إذن سيقرر أنها «رواية تشدك عزيزى القارئ، فلا تجعلك تنام».
لا.. لا، هذه أيضا مبالغة، وتعبيرات محفوظة، يضعها الكسالى.
يتردد كثيرا، ثم يرجع إلى عروض صحفية لبعض أصدقائه، ممن يملكون ناصية الكتابة الحلوة، فيجد الشاعرة عزة حسين تقول عن إبراهيم أصلان: «أحيانا، أحار وأتوقف لأيام عند محاولة كتابة السطر الأول عن كتاب جيد، وكثيرا ما أقاوم أن أملأ كل البياض المنذور للحديث عن هذا العمل بما يحتويه العمل ذاته، وكأننى على يقين من أن القارئ سيفهم ويشعر بكل ما هو مفروض أن يقال».
يفرح قائلا: «خلاص، سأستشهد بالمقولة، وأجعلها المدخل المناسب لمقدمتى عن رواية شريف حتاتة الجديدة «نور»، التى أصدرها مركز المحروسة للنشر. ثم بعدها يرتاح من إرهاق ذهنه، واضعا «حبة» كليشهات معدة مسبقا، مثل المدخل الجمالى للرواية، وما يقصده الروائى من روايته، فضلا عن محاولة «تلبيس» الرواية ما لم يقصده الكاتب أصلا، والحديث عن الهموم الكبرى والصغرى، ولغة الوصف، واللقطة المشهدية، وأشياء من هذا القبيل. والحديث قليلا عن رؤية شريف حتاته حول كتابة السيرة الذاتية، وهو أشهر من كتب فى هذا النوع الأدبى الرائق، فى وقت لا يزال البوح بأسرارها يمثل محظورا كبيرا.
لكن هذا أيضا غير فعال، ومفضوح؛ فلا مقارنة بين أصلان وحتاته. إذن ماذا يفعل؟ البديل الوحيد، هو أن يترك كل هذه الهواجس، والمخاوف التى تنتابه، اعتقادا منه، أنه لابد أن يبهر القراء (أغلبهم أصدقاؤه فى الوسط)، بقراءته لرواية ما، خاصة إذا كان صاحبها من الكبار، ومتوقعا أن تنال اهتمام الكثيرين، وأن يهرب من كل هذا، ثم يحكى لهؤلاء القراء وقوعه فى غرام بطلة الرواية الصعيدية، التى اغتصبها أحد أفراد أسرتها وأرغمتها جدتها على ترك القرية، فرحلت إلى القاهرة، وهناك انخرطت فى عالم البغاء، ثم أفلتت منه والتحقت بمعهد الفنون المسرحية وأصبحت ممثلة مسرح.
نعم هذا هو الفعال، أن يكتب كلمتين «فقط» عن بطلة الرواية، التى لم ينشغل صاحبنا إلا بها، فترك شهوة التأويلات حول النضال الشيوعى لأحد أبطال الرواية، أو التأريخ الاجتماعى، وأثره فى تتبع تاريخ مصر، أو الحكى غير المبرر عن أحداث القصة، وشخوصها: عزيز المغربى المناضل اليسارى، علوية رستم الممثلة، محسن شكرى الطبيب، والسياسى القواد نبيل عطالله، وأم هاشم.
أخيرا، يبتعد حتاته قليلا عن تجربة السجن، فهو الذى لم يبدأ حياته الأدبية إلا منذ أكثر ثلاثين سنة بعد أن جاوز الثالثة والأربعين، وقبل ذلك كان منهمكا فى النضال السياسى، فى قلب الحركة اليسارية الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى المشهورة باسم حدتو، كتب روايات كلها فى السجن وللسجن وعن السجن، لدرجة أنه يأتى للذهن مباشرة عند نطق اسم حتاته بأنه الروائى المصرى الذى يشكل السجن كتاب حياته، ومن قرأ رواياته: «العين ذات الجفن المعدنى»، و«الشبكة»، و«ابنة القومندان»، وسيرته الذاتية «النوافذ المفتوحة»، يكتشف ذلك.
حبه لبطلة الرواية الكلاسيكية، بلا شروط، هو قرار والتزام، لشابة لا تعرف هموم الحياة الضاغطة، ولا القضايا المعضلة، ولا مشاكل الوجودية أو الواقعية أو حتى الفانتازية المتورمة، التى يلجأ إليها الكتّاب الصغار سنا قبل الكبار، لكن هذا فقط للوهلة الأولى. ففى مسافة «طُرقة واحدة» بين منزل وآخر، فقدت هذه البطلة الجميلة، متعة اللقاء الحميمى الأول، وبعدها انتقاما، أرادت أن تبيع هذه المتعة للجميع، لأسباب اقتصادية، العامل المشترك فى فعل الاغتصاب، وممارسة الدعارة، دون أن يبكتها ضميرها، فهى لا تزال تحتفظ بطهرها الحقيقى (وأرجوك جدد ذهنك عن هذه المسألة).
لم يكن (أقصد به الحائر فى تقديم قراءة هذه الرواية) حبه للبطلة، يقل عن عشقه للبطل الذى لم يرد أن يقذفها بحجر، ولا حتى لمح لها عن سيدات أُمسكن فى زنا. بل سألها:
«نور إلى أين أنت ذاهبة؟
فكرت أن أتنزه قليلا على شاطئ النيل، لم أفعل هذا منذ سنين.
وأنا كذلك.
ابتسمت: هل تسمح لى بأن أستند إلى ذراعك ونحن نجتاز الشارع؟ عندى ألم بسيط فى ساقى اليسرى».