الجمعية التأسيسية، لكتابة الدستور المصري الجديد والتي تشكلت في 12 يونيو 2012، والدستور الذي أخرجته كانا محل صراع بين القوى المدنية والإسلامية، خاصة ما تعلق من مواد الدستور بالحريات وحقوق الإنسان. صراع سيستمر حتى بعد تبني الدستور بعد الاستفتاء عليه ودخوله حيز التنفيذ.
رغم الاعتراضات التي قامت على الجمعية التأسيسية الثانية وطريقة تشكيلها وسيطرة الإسلاميين عليها والتي رأت أن أسباب حل الجمعية الأولى ما زالت متوفرة في الجمعية الثانية، إلا أن الأخيرة واصلت عملها حتى إنهاء كتابة الدستور رغم انسحاب أكثر من أربعين من أعضائها احتجاجا على استئثار تيار واحد؛ الإسلاميون ممثلون في الإخوان المسلمين والسلفيين، بكتابة مواد الدستور.
وقامت الجمعية بتسليم النسخة النهائية من الدستور إلى الرئيس محمد مرسي في الأول من ديسمبر 2012 والذي قام بدوره بدعوة الشعب للاستفتاء عليه غير ملتفت للمطالبات بطرحه لنقاش مجتمعي قبل الاستفتاء وإقامة حوار سياسي مع المعترضين على بعض المواد لإيجاد حل وسط.
أحزاب المعارضة تكتلت في جبهة واحدة أطلقت عليها "جبهة الإنقاذ الوطني"، معلنة أن هذا الدستور معيب ولا يضمن الحريات وحقوق الإنسان، وهي من القيم التي ارتكزت عليها ثورة 25 يناير، كما أنه يكرس لدولة الاستبداد. اتهامات أكدها كثير من المختصين والعاملين في مجال حقوق الإنسان ومنظماته، مقابل رفض الإخوان المسلمين لهذه الاتهامات.
نجيب جبرائيل، رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، يقول "بداية إن الدستور الجديد خلا من أية إشارة، أو لفظة تؤكد على مدنية الدولة أو حتى على التزام مصر بالمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وهي مواثيق وقعت عليها مصر ويجب أن تحترمها". وهي الملاحظة التي يتفق عليها حافظ أبو سعدة، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ويزيد عليها أن الحريات أصبح ينظر إليها في الجزء الخاص بمقومات الدولة في المادة 6 وتفسيرها "على النحو المبين في الدستور" وهي صياغات مطاطة وضعيفة ولا تتفق مع أدنى معايير حقوق الإنسان.
أما محمود غزلان، عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين والمتحدث الرسمي باسمها، يرد قائلا "إنه لا يوجد في العلوم السياسية ما يسمى بمصطلح الدولة المدنية وإن شكل الدولة تم تحديده بوضوح في المادة الأولى من الدستور وتم النص على أن نظامها ديمقراطي وبالتالي لا مجال للاتهام بأنها دولة غير مدنية كما أن المادة 6فصلت شكل النظام السياسي وقيامه على مبدأ الفصل بين السلطات".
لكن حافظ أبو سعدة يدلل على صحة ما ذكره بالإشارة لتصريحات عدد من القيادات السلفية، في لقاءات خاصة بالسلفيين وسربت على مواقع إلكترونية عديدة، من أن هذا الدستور فيه من المواد المقيدة للحريات ما لم يوجد في الدساتير السابقة وأن هذه المواد ستسمح باستصدار قوانين تالية تطبق هذا التقييد، وهو ما يفسر، من وجهة نظره، هذه المعركة المستعرة الآن على السيطرة على القضاء لأنه سيكون الملجأ الأخير للاعتراض على هذه القوانين التي سيتم استصدارها لاحقا.
وقال أبو سعدة إن منظمات حقوق الإنسان قد أصبحت مهددة هي الأخرى في حال الحديث عن حقوق المواطنة والحريات لأنه سيشهر في وجهها تلقائيا تهمة مخالفة الدستور.
أما من جهة حقوق الأقليات، فإن جبرائيل يتهم الدستور الجديد بأنه نال من حقوقهم بالنص في المادة 4 على مرجعية الأزهر في مراجعة القوانين لضمان توافقها مع الشريعة الإسلامية وكذلك في المادة 219 المفسرة – المكملة - للمادة 2 والتي تفتح الباب على مصراعيه لتطبيق آراء فقهية معادية لأهل الكتاب وتضيق عليهم في بناء دور عبادتهم و الجهر بعقائدهم.
كما أن المادة 43 نصت على أن بناء دور العبادة سيكون "على النحو الذي ينظمه القانون" وهو ما سيعيدنا إلى تدخل السلطة التنفيذية وأمن الدولة في هذا الموضوع.
ومن جانبه، محمود غزلان لا يرى ما يراه نجيب جبرائيل ويقول "إنه حسب نص نفس المادة فإن الدولة كفلت حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة، وهو ما يعني حق أتباع الديانات السماوية في بناء دور عبادتهم وإن ما عناه النص القانوني المنظم هو منع البناء دون تراخيص وذلك ينطبق على المسجد قبل الكنيسة".
مواضيع أخرى محل جدل
موضوع حقوق العمال والمساواة بين الرجل والمرأة وإخضاع أحكام الأسرة والطفل للشريعة الإسلامية، وحرية الصحافة وتشكيل المنظمات والجمعيات الأهلية، مواضيع أخرى محل خلاف بين الإسلاميين والليبراليين. نجيب جبرائيل يتهم التيار السلفي و"الإخوان المسلمون" بالإصرار على طبع الدستور بالطابع الديني وتشديده على الانتماء الديني أكثر من الانتماء الوطني، فالمادة 10 مثلا لا تساوي بين الرجل والمرأة وتفتح الباب أمام تفسيرات تتيح مثلا الزواج المبكر للفتيات بداية من وصولهن لسن البلوغ. وهي الاتهامات التي يرفضها "الإخوان المسلمون" جملة وتفصيلا، حيث يقول محمود غزلان "إن الأعضاء العلمانيين، مثل عمرو موسى ووحيد عبد المجيد وأيمن نور وجابر نصار، تحديدا هم من أصر على حذف هذه المواد لأنه كان بها جملة "بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية" وها هم يتباكون الآن عليها ويتهموننا بأننا نحن من قام بإزالتها، وعلى العكس تماما فهذا الدستور يساوي بين الرجل والمرأة إلا فيما نص عليه القرآن مثل أحكام الميراث وقوامة الرجل. وأكد غزلان أن هذه الاتهامات خاصة عن سن الزواج للفتيات هدفها إثارة البلبلة/ وتساءل (منذ متى ينص الدستور على سن الزواج؟ هذه أمور تنظمها القوانين لا الدساتير)".
بينما يرى أبو سعدة فيما يخص حقوق العمال إن هذا الدستور في المادة 14 يمهد لنظام رأسمالي متوحش عن طريق ربط الأجر بالإنتاج وليس بالأسعار، كما يحد من تأثير النقابات عبر السماح بحلها بأحكام قضائية.
أما غزلان فإنه يقول لا يمكننا فصل الجمل عن سياقها وإنه بقراءة المادة سالفة الذكر، نجد أن هذه المادة أكدت على توفير حد أدنى للدخل بما يوفر حياة كريمة، ومفهوم الحياة الكريمة تم توضيحه في المادة 68، وبالتالي فإن ربط الأجر بالإنتاج لن يؤثر على كرامة العامل لأنها مكفولة بنص الدستور. ولا يزال الصراع دائرا إلى الآن على أشده بين الطرفين، الرافض والمؤيد، حتى بعدما أظهرت المؤشرات الأولية للاستفتاء، رغم المشاركة "القليلة" فيه، الاتجاه إلى الموافقة عليه، وهو الأمر الذي ينسف تماما الأقوال التي تدعي أنه سيكون عاملا في استقرار البلاد.
تعتبر المعارضة الدستور باطلا وتهدد بالتصعيد على المستويين الوطني والدولي من أجل إسقاطه، ولكنها لا تغفل أيضا الطرق الواقعية في محاولات التغيير وتحاول الاستعداد من الآن للانتخابات البرلمانية لتحقيق نتائج ونسب تمكنها من تغيير الدستور عبر الأغلبية البرلمانية.
بينما سيسعى الإسلاميون إلى تطبيق الدستور الجديد بحذافيره ومحاولة استصدار قوانين جديدة تعبر عن رؤيتهم للدولة المصرية الجديدة خاصة وأن قاعدتهم الجماهيرية عريضة ومتسعة.