عرفت مصر قبل عام 2011 ثورتين، الأولى عام 1919، والثانية في العام 1952، وكلتاهما ساهمتا في تطبيق سياسات صحية منحازة للطبقات الأفقر، فثوار 1919 مارسوا ضغوطًا قوية من أجل تأسيس أول وزارة للصحة في مصر، وتأسيس مستشفيات مجانية في المحافظات، ووحدات صحية في الأرياف، وسلطة يوليو قامت بدعم تلك القاعدة الصحية، وضمت إليها عددًا كبيرًا من المستشفيات المؤممة، وأسست أول نظام للتأمين الصحي عام 1964، إلا أن مؤشرات النظام الصحي الذي ورثته ثورة يناير من هذا التاريخ الطويل تكشف عن عدم عدالة تلك الخدمة في الفترة الراهنة. فيما لم يشهد القطاع الصحي في مصر خلال عقدي التسعينيات والسنوات العشرة الأولى من القرن الجديد، عمليات خصخصة كتلك التي جرت في القطاع العام في نفس الفترة الزمنية، إلا أن انسحاب الدولة من مسؤوليتها الاجتماعية في المجال الصحي، جاء بطرق غير مباشرة، تمثلت في عدم ملاءمة الاستثمارات الحكومية في المنشآت الصحية العامة مع الزيادة السكانية، الأمر الذي يجعل الخدمات المدعومة لتلك المنشآت غير متاحة للجميع. ويُساهم في انخفاض الاستثمارات أيضا وفي تحميل المرضى تكاليف العديد من المستلزمات العلاجية. هذا إلى جانب تقديم منشآت صحية عامة خدماتها بأسعار متفاوتة، حيث تُتاح الخدمات بأسعار مدعومة في بعض الأوقات وبأسعار اقتصادية في أوقات أخرى، وهو ما يعتبره علاء غنام، مدير مبادرة الحق في الصحة "نوعًا من التحرير غير المباشر للخدمات الصحية". وبحسب تقرير "ملف النظام الصحي" الذي يصدر بالتعاون بين وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية فالاستثمارات العامة في الصحة كانت تتراجع خلال السنوات الأخيرة، من 33% من إجمالي الإنفاق على الصحة عام 1994-1995 إلى 24.8% عام 2008-2009، معتبرًا أن الحكومة: "تستثمر نسبة صغيرة من ناتجها الإجمالي على الصحة، مقارنة بالدول متوسطة الدخل". ولا تتناسب استثماراتها مع توزيع الأعباء المرضية جغرافيًّا، ولا مع التطورات الديموغرافية في البلاد. وما زاد من أعباء تكاليف العلاج على المصريين، هو تزامن تراجع الدور الاجتماعي للدولة، مع زيادة تكاليف المرض في مصر، حيث انتقلت مصر في الفترة الأخيرة "من الأمراض المعروفة في الدول النامية مثل الكوليرا والملاريا إلى أمراض الدول المتقدمة، مثل أمراض القلب والكلى والسرطان، والتي تتسم بارتفاع تكاليف علاجها"، كما يقول أحمد زكي، كبير الأخصائيين بوزارة الصحة. فقراء بسبب المرض ويعتبر مؤشر توزيع الإنفاق على الصحة، هو الأكثر تعبيرًا عن تراجع دور الدولة الاجتماعي، وسيطرة آليات السوق على خدمة الصحة، فوفقًا للتقرير السابق، معدل الإنفاق على الصحة من جيوب المواطنين ارتفع من 51% من إجمالي الإنفاق على الصحة، عام 1994-1995، إلى 72%. وتشمل تلك النسبة المواطنين الذين لم يتمتعوا بخدمات صحية مدعومة من الدولة، أو العمالة غير الرسمية المحرومة من التأمين الصحي أو حتى من يستشير الصيدلي؛ لتوفير أجرة العيادة الخاصة، أو من يعيش على المسكنات لتأجيل عملية جراحية باهظة التكاليف.
نجاح النظام الصحي مرتبط بتوفير الخدمات المدعومة من إيرادات الدولة او توسيع نطاق نظام التأمين الصحي، وفعليًّا استثمارات الدولة كانت تتراجع والتأمين الصحي الحكومي لا يغطي نصف عدد السكان، وحتى النسبة المغطاة أكثرهم لا يتعامل مع تلك الخدمة التأمينية، بسبب رداءة مستواها، الأمر الذي يدفع الكثيرين للاعتماد على شراء الخدمة مباشرة من القطاع الخاص، وفي ظل التضخم وعدم الرقابة على القطاع الخاص، تكون تكاليف المرض مرتفعة للغاية، كما يضيف غنام.
ويحتل القطاع الخاص نسبة مهمة من تقديم الخدمات الصحية في مصر، بالرغم من هيمنة الدولة على قطاع المستشفيات بنسبة 83% من إجمالي المستشفيات، إلا أن القطاع الخاص لديه 68% من إجمالي العيادات، وأصبحت العيادات الخاصة مجالا من مجالات زيادة أعباء العلاج مع ارتفاع تكاليف الكشف إلى 500 جنيه، و1000 جنيه في بعض الأحيان، كما يقول غنام. وتقدر دراسة لأحمد شكري، الباحث بالجامعة الأمريكية، أن النسبة الأكبر من الإنفاق الصحي من جيوب المواطنين تذهب إلى العيادات، بنسبة 39%، ثم الصيدليات، بنسبة 33%، ثم المستشفيات الخاصة بنسبة 8%.
العديد من محدودي الدخل يلجأون للمستشفيات العامة في مجالات كالعمليات الجراحية بسبب ارتفاع تكاليفها، حتى ولو شعروا أن سوء الخدمة سيمثل مخاطرة على حياتهم، كما يقول مدير مبادرة الحق في الصحة.
وتبين دراسة شكري كيف تسبب تراجع الدولة عن دورها في دعم النظام الصحي في إفقار قطاع كبير من المصريين، فباعتبار أن الأسرة الفقيرة هي المكونة من 4 أفراد، ويصل دخلها الشهري إلى 673.8 جنيهًا، فإن 26.5% من المصريين فقراء، و7.4% من تلك النسبة سقطت في الفقر بسبب الإنفاق على الصحة.
ويظهر في تفاصيل مؤشر الإنفاق من جيوب المواطنين على الصحة، غياب العدالة عن النظام الصحي، حيث تتاح الخدمة الصحية لمن يدفع أكثر، فوفقًا لدراسة شكري، فالشريحتان الأفقر في المجتمع يدفعون 20% فقط من إجمالي النفقات الصحية الخارجة من جيوب المواطنين، بينما تدفع الشريحة الأغنى في المجتمع أربعة أضعاف ما ينفقه الفقراء، بنسبة 40%.