كلما وقعت حادثة فتنة طائفية يتكرر الحديث عن الدور المسيحي أو إسهامه في وقوع واستمرار الفتنة، ويثار دائماً السؤال: هل المسيحيون منعزلون عن المجتمع بسبب أن لهم تاريخا وفكرا دينيا يدعو للانعزال، أم أن المجتمع الإسلامي وهو يتكون من الغالبية يفرض عليهم هذه العزلة؟ والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة ولكن سأحاول أن أقدم بعض الأفكار ربما تساعدنا في تشخيص الحالة وتحديدها. أولاً: هناك تيار مسيحي تقوي يدعو للانعزال فمنذ فجر المسيحية خرج تيار فكري يبني علي آيات من الكتاب المقدس تعبر عن أن العالم نجس بكل ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظيم المعيشة، وهناك دعوة من الله لشعبه تقول: "اعتزلوا اعتزلوا يا شعبي لاتمسوا نجساً أو رجساً فأقبلكم"، ودعوة أخري "لاتحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، وقد خرج من هذا التيار فكر الرهبنة، أي ترك العالم والاتجاه إلي الصحراء للتعبد، وقد بدأ هذا التيار يقوي ويشتد حتي أصبح لايختار بطريركا إلا من الرهبان بعد أن كان البطاركة الأوائل من المتزوجين والعلمانيين، وحتي بعد أن جاء الإصلاح الكنسي في القرون الوسطي ورفض المصلحون الرهبنة وتحدثوا عن أهمية اندماج الكنيسة في العالم إلا أن تياراً تقويا خرج من الإصلاحيين يدعو إلي الانعزال عن العالم والقداسة والتكريس اعتماداً علي نفس الآيات، وأن إرساليتهم العظمي هي تغيير العالم ليكون صالحاً لله، علي ألا يتورطوا في الذوبان فيه، وبالطبع رفضت المسيحية فكرة العمل بالسياسة اعتماداً علي قول السيد المسيح "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وكانت هذه الكلمات إجابة لسؤال: هل نعطي الجزية (الضرائب) لقيصر أم لا؟ فقال السيد المسيح أعطوني ديناراً، ثم رفع الدينار في وجه مستمعيه قائلاً: لمن الصورة ولمن الكتابة؟ قالوا لقيصر، قال "إذن أعطوا مالقيصر لقيصر ومالله لله"، إذن يوجد تيار لاهوتي كتابي واضح يحض علي الانعزال. ثانياً: هناك تيار مسيحي يدعو للاندماج في المجتمع وهذا التيار بدأ ضعيفاً في بدايات المسيحية لكنه اشتد وتقوي بعد انتشار المسيحية، حيث صارت أوروبا مسيحية وحكمت الكنيسة أوروبا وقامت بتعيين الملوك.. إلخ، حتي سميت هذه الفترة بالقرون المظلمة، وعندما قامت ثورة الإصلاح رفعت الكنيسة يدها عن السياسة، لكن التوجه الحقيقي للمصلحين كان الاندماج في المجتمع لإصلاحه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً، ولقد تم هذا في أوروبا وانفصلت الكنيسة تماماً عن الدولة، وعندما هاجر الأوروبيون بإصلاحهم لأمريكا أسسوا هذه الأرض الجديدة علي مساهمة الإيمان والدين في مناحي الحياة المختلفة لكن دون الحكم المباشر، وهكذا سار هذا التيار جنباً إلي جنب مع قوة التيار الانعزالي إلي أن ظهر ما يسمي بلاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، وأعلنوا أن الكتاب المقدس مع حقوق الإنسان والمساواة بين البشر جميعاً، والحرية، وأن علي المسيحيين أن يحملوا السلاح لتحرير الفقير والمستعبد و... إلخ، وكانت هذه أول دعوة للعنف في المسيحية ينظر لها لاهوتياً، وقصة المطران كابوتشي الذي كان يعيش في فلسطين ويهرب أسلحة للمقاومة في سيارته مازالت ماثلة في الأذهان، والذي استبعدته إسرائيل ليعيش في لبنان، ولقد اشتد عود هذا الفكر في السنوات الأخيرة ممثلاً في مظاهرات حقوق الإنسان والبيئة والمظاهرات ضد اجتماع الثمانية الكبار... إلخ. ثالثاً: مسيحيو مصر بين تياري العزلة والانعزال لقد تأثر المسيحيون في مصر بكل هذه الأفكار، وقد شكلت هذه الأفكار مع واقعهم المصري والعربي توجهاتهم بصورة واضحة، ففي الدولة العثمانية التي كانت مصر تابعة لها كان هناك دور واضح للأطباء المسيحيين واليهود والمطربين والفنانين، والعلماء، وكانوا يتواجدون في قصور الخلفاء، وهذا تقليد إسلامي قديم، وعندما أسس محمد علي مصر الحديثة كان الشعب المسيحي المصري يدفع الجزية ولايشارك في الجيش وكانت مصر تحكم بالشريعة الإسلامية، وفي محاولة جادة من محمد علي لجعل مصر دولة مدنية حديثة ودمج المسيحيين في المجتمع ككل رفع الجزية عنهم وأدخلهم الجيش، ورفع الحدود عن الشريعة الإسلامية لكن المسيحيين وبسبب تاريخ طويل من المعاناة كانوا دائما يتوجسون من الانخراط في المجتمع، ويستحضرون لاهوت العزلة، وفي عصر إسماعيل باشا أرسل بعثات للخارج مثل جده لكنه فتح الباب للإرساليات الأجنبية لأنهم أرادوا أن تكون مصر قطعة من أوروبا، في هذه الأثناء جاءت الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية، وقد قدمت البروتستانتية طرحاً لاهوتياً جديداً، وهو المدرسة والمستشفي وبينهما كنيسة صغيرة، وقامت بترجمة الكتاب المقدس كاملاً وعرَّبت العبادة وقدمت ترانيم باللغة العربية والموسيقي الشرقية، وشجعت المسيحيين علي الاندماج في المجتمع، وهو ما فعلته الكنيسة الأرثوذكسية، وبعد ذلك من نهاية القرن التاسع عشر تخرج في هذه المدارس من تولوا مناصب مهمة في الدولة من مسلمين ومسيحيين وأصبح في الدولة المصرية ولأول مرة مثقفون وسياسيون مسيحيون مع إخوتهم المسلمين المستنيرين والذين يعملون علي وضع واستمرار مدنية الدولة إلا أن الكنيسة كان لها موقف من المثقفين والسياسيين المسيحيين، حيث طالب المسيحيون العلمانيون بتحديث الكنيسة واندماجها في المجتمع إلا أن الكنيسة لم تكن قادرة علي ذلك في ذلك الوقت، واعتبرت أن دعوة هؤلاء خروج عن الإيمان بل وعدم خضوع هؤلاء للكنيسة، بل اعتبرتهم يساريين وشيوعيين... إلخ، وهكذا عاش المثقفون والسياسيون المسيحيون خارج الكنيسة، وهكذا كان سلامة موسي ولويس عوض ومكرم عبيد وويصا واصف وغيرهم الكثير لاترضي الكنيسة عنهم لسببين: الأول لأنهم متمردون علي الكنيسة، والثاني لأنهم يزايدون علي إيمانهم أو يمسكون العصا من المنتصف، وكان نموذج المثقف المسيحي غير مقبول كنسياً.. من هنا جاءت فكرة حبيب جرجس بإنشاء ما يسمي بمدارس الأحد لتربية مثقفين مسيحيين داخل الكنيسة ثم إقناعهم بدخول الدير ليحصلوا علي مناصب كنسية ليكون رجال الإكليروس هم رجال السياسة والثقافة الذين ترضي عنهم الكنيسة، وهكذا دخل نظير جيد(الأنبا شنودة) والأنبا صموئيل والأنبا غريغوريوس كأول دفعة لهذا الاتجاه.. قبل هذه اللحظة التاريخية كان حزب الوفد رائداً في دمج المسيحيين لسنين عديدة حيث كانت قيادته تضم إبراهيم فرج ومكرم عبيد.. وغيرهما سياسيا، وكان البروتستانت يحاولون إدماج رجل الشارع المسيحي ثقافيا واجتماعيا، ثم وقعت ثورة 23 يوليو وأصبحت القضية القومية تضم الجميع دون استثناء، أممت المدارس والمستشفيات البروتستانتية، وأصبح إدماج المسيحيين في المجتمع بقرارات فوقية، وكان البابا كيرلس السادس هو آخر جيل من الرهبان غير المثقفين أو المدربين سياسيا، وعند وصول البابا شنودة إلي سدة البطريركية والأنبا غريغوريوس أسقف التعليم والأنبا صموئيل أسقف الخدمات تغير تاريخ الكنيسة برسامة مطارنة كثيرين من المتعلمين فقط وأصبحت الكنيسة مكتفية بمثقفيها وسياسييها في مقابل السياسيين والمثقفين المسيحيين الذين لايخضعون للكنيسة، وهكذا أصبح تشكيل الكنيسة يدعو لكيان متكامل سياسيا وثقافيا واجتماعيا يعبر عن جميع المسيحيين ولاينفصل عن المجتمع، وكان الهدف بلاشك هو عدم الانعزال عن المجتمع، وليس العمل بالسياسة أو الصدام مع الدولة، إلا أن الظروف السياسية في عصر السادات وخروج الجماعات الإسلامية، وبروز الكنيسة بهذا التشكيل أدي إلي سوء فهم، فقد فكرت الدولة أن الكنيسة تريد لي ذراع السلطة، وفكرت الكنيسة أنه جاء الوقت لتعبر ثقافيا واجتماعيا عن جموع المسيحيين، وهنا لعب المسيحيون المثقفون والسياسيون خارج الكنيسة دورهم في هذا الصراع، فهؤلاء المسيحيون كانوا يرفضون أي دور للكنيسة في السياسة، بينما الكنيسة تري أن هؤلاء يضعفون الكنيسة بل المسيحية كلها حيث ساوت الكنيسة بين ذاتها والمسيحية، من هنا جاء الصدام بين موسي صبري ويونان لبيب رزق، وميلاد حنا وإدوار الخراط ومراد وهبة، وغيرهم مع الكنيسة لرفضهم أن تقوم الكنيسة بهذا الدور ورفض الكنيسة لدورهم هم في المجتمع كممثلين للمسيحيين، وحتي اليوم مازالت هذه المعضلة حيث أصبح للكنيسة فلسفتها الخاصة بها وآدابها وفنونها وأفلامها ومسارحها داخل الكنائس، بينما هناك مسيحيون في كل مجال لا تعترف بهم الكنيسة وليس لها علاقة بهم لأنهم يفكرون بطريقة أخري في دور الكنيسة مثل سمير سيف وداود عبدالسيد وخيري بشارة ومجدي صابر وهاني فوزي، وهذا غير المفكرين المتميزين الذين ذكرناهم آنفا. رابعا: الموقف المعاصر لمسيحيي مصر في السنوات العشر الأخيرة شعر المسيحيون الكنسيون أنه لابد أن يندمجوا في المجتمع لأن هذا هو الحل الوحيد للحياة في سلام كأمة واحدة ووطن واحد، وقد ترددت نفس هذه التعبيرات داخل الكنائس وبين قادتها، وظهر تيار قوي مضاد لفكرة العزلة، لكنهم اكتشفوا أنهم قد وصلوا متأخرين، فقد سبقتهم الفضائيات المسيحية المتطرفة التي تهين الإسلام ولا تناقشه أو تحاوره، وهو ما يرفضه المسيح الذي كان "يُشتم فلا يَشتم عوضا"، وكذلك فضائيات الإسلام التي تشعل الفتنة ذهابا ومجيئا ردا وتساؤلا وعندما حاولت الكنيسة بكل طوائفها تشجيع أولادها للمشاركة السياسية جنبوا وخافوا أن يخرجوا من حصن كنائسهم والذين حاولوا الخروج وجدوا المجتمع يرفضهم، لقد كان لابد للإكليروس المثقف أن يشجع العلمانيين المسيحيين للخروج والتفاعل مع المجتمع من زمن بعيد، وفي الكنيسة الإنجيلية تجربة واحدة تعضد ما حدث وأخري تدينه، فالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية تخدم المجتمع بصورة واضحة وتندمج فيه من خلال التنمية المستدامة وحوار الحضارات (الحوار الإسلامي - المسيحي) دون صبغة كنسية، فهي علمانية التوجه رغم خلفيتها الإنجيلية ومديرها علماني ومعظم موظفيها في الكوادر العليا علمانيون متدربون، أما التجربة الأخري فهي عندما حاولت الكنيسة الإنجيلية أن تكوّن فرقاً رياضية قامت بإطلاق دوري كرة القدم تحت اسم "رياضة وبطولة« ثم مرة أخري تحت اسم "خليك كسبان"، وهذان الدوريان كانا تحت رعاية السيدة الأولي سوزان مبارك، وكان الهدف أن يكون "دوري« بين الكنائس والساحات الشعبية والأندية، لكنهم لم ينجحوا إلا في دوري الكنائس، وعندما تقدموا لأكثر من ناد ودفعوا مبالغ كمقدم لكي يقيموا مباريات بين فرق الكنائس والنوادي، أعادوا لهم أموالهم مع اعتذار رقيق، لكن في الحفل النهائي للدوري حضر ممثلون وقادة رياضيون مثل أحمد شوبير وربيع ياسين وغيرهما، فهل ضاع الوقت لدمج المسيحيين في المجتمع؟ وهل يمكن لأجهزة الدولة مثل جهاز الرياضة ومؤسسة المسرح والحزب الوطني أن يفكروا في كيفية دمج المؤسسات الكنسية التعليمية والتنموية والرياضية والفنية لكي يشيعوا جوا حقيقيا من المواطنة ولكي يشجعوا المسيحيين بمواهبهم للمساهمة في بناء وطنهم كتفاً بكتف ويدا بيد، أري أن هذا الأمر يحتاج إلي إرادة سياسية، وأري أن الكنيسة والمسيحيين قد فطنوا الآن لأهمية المشاركة بكل قوتهم في المجتمع، وأري أن المجتمع الإسلامي مازال بخير وقادرا علي فعل ذلك بل يريده بقوة.