منذ الاستقلال فى عام 1956 تداول على حكم السودان حكام ينتسبون الى مرجعيات وأيديولوجيات مختلفة فلقد مرت على السودان منذ ذلك الحين حكومات اتخذت من ديمقراطية وست منستر البريطانية مثلا أعلى لها وحكومات أخرى اتخذت من مبادئ عبد الناصر الاشتراكية نبراسا لها وأخيرا فإن حكومة ذات مرجعية إسلامية متأثرة بفكر الإمام حسن البنا وشارحى فكره كسيد قطب وعودة وغيرهما ما زالت تحكم السودان منذ عام 1989 تحت قيادة الرئيس عمر البشير وهو ضابط فى الجيش الإسلامى عرف بميوله الإسلامية منذ الصغر. على مر العصور ومختلف حقب الحكم بأشكاله المتعددة فلقد تأثر النظام الحاكم فى السودان بشدة بالأحداث والتغييرات التى حدثت فى مصر وذلك لأنه ومنذ قديم الزمان أراد الله تعالى للسودان لأن يكون امتدادا جغرافيا واجتماعيا وثقافيا لمصر. فمن المعروف انه قبل تقسيم الدول العربية الى دول ذات حدود سياسية محددة كان السودان يحكم بواسطة الملك فاروق الذى كان يعرف باسم ملك مصر والسودان. ولكن بعد انتهاء فترة الاستعمار البريطانى لمصر والسودان وعلى الرغم من أن واقع الحال كان يقول أن تكون مصر والسودان دولة واحدة بعد خروج الاستعمار فإن بعض الاحزاب ذات التوجهات الاستقلالية قامت بتشجيع من البريطانيين بإعلان استقلال السودان عن مصر وقيام دولة السودان التى كانت تعرف بحدودها الجغرافية من حلفا شمالا حتى نيمولى فى جنوب السودان حاليا تلك الدولة التى انقسمت مؤخرا الى دولتين هما دولة السودان وعاصمتها الخرطوم ودولة جنوب السودان وعاصمتها جوبا.
●●●
إن المتابع للشأنين المصرى والسودانى منذ خروج المستعمر البريطانى وحتى اليوم يمكنه أن يرى بوضوح الدور الذى قامت به مراكز التخطيط الغربى الاستراتيجى ووكالات المخابرات المتعاونة معها من أجل تفتيت أى مشاريع للوحدة بين البلدين أو حتى التكامل الاقتصادى الذى كان أن يمكن تنتج عنه قوة اقتصادية وعسكرية مؤثرة ليس فقط فى المنطقة ولكن فى هذا القطاع الجغرافى المهم من العالم. ولقد نجحت تلك المخططات فى جعل مشاريع الوحدة والتكامل بين البلدين منذ ذلك الزمان وحتى الآن مجرد شعارات ترفع ما تلبث أن تنزل وهتافات تعلو ما تلبث أن تخبو.
من الثابت تاريخيا أن بعض وكالات المخابرات اتخذت من حكم مبارك الذى امتد قرابة الثلاثين عاما فى مصر شرطيا لإحكام الرقابة على أى طموحات سودانية فى التكامل مع مصر أو مع مصر وليبيا وإجهاض كل مشروع يمكن أن يحقق فوائد مشتركة لتلك الدول ومن ثم منظومة الدول العربية. وفى حين كان الشعب المصرى مشغولا بمشاكله الداخلية ومحاولاته للتخلص من حكم مبارك تمكنت القوى ذات المصلحة من فصل جنوب السودان وإقامة دولة عدوة للتوجهات العربية فى جنوب السودان وعلى منابع النيل الابيض والآن جاء الدور على النيل الازرق وما سيقام عليه من مشروع يسمى بسد النهضة ليتكامل تطويق مصر والسودان مائيا لأغراض يمكن أن نتحدث عنها لاحقا. أما زعزعة الأوضاع فى منطقتى حوض النيل والقرن الإفريقى لصالح أمن إسرائيلى ومآرب اقتصادية غربية فهى أهداف استراتيجية معروفة منذ زمن غير قصير.
●●●
إن ما نتج الآن من توتر فى العلاقات بين دول حوض النيل الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) هو أمر غير مبرر هندسيا ولا قانونيا وفى اعتقادنا إنما هى معركة مفتعلة قادها الإعلام بوعى أو غير وعى إذ إن المشكلة يمكن احتواؤها بكل سهولة على أسس قانونية وعلمية معلومة تحتكم لها كل دول العالم فى مثل هذه المشاريع. إننا نتوقع من الدبلوماسية المصرية ان تبدأ فورا فى إصلاح ما أفسد وأن تعيد مؤسسة الرئاسة المصرية الامور الى نصابها بفتح قنوات للتفاوض بين الدول الثلاث على أسس علمية وقانونية بعد توافر حسن النوايا من كل الاطراف وغض النظر عن التصعيد الإعلامى والكلامى الذى كاد يؤدى الى تطورات خطيرة تضر بالمنطقة وشعوبها ولا تستفيد منها غير إسرائيل ومن هم وراءها.