هذه الأحصنة الخشبيّة، النديّة الملوّنة وكأنّها نُحتت وطليت للتوّ، أعرفها منذ طفولتى. كم كبرتُ! وهى لا تهرم. كم من مرّة، طيلة السنوات التى بيننا، صبغت ورمّمت كى تبقى على بريقها القديم، تدهش الأطفال جيلا تلو الآخر؟ هنا باريس. باريس التى تتطوّر، ولا تتغيّر. باريس التى تبدّل فساتينها، ولا تُسقط جلدها. باريس التى تعتنى بتفاصيلها، من البرج المهول إلى أصغر شجرة فى شارع فرعىّ، على يقين بأنّها الشجرة بقدر ما هى البرج، وأنّها القادم ووعده، مثلما هى الماضى ومجده. •••
ليس الثبات دليلا على العراقة والأصالة. الحركة وما يواكبها وينجم عنها من تحوّلات شرط الحياة فى اللغات والهويّات والأوطان، تماما كما فى الكائنات الحيّة. تلحّ عليّ أسئلة الحجر والماء السائل، فى هذا المساء الباريسى، حيث كلّ فكرة تخطر لى، فى زاويتى من مقهى عربيّ فى العاصمة الفرنسيّة، بعد لقائى الحميم بأحصنة الطفولة الدوّارة تحت مظلّة. تحيلنى الأسئلة إلى مدينتين أحبّهما، هما القاهرةوبيروت. الأولى على ضفّتى نهر، والثانية ساحل على زرقة وأفق. المدينتان من حجر وماء، وبوسعهما ما بوسع القطرة والسيل. وقد نحت التاريخ ملامحهما عبر العصور بعمق لا تقوى على تسطيحه أو محوه أيّة عاصفة عابرة. أمضيت فى القاهرة عقدا من عمرى، تزامن مع تسعيناتها، وهو أحلى عمرى، نظرا لما تعنيه مرحلة الصبا والدراسة الجامعية والتفتّح على العالم لأيّ إنسان. هكذا زرعت القاهرة وردتها فيّ، وهى المدينة التى تهب ولا تقطف. هكذا طبيعتها الطيّبة. هى غريزتها كأمّ للدنيا، وللغرباء. ثمّ انتقلت إلى مدينتى بيروت، كمكان إقامة، منذ بداية الألفيّة الجديدة. تغيّرت المدينتان كثيرا فى السنوات الأخيرة.
تغيّرتا بحيث لم تعد القاهرة هى المدينة التى عشت ودرست فيها، وبيروت فى كلّ صباح تفقد شجرة أو مبنى قديما. كأنّما هناك من يتسلّل خلسة فى الليل، ويسرق ملامح مدننا؟ العجيب فى الأمر أنّ التغيّر عشوائيّ، لا يقوم على خطّة لتخطيط مدينة، ولا يمضى بالضرورة فى اتّجاه الحداثة. هو فى الغالب إهمال متراكم يؤدّى إلى انهيار ما، أو قرار فرديّ لشخص ما باقتلاع شجرة أو محو ملمح من مدينة عريقة.
•••
كم من القوّة والإيمان تحتاج مدننا العربيّة، كالقاهرةوبيروت، لتقاوم المعاول التى تهدم دون أن تبني؟ كم يؤلمها، كما يؤلم عشّاقها، هذا التآكل فى الأصل والصور؟ بالأمس، قمت بنزهة طويلة على قدمين من حنين، فى باريس التى أمضيت فيها طفولتى المبكرة، فوجدت كلّ أماكن ذكرياتى فى أماكنها، بلا غبار زمن، وبلا تشوّهات فى المشاهد والمعانى. الجسر الأخضر العريق الذى كنت أقطعه مع أمّى فى مشاوير مشمسة. المقاهى والمطاعم بأسمائها القديمة ذاتها، دونما ترهّل وتجاعيد وأعطاب. حتّى النسمة، ذكّرتنى بنسيم الماضى، رغم كلّ التلوّث الذى أصاب كلّ المدن الحديثة على كوكبنا. لماذا تشيخ مدننا فيما مدن العالم تبقى صبيّة ساحرة؟ وأين نحن من تطوّر لغتنا التى انصرفت عنها الأجيال الجديدة باستعلاء واستهزاء؟ لسنا المومياوات المبتسمة أمام نهر العالم الهادر. نحن الملامح المتساقطة مع أمطار لا تنبت عشبا. تشبهنا مدننا، وتهرم معنا، وكلّ أهرامنا مقلوبة. الثبات فى بلادنا ركود، والتحوّلات بلا بوصلة أو وجهة. ماذا ستصبح مدننا بعد عقدين من الآن؟ كيف سيصمد ما لا يرمّم منها؟ ومن أين للخيوط المتشابكة بفوضى أن تعثر على نسيج يصنع منها معطف وطن؟ باريس أمامى. ليست أجمل من القاهرة أو بيروت، وليست المدينة الفاضلة. لكنّها مدينة تعرف الحرّيّة والعدالة، وتطبّقهما، على حجرها كما على بشرها. الحرّيّة المسئولة والعدالة فى الحقوق، وليس بالضرورة فى الفرص أو حصص الهناء والسعادة.
•••
مدننا بأمسّ الحاجة إلى ثورة أخلاقيّة وجماليّة، يقوم بها الفرد وتساهم فى نهضتها المجموعات، بدءا من طلّاب فصل فى مدرسة حتّى الدولة، مرورا بكلّ أطياف المجتمع، حتّى المنبوذ منها. المدن ظلال ناسها. كيف لإنسان أنيق أن يرتضى برصيف قذر امتدادا لوجوده؟ بين الثبات والتحوّل، تصبح المدن ضفائر من ماضيها وآفاقها. تصير احتمالاتها الواسعة، وعصافيرها إلى أعلى، بعمق ما هى جذورها. أحلم بالقاهرة تجمع آثارها وأطفالها فى مشهد حيّ، لا فى صورة سياحيّة. أحلم ببيروت معافاة من أمراضها المزمنة والمستحدثة. نستحقّ أمكنة أجمل، تليق بما نطلق عليه وطننا وبنا، وبالذين سيأتون من بعدنا. أيّ إرث سنترك لهم، إن استمرّ انهيار هذه البلاد المهول؟ وماذا عن الأحصنة الخشبيّة فى أوطان لا تتيح لأطفالها حتّى برهة من ارتواء الحنين؟