كان منظر طوابير القوات البريطانية وهى تدخل القاهرة بعد هزيمة الثورة العرابية فى 1882م لم يزل بعد عالقا فى ذهن محمد فريد، الذى كان وقتها فى الرابعة عشرة من عمره، ولذلك كان من الطبيعى أن يوجه كامل اهتمامه إلى القضية الوطنية، وكان الشاب الأرستقراطى محمد فريد وهو فى العشرينيات من عمره قد ترقى إلى منصب وكيل للنائب العام بالقاهرة، وكان كغيره من الشباب المصرى يبحثون عن مكانٍ لهم فى النضال من أجل استقلال مصر، ولكن الاحتلال كان يقف بالمرصاد ليحول دون انضمام الشباب إلى صفوف الحركة الوطنية، لأنه كان يعلم خطورة ذلك على بقائه فى مصر. لم يكن الشاب محمد فريد يعلم ما يخبئه له عام 1896م من مفاجأة، ستغير مجرى حياته إلى الأبد.
بدأت الأحداث بنشر جريدة «المؤيد» لبرقية قيل إنها كانت سرية، وكانت تتضمن أخبارا عن أوضاع الجنود المصريين بالسودان، فقامت الحكومة المصرية بأمر من الاحتلال بتقديم الشيخ على يوسف رئيس تحرير «المؤيد» وتوفيق أفندى كيرلس عامل التلغراف الذى اتهم بتسريب البرقية للمحاكمة.
وتطورت القضية لتتحول لساحة معركة بين الاحتلال وأعوانه من جانب، وبين القوى الوطنية من جانب آخر، ووصل الأمر إلى ذروته عندما بدأت المحاكمة فى نوفمبر 1896م، فتحولت جلساتها إلى مظاهرة تشارك فيها كل القوى الوطنية، فكانت قاعة المحكمة تمتلئ بالكامل وكذلك الشوارع المحيطة بها، وكان محمد فريد الشاب الوطنى يحضر تلك الجلسات ويشارك فى مظاهراتها.
وانتهت القضية ببراءة الشيخ على يوسف، وعندما نطق القاضى بالحكم علت صيحات الفرحة فى المحكمة، وحمل الحضور الشيخ إلى عربته وهم يهتفون ضد الاحتلال وأعوانه، فكانت ضربة قوية للاحتلال، قرر بعدها أن ينتقم من الشباب الذين أيدوا الحركة الوطنية، ويرهبهم ليبتعدوا عنها، وكان محمد فريد أحد أهداف هذا الانتقام، ويروى فريد ما حدث له فى مذكراته فيقول: «وحضر المرافعة كثير من وكلاء النيابة والقضاة، وبالجملة كاتب هذه الأحرف فزاد هذا التجمهر، وطلب الإنجليز من النائب العام فى 18 الجارى (نوفمبر 1896م) نقلى إلى إحدى المحاكم الكلية، فصدر الأمر وطلب من الحقانية نقلى إلى نيابة بنى سويف وجاء التصديق فى صباح الخميس 19 منه، ولما علمت به صممت على الاستقالة من وظيفتى وعدم قبول هذا النقل المقصود به إهانتى والتأثير على عواطفى وإحساساتى الوطنية.
ولما توجهت يوم السبت إلى نيابة الاستئناف بلغت ما تقرر رسميا فقدمت استقالتى إلى النائب العام وجنابه استحسن بقاءها طرفه إلى يوم الأحد، ربما أعدل عن فكرى مع أنى أخبرته بتصميمى على ذلك قطعيا، وفى يوم الأحد توجهت إليه وأخبرته بإصرارى فكتب على الاستقالة للنظارة وقد أجابت بالقبول فى اليوم نفسه، وبذلك تخلصت من خدمة الحكومة التى لا تقبل إلا كل خاضع لأوامر الإنجليز ميت الإحساس غير شريف العواطف».
حسم الزعيم الكبير محمد فريد موقفة، واختار القضية الوطنية طريقا له، وترك غير أسف العمل لدى حكومة رضيت أن تكون ألعوبة فى يد المحتل الذى كرهه من كل وجدانه، وتنازل فى سبيل ذلك عن وظيفة ومستقبل كان كل شابٍ فى مصر يتمناه لنفسه، وكان لموقفة الشجاع صدى كبير لدى كل الوطنيين المصريين، مما دفع بالأستاذ محمود أبو النصر أحد أقطاب المحاماة فى مصر فى تلك الفترة لإرسال خطاب له من باريس فى 2 ديسمبر 1896م ليشد من أزره، ويقول فيه: «هاج بالى واضطرب خاطرى، إذ علمت بما قابلك به الاحتلال جزاء إخلاصك للوطن وتظاهرك بنصرة الحق دون أن تخشى لومة لائم ولا سطوة حاكم، غير أنى ما لبست إلا ريثما رأيت الأمر طبيعيا وأذعنت بأن لا وجه للتهيج ولا معنى للعجب، أليسوا باضطهادهم لمثلك عاملين بما تقضى به عليهم خدمة قومهم وبلادهم التى يفتدونها بالنفس والنفيس، بل وما الذى كنت تنتظر غير ما قوبلت به وقد عرف الخاص والعام شرف إحساسك ونبل قصدك وإخلاصك، وشهد القريب والبعيد بفضلك وشمم نفسك حتى أنزلك منزلة تغبط عليها من بين أبناء الوطن عامة وأبناء الذوات خاصة، وحياتك أنه لأقل مما كنت أنتظره لك من يوم رأيتك وعرفتك.
اللهم إن كانت سعادة الحياة فى مثل ذلك الراتب الذى كنت تأخذه على شرط إماتة عاطفة شريفة فلا كانت الحياة، اللهم إن كنت تربيت ونشأت فى مهد الكمالات الإنسانية لمثل تلك الخدمة فلا كانت التربية، اللهم إن كان كبر عليك اضطهادهم وشق عليك بغيهم فإنك لست عندنا بفريد، إن كانت هذه الحياة منحصرة فى سعة الرزق، فمن الذى مات جوعا؟ والحمد لله لست إلى هذا الحد، وإن كانت منحصرة فى رفعة المنزلة، فهو مطلب قد بلغته من منزلتك الأولى، ومثلى من المحبين الصادقين كثير، فاصبر ودم كما كنت فريدا».
وقرر الزعيم محمد فريد أن يتجه للعمل فى المحاماة بعد ذلك، وكان أول من عمل بها من أولاد الطبقة الأرستقراطية المصرية، وهو أمر كان يعد فى حد ذاته ثورة على أفكار المجتمع، فقد كانت مهنة المحاماة لم تنظم بعد، وكان فى استطاعة أيٍ كان أن يعمل بها إذا وجد فى لسانه الطلاقة أو «السلاطة»، ولذلك كانت تتمتع تلك المهنة بسمعة سيئة فى أذهان المصريين، ولكنه رأى فيها وسيلة للدفاع عن الحق ونصرة المظلومين، وكان طوال عمله بها يرفض تولى أى قضية ما لم يتأكد من أن الحق عند صاحبها، لدرجة أنه رفض قضية لإحدى أميرات البيت العلوى كانت مرفوعة بموجب سندات لعلمه أن الحق ليس معها.
ويحكى لنا الأستاذ الكبير أحمد لطفى السيد فى قصة حياته عن رد فعل والد محمد فريد لعمل ابنه بالمحاماة فيقول: «كنت مع الشيخ محمد عبده فى جنيف، وذهبنا لزيارة محمد ثابت باشا الذى كان «مهردارا» للخديو إسماعيل (أى حامل أختام الخديو، وهو يساوى رئيس الديوان) وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا (والد محمد فريد) وكان أحمد فريد باشا ناظرا للدائرة السنية ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام، أخذ فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده ويبكى، وكان وقتئذ مريضا، ويقول للشيخ: «هل يصح يا سيدى الأستاذ أن يهزئنى محمد فريد فى آخر الزمن ويفتح مكتب أفوكاتو (محام)؟».
فلما سمع الشيخ محمد عبده شكوى أحمد فريد باشا لاشتغال ابنه بالمحاماة، أخذ يهدئ من نفسه ويعرب له أنه يخالفه فى رأيه، ويرى أن الاشتغال بالمحاماة ليس فيه ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس، وما كان مألوفا فى فهمهم لهذه المهنة فى ذلك الزمان».
وهكذا كانت تلك الواقعة نقطة حاسمة فى تاريخ الزعيم الكبير محمد فريد، فجعلته يوجه كامل طاقته للدفاع عن الوطن، ليقضى ما تبقى من حياته محاربا فى سبيل حريته واستقلاله.