من المرجح أن تتوقف نتيجة القتال الحدودي المتصاعد بين السودان وجنوب السودان على أي الاقتصادين المترنحين سينهار أولا وليس على التفوق العسكري النسبي لأي منهما. واستولى جنوب السودان الذي انفصل عن السودان في يوليو على حقل هجليج النفطي يوم الثلاثاء ليصبح الغريمان السابقان في الحرب الأهلية أقرب ما يكونا من صراع شامل من أي لحظة مضت منذ الانفصال. لكن بدلا من الدخول في مواجهة عسكرية شاملة ربما يسعى كل طرف الآن لاستهداف المنشآت النفطية للآخر وانتظار انهيار الخصم على يد حركات التمرد المسلحة والاضطرابات الشعبية ونقص الوقود. وقال خبير سوداني له صلة بالحكومة طلب عدم نشر اسمه "المسألة هى أي الطرفين سيمكنه الحفاظ على هياكله الحكومية والعسكرية لفترة أطول". ودفع البلدان بالفعل اقتصاديهما لحافة الانهيار منذ انفصال الجنوب الذي أدى لانقسام صناعة النفط الحيوية إلى شقين. وأدى نزاع بشأن مدفوعات لتراجع إنتاج البلدين من الخام الذي كان في السابق المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية وإيرادات الدولة في البلدين من 500 ألف برميل يوميا قبل التقسيم إلى ما يزيد قليلا على عشرة بالمائة من ذلك. وترتفع أسعار المواد الغذائية على جانبي الحدود كما تعاني العملة بينما يسعى المسئولون جاهدين لتعويض الانقطاع المفاجئ للإيرادات في دولتين تعانيان بالفعل جراء سنوات من الحرب وسوء الإدارة والعقوبات التجارية الأمريكية. لكن الجانبين على ضعفهما يعتقد كل منهما أن له اليد الطولى على خصمه وهو ما يفسر جزئيا تصاعد القتال رغم الحقيقة الواضحة أن أيا منهما لا يمكنه فعليا خوض حرب. وقال بيتر بشير جباندي، النائب عن الحركة الشعبية لتحرير السودان بالمجلس الوطني في الجنوب، خلال مناقشة في جوبا بثتها الإذاعة "الخرطوم تقاتل من أجل البقاء". وأضاف: "الخرطوم من الناحية الاقتصادية خلاص.. تنهار". ومع اجتياح ثورات شعبية منطقة الشرق الوسط توقع الكثيرون في الجنوب أن يلقى عمر حسن البشير الذي يرأس السودان منذ انقلاب 1989 قريبا مصير زعيمي مصر وليبيا. ويقولون إنه لو استطاع الجنوب الصمود بضعة أشهر أخرى فمن المؤكد أن يطيح الشعب السوداني بنظامه ويستبدل به آخر أكثر قبولا لمطالب جوبا. وعلى الجانب الآخر، ترى الخرطوم احتمالا كبيرا لأن يفلس الجنوب الذي يعاني بالفعل من تمرد داخلي وانتشار الفقر ويدخل في حالة فوضى لا يمكن السيطرة عليها. والنتيجة هى ما يصفها هاري فيرهويفن، الباحث في جامعة اكسفورد، الذي درس الشأن السوداني باستفاضة "بحرب استنزاف" ينتظر فيها كل طرف انهيار الآخر داخليا أو نفاد الأموال والوقود اللازمين لخوض الحرب. ومازال لدى السودان الذي يمتلك طائرات ميج وانتونوف ميزة هائلة من حيث القوة الجوية التي يقر المتحدث العسكري لجنوب السودان أن قوات الجنوب لا يمكنها في مواجهتها إلا "أخذ تدابير احترازية". لكن حتى قبل سقوط هجليج كان السودان يقاتل متمردين على ثلاث جبهات في دارفور في الغرب وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الحدوديتين وربما تكون جوبا تعول على عدم قدرة الخرطوم على إضافة جبهة جديدة. وقال جباندي "في هذه اللحظة هناك مظاهرات في الخرطوم، لا يمكنكم القتال.. لا يمكنكم فتح جبهة جديدة في جنوب السودان بينما تقاتلون بالفعل على أربع جبهات". وربما يفسر ذلك عدم تراجع حكام جنوب السودان عن احتلال هجليج حتى تحت ضغط الولاياتالمتحدة وقوى عالمية أخرى. وفي كلمة أمام البرلمان وسط تصفيق وهتافات استحسان الأسبوع الماضي وجه سلفا كير رئيس جنوب السودان انتقادات إلى بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، بعدما طلب منه سحب قوات الجنوب من هجليج. وقال: "قلت له ليس لك أن تأمرني لأنني لست تحت إمرتك، أنا رئيس دولة". ويقول فيرهويفن إن من المرجح أن يكون التحدي الذي تبديه جوبا مؤشرا على اعتقادها أن بإمكانها أن تكون عاملا في الإطاحة بالنظام السوداني. وأضاف: "تعتقد الحركة الشعبية لتحرير السودان أنه إذا سقطت الخرطوم فسنكون أمام لعبة مختلفة تماما وسينسى الكل مغامرتهم"، إلا أن الكثيرين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالخرطوم من المرجح أن تكون لهم نفس وجهة النظر عن الجنوب رغم صدمة احتلال هجليج، وعادة ما يقارن المسئولون السودانيون اقتصادهم المتنوع نسبيا باقتصاد الجنوب الذي يعتمد على النفط للحصول على 98 بالمائة من دخله. وقال بشير للتليفزيون الرسمي بعد بضعة أيام من وقف إنتاج النفط في جنوب السودان "إذا نشبت حرب بعد فقدان النفط فستكون حرب استنزاف، لكنها ستضرهم قبل أن تضرنا". ويؤكد صابر حسن، وهو محافظ سابق للبنك المركزي السوداني ويشارك حاليا في رئاسة فريق المفاوضات الاقتصادية للخرطوم، أن بلاده مازالت أفضل حالا من جارتها الجنوبية رغم احتمال اضطرارها الان لتعزيز وارداتها من الوقود. وقال: "في الجنوب ليس لديهم اقتصاد مثل هذا، إنه اقتصاد يعتمد على الأجور... أثبتت التجربة أن اقتصادنا يتحلى ببعض المرونة حينما يواجه مثل هذه الأزمات، مررنا بأزمات مشابهة للغاية بذلك من قبل". ويقول بعض الخبراء والمستشارين الأجانب إن جنوب السودان قد يواجه صعوبات في سداد ثمن الواردات ودعم عملته خلال شهرين ما لم يحصل على مساعدة خارجية وهو ما يدركه بالتأكيد المسئولون في الخرطوم. فقد السودان بعد احتلال هجليج نحو نصف إنتاجه من النفط البالغ 115 ألف برميل يوميا، وأوقف الجنوب الحبيس إنتاجه البالغ 350 ألف برميل يوميا تقريبا في يناير بفعل خلاف بشأن مقدار الرسوم التي يتعين دفعها لتصدير الخام عبر أراضي الشمال. وفي حين يمكن أن تقدم الحكومات الصديقة بعض الدعم المالي لتفادي حدوث أزمة اقتصادية في أي من البلدين، فقد يعاني كلاهما للحصول على قروض كافية لتجاوز الأزمة، خاصة في ظل خطر الحرب الذي يلوح في الأفق. وإحدى النقاط الساخنة في كلا البلدين هي أسعار الوقود التي كانت خطا أحمر أدى لوقوع اضطرابات في كثير من الدول الفقيرة هذا العام مثل نيجيريا. واصطفت السيارات في كل من السودان وجنوب السودان في طوابير طويلة على مدى الأسبوع المنصرم في محاولة للحصول على البنزين، ونفد الوقود في أربع محطات للوقود زارها مراسل رويترز يوم الأحد. وفي الخرطوم تنتشر شائعات بأن الحكومة قد تضطر لخفض الدعم على الوقود بعدما فقدت هجليج وذلك رغم تأكيدات رسمية بوجود مخزونات كافية لمواجهة الأزمة. وأسعار الغذاء مصدر آخر للقلق، وأدى فقدان العملة الأجنبية المتمثلة في عائدات النفط لارتفاع تكلفة الاستيراد، خاصة في جنوب السودان حيث يجري استيراد المواد الغذائية الاساسية مثل الأرز والطماطم بالشاحنات بعلاوة سعرية من كينيا وأوغندا. وأي تأخير للرواتب الحكومية سيجعل استمرار عمل النظام الحكومي أمرا بالغ الصعوبة. وفي بور عاصمة ولاية جونقلي بجنوب السودان قال عامل حكومي هذا الشهر إن وزارته خفضت ميزانيتها للنظافة والمياه والخدمات الأخرى إلى النصف بفعل إجراءات تقشف حكومية. وقال "ليست مشكلة بالطبع، لكن ستصبح مشكلة لو مست الرواتب". والمخاطر نفسها قائمة في الشمال، وبحسب تقديرات خبير اقتصادي سودان له علاقات سياسية فإن ثلاثة أرباع الميزانية يذهب إلى الجيش السودان وقوات الأمن وكبار المسئولين، ولو صح ذلك فإنه لا يترك مجالا لتقليص الإنفاق دون أن تتأثر مناطق حساسة. وقال الخبير "الحكومة عاجزة عن إخراجنا من هذا الموقف المزري"، لكنه أضاف أن تحولا سياسيا عنيفا قد يؤدي لصوملة البلاد وأن الخوف من وقوع فوضى مثل التي تحدث في الصومال قد يثني كثير من السودانيين عن القيام بانتفاضة.