فى اليوم ذاته الذى نشرت لى فيه هذه الجريدة عن خطورة استدعاء السياسة «بحساباتها» إلى ساحة الدين «بمطلقاته»، والعكس بالعكس، جرى ما جرى أمام الكاتدرائية. وكان لذلك تداعياته، ومترتباته.. وثمنه. ليس فقط فيما بدا لنا، بل فى كثير مما دار فى غرف مغلقة، واتصالات هاتفية «عابرة للحدود» ●●●
«لا تقل فتنة.. بل قل اضطهادا».. صدمتنى العبارة التى علق بها أحد المتابعين الكرام على تغريدة لى على موقع التواصل الاجتماعى تويتر. شىء من هذا أيضا وإن كان على الناحية الأخرى رأيته فى تعليقات القراء على مقال الأستاذ فهمى هويدى الخميس الماضى «ليذهب مرسى للكاتدرائية»
اعتدت أن أهتم بتعليقات القراء اهتمامى بآراء الكتاب. هكذا علمتنى «شعبية» الإنترنت؛ التطبيق العصرى «العادل» لما ادعاه ماو تسى تونج إبان الثورة الثقافية (1966) ففى صفحاته العنكبوتية، وآلياته «المتاحة» ندرك ما قد لا ندركه فى الغرف المغلقة أو فى التقارير «الرسمية» المنافقة. وهكذا كان عندما حاولت أن أعرف أين أصبحت «المسألة القبطية» فى مصر «الجديدة»، بعد عامين من تلك «اللحظة العبقرية»؛ الحادى عشر من فبراير 2011 يوم اصطفت «مصر الواحدة»؛ بمسلميها ومسيحييها تردد دعاء القنوت خلف الشيخ محمد جبريل، فى ذروة مشهد «وحدوى» كان يتصاعد كل يوم حتى ذهب ذلك اليوم بمبارك الفرعون «الكبير والصغير».
لم يكن ما رأيته هنا وهناك مريحا. وبدا كما ذكرت فى إحدى تغريداتى لأرصد رد الفعل: «كما لو أننا اكتشفنا فجأة أن هناك (آخرين) يعتنقون غير ما نعتنق؟».. والأدهى أن أحدا لم يجب على السؤال: «ماذا تقترحون علينا إذن أن نفعل مع أولئك الآخرىن؟!»
●●●
ربما نختلف حول تفاصيل ما جرى فى الخصوص.. ثم عند الكاتدرائية، أو داخلها. كما أننا قد لا نعرف على وجه الدقة «من.. وكيف.. ولماذا؟» فهذه مهمة جهات التحقيق فيما يُفترض أنه «دولة القانون». الشىء الوحيد الذى تأكد أن هناك أرواحا أزهقت ودماء أريقت، وصورا لفَّت العالم كله فى عصر تحكمه الصورة.والشىء الوحيد الذى بات للأسف لا يحتاج إلى تأكيد أن الحادثة لم تكن الأولى رغم اختلاف التفاصيل ولن تكون للأسف الأخيرة، فى ملف زادته حماقات السياسة احتقانا.
لست بحاجة إلى تكرار ما أشرت اليه الأسبوع الماضى من تداعيات «الاستخدام» السياسى للدين، لكننا قد نكون بحاجة لتدوين عددٍ من الملاحظات على هامش«الملف القديم». وبعضها، للأسف «قديم كما الملف». وكنا قد أشرنا اليه غير مرة فى هذا المكان، وقبلها بسنوات فى «وجهات نظر».
ورغم أن كاتبا لا يحب أن يكرر كلاما قاله يوما ما. ولكنها مصرُ التى باتت فتنها «يُرقق بعضها بعضا» كما يقول الحديث الصحيح.
من هذه الهوامش:
1 أن هذه الحوادث، رغم «ما يبدو» من استنكار الجميع لها لن تكون أبدا الأخيرة. طالما بقى وراء الأكمة ما وراءها؛ من حقائق «على الأرض»، ومصالح للبعض.. وحسابات للآخرين. وأن للمناخ «المحتقن» فى واقع الأمر تاريخا طويلا من الأزمات التى تركت ندوبا هنا وجروحا هناك. كما كان الاحتكامُ بشأنها دوما إلى غير القانون «المجرد»، كفيلا بإثارة شكوك بقيت فى النفوس، بعد أن تصور القائمون على الأمر أنهم «بالمواءمات» أو بدفن الجمار الملتهبة تحت الرماد البارد، قد نجحوا فى «احتواء الأزمة». وأن الزمن كفيل بدفن التفاصيل. والأمر، نعرف جميعا وإن لم نعترف، أنه لم يكن أبدا هكذا.
2 أن مصر «الواحدة» التى عُرف شعبها بحب آل البيت، والتى تبرع رئيسها «المسلم» فى الستينيات لبناء كاتدرائيتها، لم تعرف قبل أن تعصف بها «رياح السموم» فى سبعينيات القرن الماضى، مسمى «الفتنة الطائفية» أو تهمة «ازدراء الأديان»، كما لم يكن قد وصل إلى مسامع «مؤمنيها» أو إلى منابر مساجدها مصطلحات مثل «الصفويين» أو «الروافض». وأن مصر «الواحدة» تلك هى التى علينا أن نحرص عليها الآن، فى زمن يعاد فيه هندسة المنطقة؛ تحالفات، وعداوات.. وجغرافيا سياسية.
3 أن دولة مبارك كانت قد مضت شوطا طويلا فى ما كانت قد بدأته دولة السبعينيات، من تعميق شرخ أوجده، بقصر نظر سياسى فى حينه نظامٌ لم يتورع عناستخدام الدين فى تصفية خصومه؛ ضربا بهراوته أحيانا، أو بالتلويح بفزاعته أحيانا أخرى. كما لم يكترث إلى أن «التهميش» والإقصاء المنهجى. سواء كانللأقباط (كما يحكى رؤوف عباس فى مذكراته) أو للإخوان المسلمين كما فعل مبارك، لابد وأن يؤسس لحالة وصلنا إليها.
4 أن التلقين الذى هو داء التعليم، والتسلط الذى هو داء التربية. مرضان استشريا فى حياتنا الثقافية والسياسية والفكرية؛ من البيت إلى المدرسة إلى«الجماعات الدينية والسياسية». وكان أن وفرا فى النهاية تربة صالحة، ومناخا مواتيا لنمو ثقافة التعصب وحماقة الجهالة، بدلا من التفكير النقدى وعقلانية المنطق.
5 أن على الجميع أن يدرك، وأن يتعلم أن العقاب الجماعى لخطأ فردى «مهما كان حجمه» هو من قوانين الغاب ومن علامات غياب الدولة.
6 أن ما بدا من إفراط فى استحضار الدين إلى غير مكانه، سواء فى مسألة العلاقات مع ايران، أو اتهامات «سياسية» بالتكفير، أو بتفكير متهور فى السماح بالشعارات الدينية فى الانتخابات التى هى شأن سياسى بحت، كان له تأثيره وإن لم يدرك البعض على ملف ازدحم بأوراقه، واختلط فيها ماهو «مطلق» بطبيعته المقدسة، بما هو «نسبى» بحكم التعريف.
7 أن الذين أدمنوا استحضار خطاب «فى غير زمانه»، وبغير اشتراطاته، يبتعد عن مفهوم بات معاصرا للمواطنة، عليهم أن يراجعوا ما يأتى به خطابهم منمفاسد نعلم، وهم أعلم منا بأن «درءها مقدم على جلب المصالح».
8 أنه كما يعرف دارسو القانون أن «العدالة إحساس»، وليست مجرد نصوص أو تشريعات، يعلم دارسو الاجتماع السياسى أن «الشعور بالأمان» هو إحساسٌ وليس قرارات أو تصريحات. ويعلم القاصى والدانى (عدا من لا يرون من الغربال) أن الشعور بالأمان بات مفتقدا لدى أقباط مصر، لأسباب تراكمت على مدى العامين الماضيين. ولا داعى للتذكير بها.
9 أن مشكلة الأقباط، فى جوهرها هى مشكلة المسلمين. كما يذهب إلى ذلك فكرى أندراوس فى كتابه المهم «المسلمون والأقباط فى التاريخ» الذى قدم له المستشار محمود الخضيرى. فالاستبداد هو الاستبداد. والديموقراطية «الحقة»، لا الشكلية، إن توافرت الجدية والإرادة السياسية لا تعرف تمييزا؛ دينيا أو غيره.
10 أن هذا للأسف «ملف قديم». وكنا قد ظننا عشية الحادى عشر من فبراير وليس كل الظن إثم أن على الدولة أو «الجمهورية الجديدة» كما يحلو للبعض أن يسميها، وعلى «جماعتها الحاكمة» المسئولية الأولى فى أن تجلو عن قلب الوطن ما ران عليه من صدأ الفرقة وعفن الاستقطاب. إلا أن هذا للأسف ليس فقطلم يحدث، بل كانت هناك دائما إشارات فى الاتجاه المضاد.
●●●
وبعد..
فلا ليبرالية تؤسس لحق الآخر فى الاختلاف أسمى من «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ».
كما يبقى من نافلة القول أن الإسلام كما نعرفه، لا يعرف كل ما نسمع شاذا من صيحات عداء أو حمق استعداء أو نزق كراهية. وأن عباد الرحمن «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنا»، ما كان لهم غير أن يشيعوا حولهم الشعور بالأمان والطمأنينة والسلام. ولكنه الحمق، والجهالة.. «وحسابات الصناديق» … وقانا الله شر الثلاثة.