الملحمية آخر ما يمكن أن يسم قصيدة النثر. هى إرث أثقل، فى بعضه، الأشكال الشعرية الأسبق لحد خلخلتها، وتفريغها أحيانا من الشعر. ولأن النسخ التى وصلتنا للآن من هذه القصيدة مشغولة بالذات وعليها، ومنحازة أكثر لوصفة: اليومى، الهش، المعيش، والآنى، يكون الماضوى، التاريخى خصوصا، وقوفا عند التراث هو ذلك الملمح الرجيم، الذى اتكأت فنية قصيدة النثر على تغييبه. وعلى رأس محاولات قلة لمصالحة هذا التراث، يجىء الديوان الأحدث للشاعر المصرى محمود قرنى «لعنات مشرقية»، 43 مقطعا ضمن قصيدةٍ أو سردية واحدة، تغترف من «ألف ليلة وليلة» «قصة الأميرة الورد فى الأكمام وحبيبها أنس الوجود»، التى استعار منها قرنى تراجيديا التيه اللا نهائى، وأسبغ عليها عصرنة وشاعريةٍ غامرتين، تمثلتا، بوعى أو بمصادفة، إشارة الناقد د. جابر عصفور إلى أن «ما يحتاجه التراث الأدبى للدفاع عنه لا الحاجة النظرية، وإنما الممارسة العملية بالتقديم الجديد له، وبما تسيغه الأذواق المعاصرة، رغم اختلاف تجلياته من عصرٍ إلى عصر!».
«إلى أقصى الشرق/ يمضى القائد بصحبة ملاكته/ وتحت إبطه خرائط الفاتحين/ قال بثقةٍ إنه يضع قدما فى «سمرقند» وأخرى فى «تركمستان»/ عند أول جدولٍ صادفه/ أوقف الجند/ ونظر إلى الخرائط/ فأدرك أنه ضل الطريق».
من يقرأ ديوان قرنى من آخره، يفاجئه عشرون هامشٍ، تتواتر فيها أماكن وشخصيات شرقية وغربية، ذوو صلاتٍ تاريخيةٍ، أو بدون. لكن عبر صلاتٍ شعرية جديدة تماما، جاور الشاعر بين «الأميرة/ الملاكة» والشاعر الألمانى «جوتة» الذى ذكر فى الديوان باسم إحدى قصائده «تاجر البن والشيلان»، و«الطغرائي» صاحب لامية العجم، و«بورخيس» أو العجوز الأعمى، وشاعر الهند الأكبر «رابندرانات طاغور»، فضلا عن ملوك وفاتحين من أمثال طارق بن زياد، وإبراهيم باشا فاتح الحجاز، والباهلى، وصولا إلى فرناندو وإيزابيلا، اللذيْن طردا من الأندلس آخر ملوك الطوائف «أبو عبدالله الصغير»، فجلس يبكى «مثل النساء مُلكا لم يحافظ عليه «مثل الرجال».
وتظل فرشة الأسطورة الصغيرة رابطا واهنا، يؤطر به الشاعر، عشرات الحكايات الفرعية، التى تماهى الأزمنة، وتصاحب الكتاب الذين ولعوا ب«ورد الأكمام»، فخرجت عليهم من صفحات الأوراق الصفراء، لتمسح على جبين «بورخيس» وتعلق سترة المعلم الأعمى «طه حسين» فى مشجبها، عندما «أرسل الأتابك فى طلبه» قبل أن «أغفى فى سراب القيلولة». أما تاجر البن والشيلان ف: «يضحك من أعماقه/ يحلم بمقعدٍ إلى جوار أبى إسماعيل الطغرائي»/ دون أن تمنحه المشيئة شرف الموت/ كهرطوقيٍ فاجر/ فيسرج بغلته/ ويمضى نحو الشرق بطيب خاطر»، ويرصده محمود قرنى هناك «فى حانة يملؤها المرضى والمعوزون» حيث يذهب ل«يقبل أصابع ورد الأكمام/ ويتحدث عن غواية شيراز/ وأشياء أخرى تناثرت مع الغبار».
وبالصيغة هذه يكون قرنى قد قدم الحل لما أسماه جابر عصفور بأزمة «استبدال الغرب الحديث بالتراث القديم»، وكون الشعر الغربى المترجم «مصدر إلهام وتكوين لشعراء قصيدة النثر، الذين يرى أنهم: «يعرفون عن رامبو أكثر مما يعرفون عن أبى نواس، وعن بودلير أكثر من أبى تمام، وعن سانت جون بيرس أكثر من المتنبى وأبى العلاء!».
يمكن تلقى ديوان «لعنات مشرقية» كحكايةٍ تتعدد مفارقاتها الدرامية، أو كعدة حكايات تظهر فيها «ورد الأكمام» كبطلٍ أو راوٍ، وكومضةٍ أحيانا. ولأن للحكى أدواته، تحتشد العديد من التقنيات السردية من مكانٍ وزمانٍ وحبكة وشخصيات وبناء، ما دفع الشاعر فتحى عبدالله للقول بأن «الرؤية الكلية التى تهيمن على النص هى روائية بامتياز»، دون أن يعنى ذلك الجور على الشعرية التى لم يتخل عنها قرنى لحظة واحدة، بل أكد اختياره لهذه الصيغة السردية، كى تكون بحسب عبدالله: «بناء جديد لشعرية جديدة».
وإذا ما حاولنا الحديث عن الهم، والسؤال الغائر فى وجوديته الذى يطرحه هذا الديوان، سيكون علينا الوقوف عند جداريات الخيبة التى شيدها قرنى عبر مقاطع كثيرة، مستعينا على ذلك ب«مسخرة» تيماتٍ كالعجز، والفقد، وتناسل المتاهات، عبورا إلى الجنون. وستكون الفانتازيا التى استلَّها الشاعر/ الراوى لتعرية الشرق التعيس، وتفكيك عظامه، ثم إعادة تركيبها كقطع البازل، منظارا للهوية التى يقتفيها قرنى، بطريقة من يفرغ حقيبة ملابسه بحثا عن «دبوس شَعر».
وعندما يخفت صوت الراوى، ليعلو الحوار، وتتعد الضمائر، وتتصاعد معهما الدراما، والأسئلة بالتالى، ستتواتر أمام أعيننا النهايات، حيث: «سيأتى «الباهلي» على حصته من الندم». وفيما «ورد الأكمام توقع صك عبوديتها نيابة عن الزعماء»، سيكون «بعض إخوتها يتعلقون بخشبةٍ فى جوف المحيط، وآخرون يترأسون قبائل عميقة الأثر فى حياة أممهم، ويعدون ببحث أمر المتعلقين بجوف المحيط بعد عودتهم من الإجازة الصيفية»، و«الشعب فى الحقول، يستمع إلى الإعلان الرسمى عن وفاة الدولة». فيقفل الشاعر أسطورته المشرقية على «ورد الأكمام» تمضى إلى الآخرة «ملفوفة بالخز والطنافس»، فيما يُشيِّع هو الشرق الحزين قائلا: «لم يسعك العالم الفانى/ فنم قريرا فى غسق الأبدية»؛ ويالها من نهايات!!.