فى النصف الأول من شهر يونيو الماضى، اندلعت موجة من الاحتجاجات الشعبية، بسبب قرارات الحكومة السودانية بفرض ضرائب إضافية ورفع الدعم عن أسعار المحروقات وتعويم الجنية، مما أدى إلى ارتفاع كبير فى أسعار السلع الأساسية. وتدريجيا عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض الولايات الأخرى، كما انتفض طلاب الجامعات وبخاصة جامعة الخرطوم، ودخلوا فى مواجهات مع أجهزة الأمن التى استعانت بالقنابل المسيلة للدموع. وفى تطور نوعى تحولت هذه الاحتجاجات إلى مطالبات شعبية بإسقاط النظام، واجهتها الشرطة بالأعيرة النارية والهراوات والاعتقالات، ورد عليها المتظاهرون بإحراق بعض الأماكن العامة والمركبات. بطبيعة الحال، أخذت أرصد الأحداث وأبحث عن أسبابها القريبة والبعيدة. ففضلا عن كونى باحثة فى الشأن السودانى، أنا مواطنة مصرية تدرك أن ما يجرى فى مصر والسودان يشبه الصوت وصداه، فهو ينطلق تارة من القاهرة وتارة من الخرطوم، وفى الحالتين يعم الصدى كل الوادى.
●●●
لم تكن إجراءات التقشف التى فرضتها الحكومة السودانية مؤخرا إلا نتيجة حتمية لسياسات سابقة لم تتسم ببعد النظر المطلوب لمعالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافة التى يعانى منها السودان. فالمحاسبة الواجبة لا تكون على إجراءات مالية ضرورية لمنع الانهيار، قدر ما تكون على الرؤى الاقتصادية والسياسية التى أديرت بناء عليها البلاد فى الفترة الماضية وبخاصة منذ بداية القرن الحالى، أى قبل انفصال الجنوب بعدة سنوات. ويمكن تلخيص هذه السياسات فى النقاط الأساسية التالية:
أولا: لم يتحسب النظام السودانى للحظة الانفصال، بل ظل ينكر هذا الاحتمال الغالب حتى فترة وجيزة من الاستفتاء لا تتعدى شهرين أو ثلاثة. وسواء شكل هذا الإنكار قناعة حقيقية أو محاولة للتمويه، فالأداء كان أداء تنقصه الحكمة.
بدأ تدفق البترول بكميات تجارية فى حوالى سنة 2000، ثم أخذ يتصاعد حتى أصبح يمثل الدخل الأساسى للبلاد (حوالى 460 ألف برميل يوميا قبل الانفصال). فى عام 2012، أصبح السودان الشمالى لا ينتج سوى 118 ألف برميل يوميا على وجه التقريب، مما يعنى أنه فقد من 75 إلى 80% من إيراد البترول، الذى ترتب عليه انخفاض كبير فى احتياطى العملة الصعبة. فالخطأ الاستراتيجى الذى وقع فيه النظام فى الخرطوم، هو أنه حول الاقتصاد الانتاجى القائم على الزراعة إلى اقتصاد ريعى يعتمد على دخل البترول. ولعلنا نذكر مثلا حيا على هذا التغير فى السياسة الاقتصادية، فقد تدهور إنتاج مشروع الجزيرة الضخم الذى أنشئ سنة 1925 من 500 ألف طن من القطن سنويا إلى 30 ألف طن فقط، ويبدو أن أحد أسباب ذلك كان إهمال تنظيف الترع والمصارف، ما أدى إلى مشاكل فنية فى الرى. وقد تبع ذلك هذا الانكماش الكبير فى الأرض المزروعة إلى الاستغناء عن عدد كبير من العاملين فى المشروع، مما فاقم من مشكلة البطالة.
ثانيا: غابت المرونة فى المفاوضات مع دولة الجنوب الوليدة. تتعدد الأمثلة فى هذا الإطار، وسأكتفى بذكر مثال واحد ولكنه خطير الدلالة والنتائج. فقد حددت حكومة السودان رسوم نقل بترول الجنوب إلى بور سودان وتصفيته وشحنه بمبلغ 36 دولارا على البرميل، وهى رسوم بالغة الارتفاع بالنسبة للسعر المتعارف عليه دوليا، وتعجيزية بالنسبة لجنوب السودان، الذى أوقف بدوره ضخ البترول والنتيجة كارثة اقتصادية بالنسبة للدولتين اللتين تعتمدان على إيرادات البترول بشكل شبه كلى.
غير أن جنوب السودان وجد مخرجا ولو جزئيا لهذه الأزمة:
حل عاجل، وهو بيع البترول داخل الآبار لشركات أجنبية هى التى ستتعامل مع الخرطوم فى النقل.
حل آجل: الاتفاق مع كينيا على إنشاء خط أنابيب لنقل البترول من متابعته فى الجنوب إلى ميناء مومباسا بكينيا على المحيط الهندى عبر الأراضى الأوغندية (بدأ هذا المشروع منذ سنة 2005 حيث كان الجنوب يتحسب لمثل هذه الأزمة).
وهناك حديث عن خط ثانٍ لنقل البترول عبر الأراضى الإثيوبية إلى ميناء جيبوتى على البحر الأحمر. وهكذا يكون الشمال قد خسر مصدرا مهما من مصادر العملة الصعبة، كان يمكن أن يعوض جزئيا خسارته للبترول الذى ذهب إلى الجنوب بالانفصال.
ثالثا: استمرار الحرب بين الشمال والجنوب. كنا نأمل أن اتفاقية السلام الشاملة ستنهى هذه الحرب التى تسببت فى نزيف مستمر للسودان منذ سنة 1955 وحتى الآن، فيما عدا السنوات العشرة التى أعقبت اتفاقية أديس أبابا فى سنة 1972. ولكن تفاصيل القضايا التى بقيت معلقة بعد توقيع الاتفاقية، ما لبثت أن أشعلت الحرب مرة أخرى بين الدولتين. تتمثل أهم هذه القضايا فى تسوية الأوضاع الخاصة للمناطق الثلاث التى أشارت إليها الاتفاقية وهى أبى وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وترسيم الحدود بين الدولتين من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق. وأحب أن أذكر أن خط الحدود المراد ترسيمه يحتوى على عشرة مناطق متنازع عليها بين الطرفين أهمها هجليج والتى سيكون النزاع حولها ضاربا لأنها تحتوى على كميات هامة من البترول، وحفرة النحاس وهى تحتوى على عدة معادن مهمة.
من ناحية أخرى تشتعل الحرب فى ولاية النيل الأزرق وجنوب كردفان، وبشكل متقطع فى هجليج وجنوب دارفور، مما يزيد من التدهور الاقتصادى الذى بدأ يطول الفئات الميسورة من الطبقة الوسطى السودانية. ولعلنى أذكٌر هنا بميلاد حركة معارضة مسلحة فى 21/11/2011 باسم تحالف الجبهة الثورية السودانية «كودا» ويتكون هذا الائتلاف من أربع حركات معارضة من دارفور وجنوب السودان/قطاع الشمال، وتهدف إلى إسقاط النظام بجميع الوسائل الممكنة.
رابعا: فى هذا الإطار، قد يكون من المفيد أن نذكر أن برنامج الأممالمتحدة الإنمائى قد قدم تقريرا فى عام 2006 عن كيفية مجابهة الفقر فى السودان، وأن البنك الدولى قدم بدورة توصيه إلى الخرطوم فى 11/6/2010. وقد اتفق كلاهما على ضرورة أن يهتم السودان بالقطاع الزراعى ويشجع الاستثمار فيه باعتباره البديل للبترول. هذه السياسة المقترحة تصب فى صالح الريف والمناطق المهمشة التى كانت ومازالت مصدرا لحركات التمرد، والتى أدت إلى انفصال الجنوب، وتهدد الآن بمزيد من الانقسامات على حدود السودان الجنوبية والغربية، ولا أدرى مدى استجابة الخرطوم لهذين التقريرين الدوليين اللذين ضما تفاصيل كثيرة وقيمة للسياسات المقترحة.
●●●
ونعود إلى لب المقال: أحداث الخرطوم أهى انتفاضة أم بوادر ثورة ؟ الانتفاضة هى احتجاج على سياسات معينة، فلو استجاب الحاكم هدأت الأحوال. فإذا كانت المشكلة عند المتظاهرين هى فقط الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، فهى انتفاضة قد تهدأ بزوال السبب أو بالرضوخ له. ولكن ظنى أن المسألة أخطر من زيادة الأسعار وتعويم الجنية. فهى كما حاولت أن أوجز فى السطور السابقة حزمة من الأخطاء السياسية والاقتصادية، أثرت هى وغيرها، تأثيرا بالغا فى بنية الدولة السودانية. فهى إذا أزمة حقيقة وليست مشكلة عارضة، وبخاصة إذا علمنا أن نظام الإنقاذ يتعرض فى الآونة الأخيرة لتصدع داخلى بين الرئيس البشير وأقرب معاونيه.