الحديث عن وجود أزمة تتعلق بمياه النيل هو حديث وسلوك يبتعد بنا عن الأزمة الحقيقية الحالة بين دول حوض نهر النيل من جهة, وبين كل من مصر والسودان من جهة أخري, فواقع الحال يشير إلي أن الأزمة تتعلق بمواريث تاريخية سلبية بين الطرفين. , وبواقع يتعلق بأوضاع دول الحوض داخليا وخارجيا, وبمدركات وممارسات سالبة من جانب كل من مصر والسودان تجاه دول الحوض وتفصيل ذلك: أولا. المواريث التاريخية السالبة. فالاحتكاك التاريخي المصري والعربي بمنطقة حوض النيل مازال يلقي بآثاره السلبية خاصة حال نشوب أي خلاف ولو محدود بين الطرفين, إذ ترفع علي الفور إعلاميا ودبلوماسيا راية الاستعمار المصري(إثيوبيا), وراية تجارة الرقيق العربي( كينيا), وراية الغزو العربي للشمال الأفريقي( أوغندا), وراية العنصرية العربية( جنوب السودان), وخلف هذه الصورة نجد الانتماء إلي الأسرة السليمانية لدي الأمهرا في إثيوبيا, والزعم بانتماء الدنكا( الجماعة الكبري في جنوب السودان) إلي يعقوب عليه السلام!! ثانيا. واقع دول الحوض داخليا وخارجيا. المتأمل في واقع دول نهر النيل يجد أنها مجزأة ثقافيا بين عربفون( مصر والسودان) وأنجلوفون( كينيا, تنزانيا, أوغندا, جنوب السودان) وفرانكفون( رواندا, بوروندي, الكونغو الديمقراطية) وأمهرية( إثيوبيا), وهو ما يعني أن احتمالات التنافس, بل والصراع بين هذه الدول تظل احتمالا قائما, ثم إن مجتمعات هذه الدول في معظمها مجتمعات تعددية( إثنية, ودينية, ولغوية,... الخ) وهو ما يعزز من احتمالات الصراع الداخلي, والحرب الأهلية, فإذا ما أضفنا إلي ما تقدم التأثير الصهيوني في بعض هذه الدول, لأدركنا أن المسألة أخطر بكثير من وجودأزمة حالة حول مياه النيل. لقد تمكنت إثيوبيا منذ بداية هذا القرن من أن تصبح قوة إقليمية في المنطقة بدعم صهيوني وأمريكي دفعها لمناجزة النفوذ المصري/ السوداني في المنطقة بل واحتوائه أيضا, فهي تقيم علاقات أمنية وعسكرية قوية مع كينيا منذ عام1964 عندما عقدت اتفاقية عسكرية معها لمواجهة المطالب الإقليمية للصومال في أرض الدولتين, واستعرضت قوتها العسكرية في حربين متتاليتين مع اريتريا وتدخلت في الصومال عسكريا ولا تزال وأسقطت حكم اتحاد المحاكم الإسلامية عام2006, ثم استجلبت القوات الأوغندية والبوروندية تحت مظلة الاتحاد الأفريقي لتواجه قوات شباب المجاهدين في الصومال, ولأول مرة يكون لإثيوبيا علاقات ذات شأن مع كل من أوغندا أو بوروندي, ثم إن قواتها وبدعم دولي موجودة علي الحدود بين السودان وجنوب السودان. ثالثا. المدركات والممارسات السالبة من جانب كل من مصر والسودان تجاه دول الحوض. لقد سقطت العديد من الرايات التي كانت ترفعها الدولتان في علاقاتهما مع دول الحوض, توارت راية الاستقلال الاقتصادي( تأميم قناة السويس) وسقطت راية النضال المشترك لمناهضة الاستعمار والعنصرية( عقب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية) وسقطت راية الوحدة الوطنية التي كان الترويج لها في دول الحوض ذات المجتمعات التعددية, وسقطت راية المشروع الحضاري السوداني الذي أريد الترويج له عنوة في دول حوض نهر النيل, فسقط المشروع وقسم السودان. إذا كانت الأزمة كما أسلفنا أكثر تعقيدا مما يتردد حول مياه النيل, فان التعامل معها بالتراخي بهذا التهويل الإعلامي( حرب المياه) أو بالتراخي الدبلوماسي, أو بالتعويل علي الدبلوماسية الشعبية!! وهي ليست كذلك, أمر يحتاج إلي إعادة نظر علي المستويين القانوني, والسياسي, وليكن معلوما منذ البداية أن اتفاقية مياه النيل( الاتفاق الإطاري-عنتيبي) لن تعدل, وأنها ستدخل حيز التنفيذ سواء وافقت عليها كل من مصر والسودان أو لم توافق. أولا. علي المستوي القانوني: أقترح الموافقة الفورية لجانب كل من مصر والسودان علي الاتفاقية كما هي, أو بالموافقة والتصديق عليها مع بعض التحفظات, ولدي كل من مصر والسودان الذريعة المناسبة في المرحلة الراهنة, بالتراجع عن موقفهما. ففي مصر يمكن أن ينسب الرفض للنظام السابق, وفي السودان يمكن أن ينسب تأجيل الموافقة علي الاتفاقية للانشغال بتسوية مشكلة الجنوب. وليس بتجديد في هذا المقام الاستمرار في التمسك بالتحفظات الثلاثة المذكورة آنفا للأسباب التالية: أن الاتفاقية الجديدة علي حد علمي لم تلغ الاتفاقيات السابقة المتعلقة بتنظيم مياه نهر النيل, ولا يوجد في بنودها أية إشارة إلي أنها ستحل محل الاتفاقيات السابقة. ثم إن الإصرار علي الالتزام بمبدأ الإخطار المسبق وهو مبدأ مقرر في القانون الدولي لن يكون له أية قيمة إذا ما أصبحت كل من مصر والسودان جزءا من الاتفاقية حيث سيكون لخبرائهما كافة الاتفاقيات للاطلاع علي كل ما يجري ويخطط للنهر, بل إن عملية التعاون والتكامل هذه قد تضيف الكثير من الموارد المائية للدولتين. أما الإصرار علي تمتع كل من مصر والسودان بحق الفيتو علي قرارات الهيئة الجديدة للنيل, فهو أمر مستغرب لسببين. أولهما. أنه يعطي ذريعة للقوي المعادية للعرب في المنطقة لتأكيد ادعاءاتها بالاستعلاء والعنصرية العربية, إذ كيف يحق لدولة ممر( السودان) ودولة مصب( مصر) أن يكون لأي منهما اليد الطولي التي تعلو فوق إرادات دول المنبع. وثانيهما. إن هذا المسلك يعني أن علي الدبلوماسية المصرية والسودانية إن تذهبا في سبات عميق طالما تم امتلاك الفيتو, وألا تبذل أي منهما جهدا لايجاد شبكة مصالح مع بعض دول الحوض تدعم المصالح المصرية والسودانية. ثانيا. علي المستوي السياسي. يفرض الوضع الراهن للعلاقات في المنطقة ضرورة السعي لتعديل ميزان القوي في المنطقة الذي يميل حاليا لصالح المحور الرباعي( إثيوبيا- كينيا أوغندا جنوب السودان) الذي يعمل تحت المظلة الصهيونية الأمريكية. وذلك باتباع مسارات أربعة: المسار الأول. قيام كل من مصر والسودان ومعهما اريتريا والسعودية واليمن ببذل أقصي جهد لتسوية المسألة الصومالية علي اعتبار أن الصومال تاريخيا هي الدولة التي كانت تحقق توازن القوي في المنطقة مع إثيوبيا وكينيا. المسار الثاني. تعزيز العلاقات العربية وبالذات المصرية/ السودانية باريتريا بحسبان أن الأخيرة مع الدعم العربي لها والذي لا يعني مقاطعة إثيوبيا يمكن أن يحقق توازن القوي مع إثيوبيا وقد حاولت اريتريا مرارا تعميق علاقاتها مع العرب فلم تجد إلا صدودا( فيما عدا قطر). المسار الثالث. بذل جهد دبلوماسي, واقتصادي مكثف مع بعض دول الحوض الأربع الأخري( الكونغو الديمقراطية, ورواندا, وبوروندي, وتنزانيا) والذي يمكن أن يجد له مردودا في مواجهة المحور الرباعي الآخر, حال الإعلان عن قيام منظمة لدول نهر النيل. المسار الرابع. السعي لممارسة ضغوط علي الدول الكبري( الصين, ايطاليا,...) التي تسعي إلي تمويل وإنشاء مشروعات علي نهر النيل, دون موافقة كل من مصر والسودان, وبتهديد مصالحها التجارية والاستثمارية في البلدين كلما أمكن ذلك. أستاذ العلوم السياسية-معهد البحوث والدراسات الإفريقية المزيد من مقالات د.ابراهيم احمد نصرالدين