قليوب 2006: لقى 58 مصريا حتفهم وأصيب 148 آخرون فى حادث مأسوى بين قطارين بالقرب من محطة سكك حديد قليوب. أسيوط 2012: فجعت مصر بوفاة ما يزيد على خمسين طفلا حينما أطاح قطار بالأتوبيس الذين يستقلونه أثناء عبوره أحد المزلقانات.
وبين قليوب وأسيوط ليس فقط 6 سنوات، ولكن أيضا قائمة طويلة من حوادث القطارات التى راح ضحيتها العشرات بين قتيل ومصاب والعديد من وعود الإصلاح والتطوير، التى لم تتحقق!
•••
ومن اللافت أن حوادث القطارت فى مصر، على مأساويتها لما تسببه من خسائر بشرية فادحة، تشترك فيما بينها بدرجة مذهلة من العبثية. فتلك الحوادث، غالبا ما تقع نتيجة لأسباب من الممكن فى حالة تطبيق الحد الأدنى من إجراءات المتابعة والصيانة تفاديها. فأعطال أنظمة الإشارات (المتهم الأول فى حادثة قليوب الشهيرة وحادثة الفيوم مؤخرا) يمكن تفاديها بإجراء أعمال الصيانة الدورية للمعدات والتجهيزات الفنية المختلفة من إشارات وتحويلات. أما سلوكيات عدد من العاملين بالسكك الحديدية والتى تتميز، فى بعض الأحيان، بقدر من الرعونة وعدم تقدير المسئولية والإهمال الجسيم فى أداء مهامهم الوظيفية، والتى تسببت فى عدد من الحوادث، مثل حادثة قطار العياط وكارثة أسيوط الأخيرة (كما تشير المعلومات الأولية)، فطرق معالجتها ليست عصيه على التقويم فى أى نظام إدارى.
ويكتمل المشهد العبثى، بالطريقة العقيمة التى تتعامل بها الدولة المصرية مع أزمات قطاع السكك الحديدية. فقائمة ردود الفعل باتت معروفة لا تتغير، فهى تشمل استقالة عدد من كبار مسئولى السكك الحديدية (ووزير النقل فى حالة جسامة الكارثة)، وإحالة عدد من صغار العاملين بسكك حديد مصر للنيابة ومعاقبتهم إداريا أو جنائيا (أيضا على حسب طبيعة الكارثة ومدى فداحتها).
يتلو ذلك خروج عدد من المسئولين ليعلنوا على الملأ خططا طموحة لتطوير سكك حديد مصر وضخ استثمارات ضخمة فيها وشراء أحدث المعدات والتجهيزات سواء من قطارت أو من أجهزة أخرى لازمة لتشغيل السكك الحديدية. وقد أضيف إلى القائمة مؤخرا دراسة إنشاء خطوط سكك حديدية فائقة السرعة تربط بين شمال البلاد بجنوبها وكذا إشراك القطاع الخاص فى إدارة وتشغيل السكك الحديدية.
وفى كل مرة لا يخلو الأمر من ظهور حملة انتقادات واسعة للسكك الحديدية، يحاول العاملون فيها التصدى لها بإلقاء اللوم تارة على سلوكيات المواطنين وتارة أخرى على تهالك معدات السكك الحديدية وقِدمها.
•••
ومن المثير حقا أن رد الفعل الرسمى، حتى الآن، على كارثة أسيوط لم يخرج عن السيناريو السالف الذكر، باستثناء الإعلان عن الخطط الضخمة للتطوير ورصد الميزانيات الضخمة لتحديث سكك حديد مصر: وهو ما يبدو مفهوما فى ظل الأزمة الاقتصادية التى تمر بها البلاد وشح الموارد التى تعانى منه الدولة المصرية فى المرحلة الراهنة.
وفى هذا السياق، وفى ظل تكرار كوارث سكك حديد مصر وتدهور خدماتها، يجب أن نسأل أين هى نتائج برامج وخطط الإصلاح الطموحة التى طالما تم الإعلان عنها؟ وما هى جدوى الإجراءات التقليدية التى يتم اتباعها فى أعقاب كل كارثة؟ والأهم من ذلك ما هو السبيل لتطوير سكك حديد مصر لتوفر، على الأقل، الحد الأدنى من الأمان لمستخدميها؟
إجابة تلك التساؤلات تأتى من خلال تقييم جهود إصلاح السكك الحديدية على مدى الأعوام الستة الماضية، منذ كارثة قليوب عام 2006. فقد تلى ذلك الحادث الأليم قيام الحكومة بضخ استثمارات ضخمة فى قطاع السكك الحديدية، فيما بدا كرغبة حكومية حقيقة، آنذاك، فى تطوير هذا القطاع الحيوى. وقد تم توجيه أغلب تلك الاستثمارات إما لشراء قاطرات جديدة (ثار الكثير من اللغط حول قدراتها الفنية ومدى ملاءمتها لظروف تشغيل سكك حديد مصر) وتطوير عدد من محطات السكك الحديدية (بصرف النظر عن جدوى هذا الترميم ومدى حفاظه على القيمة التاريخية لعدد من المحطات، وعلى رأسها، بالطبع، محطة سكك حديد مصر).
إلا أن هذا التطوير لم يحقق أى نتائج ملموسة، فحال سكك حديد مصر يسير من سىء إلى أسوأ ومعدلات حوادث القطارت فى تزايد لافت، فيما يبدو أنه طريق محتوم تتحول معه السكك الحديدية من وسيلة سريعة للنقل لوسيلة سريعة للقتل. وليس أدل على فشل كافة جهود تطوير السكك الحديدية فى الأعوام الماضية، سوى مشهد عدد من المزلقانات (التى يفترض أن تكون مطورة)، حيث يلجأ العامل لإغلاق المزلقان بالجنزير بدلا من المعدات الأكثر تطورا التى لا يملك المعرفة اللازمة لحسن تشغيلها، والتى، وبسبب سوء الصيانة، بل انعدامها فى بعض الأحيان، باتت قطع من الخردة.
•••
إن علاج أزمات سكك حديد مصر يجب أن يبدأ بالأفراد لا المعدات. فعلى الرغم من أهمية شراء القاطرات الجديدة وإعادة بناء المحطات وتطوير الخطوط، بل والتوسع فيها مستقبلا، فإن كل ذلك يبدو بلا قيمة وغير ذى أثر طالما ظلت سكك حديد مصر تدار بذات النظام الإدارى العقيم، الذى يتجاهل حاجات العاملين ومتطلباتهم، ويحصر التطوير فى المعدات والآلات.
فسكك حديد مصر فى حاجة ماسة لنظام إدارى كفء، قادر على:
•حسن توظيف والاستفادة من عمال وموظفى سكك حديد مصر ليس فقط من خلال الاهتمام بمبدأ الثواب والعقاب ورفع المرتبات، ولكن أيضا من خلال تحسين ظروف العمل، وبناء نظام إدارى يرسخ العدل والمساواة بين العاملين.
•حسن إدارة المرفق، ليس فقط من خلال التشغيل المنتظم للقطارات، ولكن، الأهم، تحقيق الحد الأدنى من معدلات الأمان، من خلال الاهتمام بإجراء أعمال الصيانة الدورية.
إن التطوير الذى يبدأ من المعدة، تطوير منقوص وقصير المدى، فبدون العامل المدرب والكفء ستتحول أكثر المعدات تطورا لكتل من الخردة غير النافعة. إن سكك حديد مصر تحتاج لإصلاح جذرى يتجاوز المفهوم التقليدى للتطوير، والقائم على شراء المعدات الحديثة، لمفهوم أكثر شمولية يعطى العنصر البشرى الأولوية فى الرعاية ويعتبره الركيزة الأساسية لأى خطط للتطوير. دون ذلك، وبصرف النظر عن حجم ما سيتم انفاقة، ستتكرر قليوب، وستتكرر أسيوط وتصبح سكك حديد مصر وسيلة للقتل السريع.