولا أعتقد أن المسئولين عن السقوط لهم دراية بالتاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه.
عادة ما يحصل فى الوعى الطائفى التماهى بين المركَّب الدينى والمركّب التاريخي-الاجتماعى للطائفة. وتزيد تجربة المحنة والمعاناة والابتلاء من ترسخ هذا التمازج حتى لتتمثّل الطائفة تصوراتها للدين الأكثرَ وفاء للنموذج الأصلى المتوارى فى التاريخ، ولكن داخل هذا الوهْم عادة لا تعى الطائفة ذلك الاحتكار والاستحواذ وغالبا ما تنفى ذلك وتتصور أنها حركة منفتحة.
عطفا على ما سبق هنا ما الفارق بين الشرعية والشريعة بهذا المعنى؟
كلمتان أفرغتا من معنييهما فى السياق العربى الراهن.
كيف تقرأ مستقبل الإسلام السياسى فى دول ما يسمى الربيع العربى؟
فى الإسلام السياسى ليس هناك وضوح رؤيوي، وكل ما فى الأمر أن تياراته تستقل القطار السياسى وهى لا تدرى أين سيجرها. وتلك الضبابية الدينية السياسية لديها متأتية من تدنى المعرفة بالحقل الذى وجدت نفسها فيه، ومن ضعف النظرية السياسية ذات الطابع الإسلاموي.
خطورة الإسلام السياسى فى البلاد العربية أنه يفتقر إلى رصيد عقلاني. فعلاوة على الضعف فى جينة تكوينه، لا سيما مع المدرسة الإخوانية، فإنه لا يصغى إلاّ لذاته، للخلّص من مجلس الشورى وللجماعة ولكوكبة التنظيم. الإسلام السياسى ما لم يتحول إلى الاشتغال على الإسلام الثقافى فسيبقى على سطح بنية الاجتماع العربي. قد يمتطى ظهر السلطة، وقد يمسك بمقاليد الأمور، ولكنه سرعان ما تتفلّت منه، لافتقاده وسائل التفهم والتخاطب مع الناس. فالعمل السياسى الذى لا تدعمه الثقافة يكون عرضة للانحراف بسرعة.
أضيف أن الإسلام السياسى السنى يغلب عليه الطابع المظهرى والشكلاني، ولذلك تجد فيه منزعا غوغائيا حشديا يحيد عن الرصانة والتروي. ومن هذا الباب لا أعلّق أملا كبيرا عليه فى إنهاض الناس، وما أنا متأكد منه أنه قادر على سحبهم نحو الأسوأ. وأقدّر أن سفينة النجاة للإسلام السياسى من الانتحار الذاتي، هى التمسك بحبل العقلانية المتين فى التعاطى مع الواقع وفى النقد الذاتي. وفى ظل غياب هذين الشرطين فهو كالسائر إلى حتفه بساقيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.