الفنان جميل شفيق من الفنانين المصريين الذين حققوا نجاحا ملحوظا وبصمة خاصة في الحركة التشكيلية المصرية, مارس اتجاهات متنوعة من الفن كالرسم والنحت والتصوير بالألوان المائية والأكليريك وغيرها. أشتهر في مجال الرسم بالأبيض والأسود الذي يتقنه أيضا وله بصمة وأثر فيه يشهد عليه الجميع, فلوحاته الأبيض والأسود لها مذاق خاص, ويملك أسلوبا مميزا في تناول هذه الأعمال, وهو الملمس الذي يظهر في جميع لوحاته التي يستخدم فيها الحبر الشيني, ويتحكم به ليبرز موضوعه فيما بين الغامق والفاتح. وعلي شاطئ المتوسط أقام مملكته, في هذا البيت الذي فرشه بأثاث صنعه بنفسه من طرح البحر: الدكة والأبواب, كلها من ألواح خشبية رمتها الأمواج علي الرمال البيضاء. هنا يستعيد وئام الطفولة مع الطبيعة, متعة الصيد وتذوق رزق البحر, الذي يجيد طبخه, ويسترجع شيئا من صباه, عندما كان يتسلل إلي الترعة ليقضي ساعات طويلة في الصيد واللعب مع الطبيعة. في بيته علي البحر, في الساحل الشمالي غرب الإسكندرية, حيث استقر منذ عام1995 هربا من القاهرة الخانقة. هناك يستقبلك بحفاوة الأصدقاء القدماء, يقطف لك جوافة من الشجرة ويشاركك فرحة الطفولة بنمو شجرة التين القوية, ودهشته المستمرة من حيل عائلة القطط التي تشاركه عزلته شبه التامة أغلب العام. * قلت له بداية أود لو أعطيتنا نبذة ولو صغيرة عن البدايات والنشأة والتكوين كيف كانت وما هي المؤثرات التي صاغت أحلامك؟ ** جميل شفيق: أنا من أسرة قبطية متواصعة, كنا نسكن في حارة صغيرة تسمي حارة أحمد عبد الهادي, أنا ابن السنوات السعيدة علي ضفاف الترعة, وابن عائلة لم تجد مفرا من الإذعان لرغبتي بدراسة الفن, فسجلت رغبتي الأولي في كلية الفنون الجميلة في القاهرة, بعدما قضت الأم سنوات طويلة تتستر علي كراسات الرسم, خوفا من غضب الأب الذي لم يرد لي أن أنشغل عن الدراسة بالرسم. وأضاف في كلية الفنون, لم تكن الأجواء الثقافية والفنية المفعمة بأحلام الثورة غريبة عني. بعد تأميم قناة السويس في1956, رسمت لوحة كبيرة عن المقاومة في بورسعيد وعرضت في مدرستي: كانت مدرسة طنطا الأحمدية الثانوية من المدارس العظيمة, تحتضن الهوايات, كانت هناك غرفتا رسم, وغرفة أشغال, وجمعية رسم, وكنت مسئولا عن جميعة الرسم, وقد ملأنا المدرسة بصور عرابي مع زميلي الفنان حجازي الذي أصبح رسام كاريكاتير شهيرا. وفي القاهرة, سكنت شقة العجوزة والتي تقاسمتها مع نبيل تاج ومحيي الدين اللباد, وسرعان ما أصبحت هذه الشقة ملتقي لكل الفنانين والأدباء والمتمردين آنذاك: من الشاعر عبدالرحمن الأبنودي, إلي الكاتب يحيي الطاهر عبدالله, مرورا بالشاعر سيد حجاب والرسام آدم حنين. ويستطرد قائلا: عملت بعد ذلك في مجلة التعاون التي كانت توزعها الجمعيات التعاونية, بروح شاب شيوعي يريد أن يوصل الفن للناس, كانت رسوماتي مختلفة عن تلك التي كنت أرسلها لمجلة المجلة الثقافية. في التعاون كنت أتجنب رسم أشياء مجردة, سمحت لي هذه التجربة بأن ألف مصر من الدلتا إلي الصعيد. وبعد رحلة عشرة أيام من الواحات إلي النوبة, في إطار قافلة نظمها رئيس تعمير الصحاري لتصنيف التربة, عدت مفتونا بمتعة الصحراء وبخزين داخلي, وعدد لا بأس به من الاسكتشات. يتواكب حديث جميل شفيق عن هذه الرحلة التكوينية دائما بالحديث عن رحلات أخري قام بها بعد1979, في أنحاء العالم العربي, كخبير فني في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. أحب قصة إلي قلبه عن تلك الفترة قصة زيارته لقرية داري علي نهر شبيلي: كنا, نحن خبراء المنظمة, ذاهبين لتنظيم دورة للصوماليين. ركبنا طوفا لنصل إلي القرية, وشد الرجل الجنزير. لم يكن هناك عمدة في استقبالنا, الناس عملوا حلقات رقص, بآلاتهم الموسيقية والكراسي, وجلسوا لاستقبالنا. عاد من هذه القرية بكرسي لم يدق فيه مسمار واحد وبافتتان عميق بقرويين يعيشون في أكتفاء ذاتي كامل: هناك توازن بين الإنسان ووجوده, هو الذي صنع آلته الموسيقية, كرسيه, أكواب الماء, وكل شيء, أكتشف عالما مفقودا في مواجهة عالم استهلاكي لا يمكن الفرار منه. إلياذة جميل * كان طبيعيا إذن ألا يشغلك تنظيم معرض خاص؟ ** نعم لقد كنت مؤمنا بفكرة أخري, قريبة من مدرسة المكسيك, عن أهمية وجود الفن علي الجدران, في الخارج, كي يراه الجميع. الفن لم يكن بالنسبة إلي لوحة توضع في البيت. وهكذا لم أقم معرضي الأول إلا بعد الخمسين, سنة1989, مدفوعا بإصرار الأصدقاء. وفوجئت ب تجاوب الناس مع لوحاتي الأبيض والأسود المرسومة بالحبر. فقد كنت غير مشغول بالرسم من أجل إقامة معرض وكنت أرسم بشكل يومي وعندما شاهد الأصدقاء مثل آدم حنين والوشاحي وآخرين هذا الكم ألحوا علي فكرة ضرورة إقامة معرض فكان معرضي الأول وأذكر أن ردود الفعل كانت تحت عنوان( إلياذة جميل شفيق) وافتتح المعرض الفنان الكبير عبدالسلام الشريف, وهو من أطلق عليه بيكار سفرجي الكلمة في الصحافة المصرية فالشريف هو الذي بدأ في اللعب بالعناوين والمانشيتات وأنواع الخطوط العربية ووضعية الصورة داخل الصفحة وقمت بإهداء المعرض الي روح الفنان الجميل حسن فؤاد ومن بعدها توالت معارضي. ثم توالت المعارض بوتيرة سريعة: في القاهرة, وبيروت مسرح المدينة1995 و1997, قصر الأونيسكو(2002), عمان(1997) باريس, النرويج. هواية الصيد أنا أهرب إلي الطبيعة وعندي هواية صيد السمك وهذا يعطيني شيئا من التأمل لذا أهرب من القاهرة إلي الصحراء أو الي البحر فأنا أجد وجودي مع الطبيعة فالإنسان بالاساس منتج طبيعي. ومنذ طفولتي وأنا مرتبط هذا الارتباط بالطبيعة ففي آخر شارعنا في طنطا كانت هناك ترعة بدأت معها صيد السمك وكل التفاصيل المرتبطة بها من غابة بوص وشجر جميز وبدأ ارتباطي بالطبيعة وجميع وموزها. صحافة الفلاحين * هل تري أن ارتباطك بهذه الألوان كان من تأثير عملك الصحفي؟ ** من الممكن فأنا خريج قسم التصوير كلية فنون جميلة, وعندما عملت بالصحافة كانت صحافة موجهة للفلاحين تحديدا في جريدة التعاون في ظل هذا السياق الموجود بعد1952 والحديث عن دور العمال والفلاحين الأمر الذي كان يعني الوصول إلي هذا الجمهور بأبسط الوسائل وأكثرها جذبا. وأضاف: صنع لي عملي في صحافة الفلاحين نوعا خاصا من المتعة ربما لا تستطيع الصحف الموجودة في القاهرة أن توفره لي حيث كنت أدور في مصر كلها فأذهب إلي الواحات والي سيناء. صحافة القاهرة ربما تصنع منك نجما لكن هذه الرحلات أعطتني رصيدا ثريا جدا فمن الرحلات التي لا أستطيع نسيانها طوال عمري رحلة وقت بناء السد العالي وغرق النوبة فبدأت رحلتنا من الواحات ثم عبر قافلة صحراوية تحركنا من الواحات الي النوبة كانت رحلة تاريخية بعدها بسنوات كثيرة وفي إحدي دورات بينالي الإسكندرية رسمت لوحة اسمها عرس صحراوي فيها كثير من هذا المخزون الذي صنعته الرحلة بعد أكثر من خمسة عشر عاما. فالصحافة جعلتني أكثر قربا من الناس. ماذا يحبون وكيف يمكن أن تقدم لهم أنت شيئا مختلفا. كما أتاحت لي أن أشاهد مصر من الداخل من أقصاها إلي أقصاها. أيام في مدرسة الحرافيش * سألته عن أسباب انضمامه للحرافيش متي ولماذا؟ ** جميل شفيق: انضممت إلي الحرافيش بعد توفيق صالح بعقدين وتحديدا في1974 حينما دعاني صديقي بهجت عثمان إلي جلسة حرفشية ليعرف الحرافيش بصفتها مجموعة أصدقاء أساسها الرجال يتقابلون كل خميس يجمعهم الود وسرعة التواصل ويتميزون بحب الفكاهة. ويسترجع شفيق معلوماته عن بداية الحرافيش قائلا: في1936 التقي الروائي عادل كامل وأحمد مظهر علي ظهر مركب متوجهة إلي برلين للمشاركة في دورة الاوليمبياد, مظهر بصفته بطل فروسية وكامل ممثلا لطلبة الجامعات المصرية, تصادق الاثنان واتقفا علي الالتقاء كل خميس ومناقشة أحد الكتب في كل مرة, وفي بداية الأربعينيات تعارف محفوظ وعادل كامل وانضم إليهما لكنها بدأت تبتعد عن فكرة الصالون الثقافي وتأخذ طابعا أكثر حميمية يختلط فيه العام بالخاص, كانت جلسات الحرافيش بالنسبة لأبطالها أنفسهم مثل مفجر للطاقات ومولد للهمم, والدليل علي ذلك ليس فقط في تميز كل في مجاله( عادل كامل الروائي ذو الموهبة النادرة الذي حصل علي جائزة مجمع اللغة العربية في نفس العام مع محفوظ عن روايته ملك من شعاع, وأحمد مظهر الفارس والممثل القدير والمثقف المتميز, وتوفيق صالح في إخراجه لأفلام معدودة لاتزال علامات في تاريخ السينما العربية, وبهجت عثمان رسام الكاريكاتير الفذ ومحمد عفيفي الكاتب الساخر), بل في تناول محفوظ نفسه لموضوع الصداقة كتيمة أساسية لروايته قشتمر, حتي وإن اختلفت الأحداث بطبيعة الحال بين الواقع والخيال إلا أن الحرافيش كانت المصدر والإلهام ولنقل الطاقة المفجرة للعديد من إبداعات محفوظ. تسير الأيام بلا توقف لاتعترف بهدنة أو استراحة, نحن نكبر, وحبنا يكبر, إن غاب أحدنا ليلة لعذر قهري قلقنا وتكدرنا كما يقول الراوي في رواية قشتمر أو واقتصر المجلس علي خمستنا اصبحنا من معالم المقهي, وظل قشتمر أحب الأماكن إلينا بل هو المأوي الذي نخلو فيه إلي أنفسنا ونتبادل عواطف المودة. ويستطرد جميل شفيق قائلا: لا يرتبط اسم الحرافيش برائعة نجيب محفوظ ملحمة الحرافيش, لكنه اسم اختارته مجموعة الأصدقاء قبل حتي أن ينضم إليهم محفوظ, حينما كانوا يناقشون الكتب في منتصف الثلاثينيات فجذب انتباههم في كتاب رفاعة رافع الطهطاوي تخليص الإبريز في تلخيص باريس مقولة( ويجلس الحرافيش علي القهاوي) وكانت كما يروي شفيق مستخدمة بمعني الطبقة الوسطي التي كانت ترتاد المقاهي الباريسية, وأحب الأصدقاء هذا الاسم وأطلقوه علي جماعتهم. * سألته أخيرا عن أهمية توظيف الفن ولماذا؟ ** قال: الفن فن, وعملية توظيفه مهمة, فعندما تضع لوحة في منزل أو متحف أو معبد فأنت بذلك توظفها, لكن العملية بالنسبة لي هي لا لتكرار العمل, فأنت تقوم بانجاز عمل مكتمل غير مكرر وفي نهايته شمعدان, فهو في حد ذاته عمل فني, وأيضا لوحة وشمعدان, فأصبح مجموعة مكونة من منحوتة, رسم وشمعدان, كما أنني وجدت قواقع البحر التي تتميز بتكويناتها الجمالية تصلح لوضعها مع الخشب في عمل واحد, فأضفتها, فهذا كله أشياء تكمل بعضها. واختتم شفيق حديثه معي برسالة قال انه يوجهها للمصريين: إن الدين تحول لدي البعض إلي وطن.. وهنا نفقد معنيمصر التي هي أنت وأنا, فمصر بشر مش النيل والأهرامات فقط.. أنا مصري أولا ثم مسيحي.. فلما الدولة الإنجليزية المسيحية علي سبيل المثال.. تيجي تحارب بلدي فسوف ندافع عنها كلنا مسلم ومسيحي, ومش ها تفرق القنابل بيني وبينك, ففي الحرب سنموت معا, وأنا ضد كلمة عنصري الأمة.. لأننا أمة واحدة عاشت وستعيش علي الدوام, لذلك يجب أن ننتبه ونواجه دعاوي التمزيق التي تدور من حولنا.