تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبحث عن الرصيف
نشر في الأهرام المسائي يوم 09 - 12 - 2010

حين أتأمل ما لدي من آثار الرحالة العرب‏,‏ بالفخر والغيرة والحيرة‏.‏ فخر بإنجازهم‏,‏ وغيرة منهم‏,‏ وحيرة كان يمكن أن تنتهي لو أجابوا عن سؤال يخص فلسفة كتابتهم هذا النوع الأدبي‏.‏ كتبوا كثيرا‏,‏ ولم يهتموا بتنظير ماتركوه لأجيال لاحقة
المقارنة بين ما تركوه وما يمكن أن أكتبه ظالمة‏,‏ هذا يفسر لي سر تهربي من الكتابة‏,‏ متعللا بأعذار لا تقنعني‏,‏ كلما زرت بلدا‏,‏ قلت لنفسي إن كثيرين سبقوا ورأوا‏,‏ اندهشوا أو صنعوا الدهشة لم يتركوا شيئا‏,‏
حتي أصبح العالم مكشوفا بل منتهكا‏,‏ فما الذي بقي لنا؟ لا شيء سوي العين البكر‏,‏ عين آدم حين خرج من الجنة إلي أرض عليه مهمة اكتشافها‏,‏ الاكتشاف فضيلة تكفر عن خطيئة‏.‏ العالم رغم السكون الظاهر متجدد ينتظر من يراه بعين لم تسأم التكرار‏,‏ ويتواصل مع روح البشر والأماكن‏.‏ أدب الرحلة فائض محبة‏,‏ علاقة مراوغة للقبض علي معني هارب‏,‏ والصدق هو ما يمنح الكتابة معني‏.‏ لم أضبط نفسي مضطرا لقول ما لا أريد‏.‏ أستبق الزمن ناظرا إلي الأمام مئة عام‏,‏ وأضع نفسي مكان قارئ لم يولد بعد‏,‏ سيكون قاسيا في حكمه‏,‏ وأتفادي أن يصفني بالكذب حين يقرأ لي شيئا عن بلد لم أحبه بقدر كاف يحملني إلي الكتابة عنه‏.‏ زرت بلادا جميلة‏,‏ أو تبدو كذلك‏,‏ ولم تلتقط نفسي الإشارة‏,‏ تلك الذبذبة الخاصة بروح المكان‏,‏ وتأجلت الكتابة‏,‏ إلي حين أو إلي الأبد‏.‏ كما تكررت زيارتي لبلاد لم تتجاوز العين إلي قلب يجب أن يفيض بمحبتها أولا‏.‏
في السفر ابحث عن مصر التي أحلم بها‏.‏ من حق أي إنسان أن يري بلده الأجمل‏.‏ لا أبالغ إذا قلت إن مصر هي الأبهي‏.‏ دائما أقول لأصدقائي من غير المصريين إن القاهرة بصرف النظر عن أي اسم تحمله عبر العصور خلقها الله علي مهل‏,‏ في هذا المكان‏,‏ ثم خلق مصر بحدودها التي لم تتغير منذ عام‏3100‏ قبل الميلاد‏,‏ ثم خلق الدنيا‏.‏ أقسو علي مصر لأنني أغار عليها‏,‏ وقسوة المحب واجبة دائما‏.‏ أكاد أتشاجر مع عبد الرحمن الكواكبي‏(1854‏ 1902),‏ وأصرخ فيه‏:‏ نحن شعب طيب‏,‏ راق‏,‏ فمن أين يأتي الجهلاء المستبدون إلي سدة الحكم؟ أستحلفك بكل غال عشت وقتلت من أجله‏,‏ أن تراجع بعض أفكارك‏,‏ خصوصا تلك التي تنبش عن مستبد بداخل كل منا‏,‏ كما تقول في كتابك‏(‏ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد‏):‏
وإذا سأل سائل‏,‏ لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو‏:‏ إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا‏,‏ فلا يولي المستبد إلا علي المستبدين‏.‏ ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء المستبدين مستبدا في نفسه‏,‏ ولو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم‏,‏ حتي ربه الذي خلقه تابعين لرأيه‏.‏ فالمستبدون يتولاهم مستبد‏,‏ والأحرار يتولاهم الأحرار‏,‏ وهذا صريح معني‏:‏ كما تكونون يولي عليكم‏.‏
الآن‏,‏ حين أعيد قراءة ما سجلته عقب رحلاتي‏,‏ أكتشف أنني كنت أبحث عن المدينة‏,‏ عن الرصيف‏,‏ عن الدولة‏.‏ تخلو القرية من الرصيف‏,‏ تختلط السيارات والعربات الخشبية والدراجات والمشاة والدواب‏,‏ تسهل السيطرة علي القرية‏,‏ يمكن تطويقها لخلو تضاريسها من التعقيد‏,‏ ويسعي الاستعمار أولا لترييف المدينة‏,‏ وتخريبها بنزع روحها‏,‏ وتنميط علاقاتها لتصير قرية‏.‏ في القرية‏,‏ تحدد الأفق والخيال أعراف العشائر‏,‏ وفي المدينة تمتد الأحلام باتساع الأخيلة‏,‏ والرغبة في المشاركة في دولة دينها دستور يصنعه المواطنون‏.‏
تبدو العاصمة الجزائرية جنة رعوية‏,‏ غابة تضم هضابا وأودية وسهولا وأشجارا‏,‏ ثم نبتت فيها مدينة صنعها الله علي عينه‏,‏ ثم قال لها كوني فكانت لوحة تلخص التاريخ‏,‏ ضد فكرة الاستقامة والبعد الأحادي‏.‏ شيء من التعقيد يمنحها غموضا‏,‏ يجعلها أقرب إلي فكرة العناد والاستعصاء‏,‏ فما الذي أوقعها تحت الاحتلال أكثر من‏130‏ عاما؟ كيف ينام مستعمر قرير العين في مثل هذه الجغرافيا؟
كتاب‏(‏ الأولمب الإفريقي‏:‏ الجزائر بعيون عربية‏1900‏ 2005)‏ يقدم إجابة كتبها الزعيم المصري محمد فريد‏(1868-1919),‏ وقد زار الجزائر عام‏1901,‏ وسجل عنصرية المستعمر الفرنسي في تغيير معالم المدينة‏,‏ فما يباح للفرنسيين أو المتفرنسين‏,‏ ممنوع علي الجزائريين فلا يجوز لهم أن يؤلفوا أي جمعية ولو لفتح المدارس ونشر التعليم‏..‏ أما ما اتفق علي تسميته بالتعليم العصري‏,‏ فلا وجود له بالنسبة للمسلمين بالمرة‏,‏ كما حولوا بعض المساجد إلي كنائس‏,‏ واستبدلوا بأسماء المدن أسماء إفرنجية محضة‏,‏ ومنعوا الجزائريين أن يختلطوا بمسلمين أجانب‏,‏ وبخاصة الأتراك والمصريون‏..‏ فالمصري تخشي مخالطته للجزائريين لما تعوده في بلاده علي حرية التكلم والكتابة والانتقاد العلني‏.‏ ولذلك فكل مسلم يطأ البلاد الجزائرية مراقب أشد المراقبة بكيفية غير محسوسة‏.‏
المدنية التي أبحث عنها بنت الزمن‏,‏ تحمل من كل عصر رائحته وبقايا لونه وآثار أرواح أهله‏,‏ تمتد جذورها في الأرض‏,‏ ثابتة يصعب علي الريح أن تذروها‏,‏ لا يكفي التنظيم وحسن التنسيق‏,‏ وجمال السطح الفاقع في فقرة‏,‏ لابد من شيء آخر‏,‏ لعله العمق‏,‏ لعلها الروح‏.‏ في كتابه عن أسمهان‏,‏ يسجل محمد التابعي أنه ذهب إلي تل أبيب عام‏1941,‏ قائلا‏:‏ والأثر الذي تركته هذه المدينة أنها أشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليود ليلتقطوا
فيها حوادث فيلم سينمائي معين فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر‏,‏ هدموا المدينة وما فيها‏!‏ اي انها مدينة ولكنها لا توحي إلي النفس بشعور الثبات والاستقرار‏.‏
أتحدث عن القاهرة‏,‏ احاول متمنيا ان أقبض علي بقايا المدينة وهي تتسرب امام الأعين‏,‏ تنجرف من دون رحمة إلي ترييف عمراني‏,‏ وترييف نفسي أكثر خطرا‏,‏ لانه يحتمي بالدين‏,‏ في نفاق جماعي لم تشهد له مصر مثيلا‏,‏ تتجاور مظاهر التدين الشكلي مع كل انواع الجرائم‏,‏ تتعانق اقامة الصلوات الخمس من مكبرات الصوت في مساجد وزوايا مع اغان قبيحة تنطلق من سيارات لا تكف عن ضخ نفيرها‏,‏ التزييف والترييف في سباق محموم‏,‏ تتصالح فيه الرشوة والفساد مع الحرص علي إقامة الصلوات في اماكن العمل‏,‏ يسهل ان تري اكوام القمامة في الشوارع بجوار مساجد تقام فيها دروس الوعظ يوميا لحث الناس علي الإيمام بدين هم مؤمنون به‏.‏
أبحث عن مدينة حقيقية‏,‏ فضاؤها يؤهل الناس للتسامح‏,‏ القرية تعود سكانها علي نمط يكاد يكون وحيدا‏,‏ لا يقبلون الغريب‏,‏ ويرتابون في القادم‏,‏ ولا تتلاقح افكارهم إلا قليلا‏,‏ والأفق محدود لا يتسع للجديد‏,‏ ولا يرحب به‏,‏ كانت رحلة الشيخ مصطفي عبدالرازق الاوروبية فرصة ليطلعنا علي أن الرقص مهما يكن من شأنه فهو من متاع المدينة‏,‏ ونحن لا نزال نلمس من المدينة ما يسد الرمق‏..‏ لا تخلو الأمم من الرقص إلا فترات في عهود الانقلابات الخطيرة‏,‏ او الفتن العاصفة هكذا كتب الشيخ الذي يصف ام كلثوم‏,‏ عام‏1925‏ بأميرة الغناء في وادي النيل‏,‏ وانها نعمة من نعم الدنيا ويري أنه من الغريب ان بعض سيداتنا يسدلن النقاب علي وجوه أذن الله ان تكشف‏.‏
ترييف الناس بلغ حدا يدفع بعض خطباء الفضائيات إلي تكفير غير المسلمين‏,‏ والصاق الصفات الكريهة بالاوروبيين وتقديم العزاء للمسلم المضطر للبقاء هناك في ديار الكفر ولكن وزير الاوقاف المصري‏,‏ شيخ الأزهر عبدالرازق يطلعنا في كتاب‏(‏ مذكرات مسافر‏..‏ رحلة شيخ الأزهر إلي أوروبة‏1909‏ 1914)‏ علي وجه سمح لعالم اكسبته الرحلة تحضرا حتي انه يعلن انه يحب باريس حبا جما‏..‏ باريس موجود حي‏,‏ تنبعث الحياة من ارضه وسمائه‏,‏ وصبحه ومسائه‏,‏ ورجاله ونسائه‏,‏ باريس عظيمة بكل ما تحتمله هذه العبارة من معاني الحياة والإجلال والجمال والذوق والانسجام والخلود‏,‏ باريس عاصمة الدنيا‏,‏ ولو ان للآخرة عاصمة لكانت باريس‏!‏
وجه آخر للمدينة يقدمه شيخ الأزهر في أسي‏,‏ فمرضي باريس متفائلون ومع كل واحد من اولئك المرضي مبصقة‏,‏ يودعها في خفاء ما يفيض به صدره فلست تلمحهم حين يبصقون‏,‏ ولست تري في سبيل اثرا لبصاق‏.‏ اما قومنا عفا الله عنهم مرضي وأصحاء فيبصقون في كل مكان‏,‏ تري آثار لعابهم ونفثات صدورهم وخياشيمهم في المتنزهات والطرقات‏,‏ والمنازل وأماكن العمل‏,‏ وفي عيادات الأطباء ايضا في عيادة طبيب‏,‏ سعلت مريضة وبصقت علي الأرض‏,‏ يصف الشيخ سلوكها بأنه إخلال بأبسط قواعد الصحة والآدب وأزعجة ان يقول زوج المريضة‏,‏ مسوغا سلوكها‏,‏ ليس علي المريض حرج‏,‏ ويعلق الشيخ قائلا‏:‏ اعلم يقينا ان الله لايريد ان يقول إنه لا لوم علي المريض ان يلوث ببصاقه حجرة طبيب‏,‏ ومعاذ الله ان يكون الدين الذي جعل الطهارة من الإيمان مسوغا للناس ان ينشروا في الأرض اقذارهم وجراثيم امراضهم‏,‏ ولقد سمعنا ان بعض علماء الأزهر كان إذا غضب من تلاميذه في الدرس بصق في وجوههم‏,‏ ويقال إن الحال تغيرت في ما غير الدهر من شئون الأزهر ونرجو ان لا تكون قد انعكست الحال‏.‏
من حقي أن أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت ماذا يقول ابن خلدون لو رآها الآن؟ لم يقف طويلا امام الإسكندرية‏,‏ وقد أقام بها شهرا بعد رحيله إليها من تونس‏,‏ ولكنه رأي القاهرة حضرة الدنيا‏,‏ وبستان العالم‏,‏ ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر‏,‏ وإيوان الإسلام‏..‏ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء‏..‏ سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس‏,‏ وكبير العلماء بالمغرب‏,‏ ابا عبدالله المقري فقلت له‏:‏ كيف هذه القاهرة؟ فقال‏:‏ من لم يرها لم يعرف عزالإسلام وينقل ابن خلدون قول قاضي العسكر بفاس للسلطان في مجلسته‏:‏ إن الذي يتخيله الإنسان‏,‏ فإنما يراه دون الصورة التي يتخيلها‏,‏ اتساع الخيال عن كل محسوس‏,‏ الا القاهرة‏,‏ فإنها أوسع من كل ما يتخيله فيها وأعجب وصفة السلطان‏.‏
من حقي ان أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت اخجل من المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة‏(1907‏ 2006)‏ اشعر انني اخون ثقته‏,‏ في سيرته‏,‏ وتحت عنوان‏(‏ هذه هي المدينة‏)‏ يقول إنه في القاهرة‏,‏ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين‏,‏ رأي مدينة لأول مرة‏,‏ القدس ودمشق وحلب وبيروت بدت لي قري كبيرة جدا بالنسبة إلي هذه المدينة‏..‏ في القاهرة عرفت معني المتحف‏,‏ باختصار بهرتني القاهرة المدينة‏,‏ وبهرتني القاهرة الجميلة بشوارعها العريضة بقصورها الفخمة بدار الأوبرا وبعد أن أصر علي تسلق الهرم‏,‏ يقول‏:‏ وقفت علي قمة هرم الجيزة الأكبر‏,‏ والقيت بنظرة إلي ما انبسط امامي فرأيت دنيا تآمرت الطبيعة والإنسان علي إقامتها وتزويقها وزخرفتها‏,‏ فقد حباها الله بماءالنيل الذي يحيي الأرض ويبعث فيها الروح والريحان‏,‏ ورأيت يومها امامي علي شيء من البعد جبل المقطم الذي تسلقته إلي القمة ايضا بعد بضعة ايام‏,‏ بين المقطم والأهرام نشر التاريخ أمجاده‏(‏ حول العالم في‏76‏ عاما‏:‏ رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي‏1916‏ 1992).‏
لا اشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن‏,‏ ولاتبهرني البنايات الفخمة‏,‏ الا بقدر ما تحمل من ملامح لمن شيدوها‏,‏ كأنني أراقبهم‏,‏ أردد غناءهم‏,‏ وأحنو عليهم فأحتمل بعض شقائهم‏,‏ وأمسح عرقا يتصبب منهم‏,‏ ويتشكل حجارة لها رائحة البشر‏.‏
أتامل ذلك الطفل الذي كنته‏,‏ وهو يقبض علي عصا يقود بها الحمار‏,‏ وتتيبس يده من شدة البرد‏,‏ وينفخ فيها ليدفئها‏,‏ لكي يتمكن من القبض علي الشقرف‏,‏ لحش البرسيم للبهائم‏,‏ ويؤخره شغل الغيط عن حضور طابور المدرسة‏,‏ وكيف تعلم مصادفة‏,‏ من دون ان يبالي به أحد‏,‏ رغم حرص امه‏,‏ التي لا تقرأ علي أن يستمر في الدراسة‏,‏ أتذكره في بداية المرحلة الثانوية‏,‏ وكان الحضور إلي معرض القاهرة للكتاب حلما يتحقق بجنيه واحد‏,‏ وتأجل الحلم‏,‏ اتأمل ذلك الطفل‏,‏ وانظر ورائي واتنهد بعمق‏,‏ كأنني عشت مائة عام‏,‏ ولا أصدق ان طفلا عاش حياة كدراما سيكون له عبر القارات اصدقاء من الأماكن والبشر‏.‏
قبل أن تكون الرحلة ممكنة‏,‏ تمنيت ان يتاح لي منطاد ثابت في الأفق‏,‏ ولو بعيدا عن نطاق جاذبية الأرض‏,‏ لأراقب حركة الناس من بعيد‏,‏ ولكن التورط في أجواء الرحلة حقق لي متعة الرؤية والاستماع معا‏.‏
وحين اصبحت الرحلة ممكنة‏,‏ اكتشفت انني أزهد السفر‏,‏ ولست مولعا به‏,‏ قبيل كل سفر اتمني الغاءه‏,‏ أشعر بالانقباض‏,‏ ليس رهبة من الموت‏,‏ لكنه احساس غامض لا أعرف له تفسيرا‏,‏ قبل ثلاثة أيام من سفري إلي الهند للمرة الثانية‏(2008)‏ اشتريت لأولادي سيارة ظللت استبعد فكرة اقتناء سيارة او قيادتها‏,‏ لشغفي بالنظر إلي ما حولي وأنا راكب بحرية لا تتاح لسائق‏,‏ فاجأت اولادي بالسيارة يقودها أخي أيوب‏,‏ لم أخبرهم حتي بعد رجوعي من نيودلهي أنني كنت أشعر‏,‏ قبل السفر‏,‏ بملاك الموت ينتظرني في بلاد غاندي‏,‏ وأردت اعفاءهم من عناء شوارع القاهرة‏,‏ في تلك المرة اخطأني الملاك‏.‏
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.