منذ الاعلان عن نتائج انتخابات المجلس التأسيسى فى خريف سنة 2011 التى أفرزت تولى أغلبية الحكم بقيادة حركة النهضة الإسلامى، والبلاد غارقة فى مستنقع عميق من العنف والفوضى. حيث انهارت جميع مقومات الدولة التى رُفعت أركانها خلال نصف قرن منذ استقلال البلاد، وقُوضت غالبية المكاسب الحداثية التى ميزت المجتمع التونسى المشهود له بالاعتدال والوسطية. ثلاثة اغتيالات متواترة لزعماء سياسيين فى ظرف سنة، والعشرات من القتلى فى صفوف الأهالى المدنيين ورجالات الشرطة، تلك هى الحصيلة الوقتية لحكم الحزب الإسلامى الذى ترك فى الرف المهمة الأساسية التى وصل من أجل تحقيقها إلى دفة الحكم (المتمثلة فى وضع الدستور)، وانبنى يتعامل مع الظرف السياسى الراهن بمنطق الغنيمة. إذ بمجرد انفتاح باب قصر الحكومة بالقصبة أمام الفصيل الإسلامى حتى انطلقت ماكينة الاستحواذ على السلطة تشتغل بالسرعة الخامسة. حيث تمت ازاحة جميع الكوادر الإدارية العليا والأدمغة المفكرة التى تمكنت من المحافظة على حسن سير الجهاز الادارى التونسى رغم الاهتزاز الذى أصابها بعد ازاحة الرئيس المخلوع زين العابدين بن على وحل جميع المؤسسات السياسية التى كان تُسير شئون البلاد (مجلس النواب، مجلس المستشارين، المجلس الدستورى، الدستور). ●●● فبدعوى تطهير الإدارة من وجوه محسوبة على النظام السياسى السابق، تمت اقالة العشرات من القضاة، وعزل المئات من كبار المديرين دون أن تُحيل ملفاتهم على أنظار المحاكم حتى لا يتكون قرارات طردهم مجرد غطاء لتصفية حسابات سياسية. استغلت حركة النهضة قيادتها للحكومة من أجل تولية أنصارها معظم المراكز الحكومية العليا. حيث نصبت أتباعها على رأس المحافظات والمعتمديات. وسهلت تدفق الآلاف من المتعاطفين معها داخل الأجهزة الادارية المحلية والجهوية قصد نسج شبكة ولاءات لفائدتها تحتاجها، لا محالة، فى الانتخابات المقبلة. رفض الفريق الحاكم جميع قنوات الحوار مع مختلف مكونات المشهد السياسى التونسى، وصمت أذانها على جميع مطالب القوى الديمقراطية تحت تعلة حصولها على تفويض شعبى فى ادارة أمور البلاد وفق أجندتها. وحتى الحزبيْن الصغيرين المتحالفين مع حركة النهضة، فلم يعد لهما القدرة سوى على مسايرتها بعد أن انفض عنهما الغالبية الساحقة من المنخرطين فيهما. وفرت حركة النهضة الغطاء السياسى لبروز المجموعات الإرهابية. فأطلقت سراح العشرات من السجناء الذين قُبض عليهم بتهم التحضير لعمليات ارهابية فى تونس. وغضت الطرف عن أنشطة الحركات السلفية الجهادية دون مراقبة أو محاسبة. واخترقت الأجهزة الأمنية، زارعة فيها عناصر من المتشددين لكشف أى مخطط من أجل التصدى للظاهرة الارهابية وتقويضها فى المهد. حاربت الحريات العامة والفردية، والتفت على ما تحقق للتونسيين من حريات بفضل ثورتهم. واستغلت فى ذلك المشاعر الدينية للناس من أجل تأليبهم ضد النخب المثقفة والطبقة السياسية المعارضة، مختلقة القضايا العدلية الوهمية ضدهم بتعلة «حماية الأخلاق الحميدة» و«التصدى للاعتداء على المقدسات». دفعت باتجاه وضع دستور جديد للبلاد، يقول خبراء القانون الدستورى إنه عوض أن يكون ذا منحى تحررى ويتلاءم مع أهداف الثورة، مثل تراجعا بارزا وملحوظا حتى مقارنة مع الدستور السابق الذى ثار ضده الشعب. ويمكن تلخيص الموقف من الدستور من البيان الأخير الذى أصدرته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الذى جاء فيه ما يلى: «وفى خصوص المجلس الوطنى التأسيسى، باعتباره السلطة الأولى المفوضة من الشعب، يسجل المجلس الوطنى للرابطة فشله فى إنجازه لمهمته المركزية المتمثلة أساسا فى صياغة دستور ديمقراطى مستجيبا لمقومات الدولة المدنية، مؤمنا للحريات الفردية والعامة وضامنا لحقوق الإنسان فى كونيتها وشموليتها وفقا لاستحقاقات الثورة وذلك فى الأجل المحدد له قانونا ومن طرف ناخبيه ومن عموم الشعب». ●●● لقد التقت جميع الحركات السياسية والمنظمات النقابية فى تونس، فى رد فعل موحد نادر الحدوث، على ضرورة اسقاط حكم النهضة وتعويضها بحكومة تتركب من كفاءات مستقلة حزبيا تُشرف على أمور الدولة فيما تبقى من زمن قبل تنظيم الانتخابات القادمة. وهو موقف من شأنه أن يتصدى لتغول حزب زادت النقمة الشعبية ضده أضعافا مضاعفة نتيجة لتلك الأخطاء القاتلة.