يثير النقاش الدائر فى مصر الآن بشأن تصورات النخبة المصرية لخطوات الإصلاح السياسى والاجتماعى المنشود تساؤلات عن علاقتنا بالإرث الذى تركه جيل من المفكرين المصريين عمل طوال النصف الأول من القرن العشرين على طرح تصورات لعملية الإصلاح فى مفهومها الشامل. وفى طليعة مفكرى هذا الجيل الشاعر حسين عفيف الذى يعرفه البعض كرائد من رواد التجديد الأدبى بسبب مغامرته فى كتابة قصائد الشعر المنثور، وفى المقابل تجهل النخبة المصرية بصورة تامة كتاباته الفكرية التى سعت إلى وضع برنامج ليبرالى لعملية الإصلاح التى كانت الشغل الشاغل لمثقفى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى.
والأسبوع الماضى مرت الذكرى الثالثة والثلاثين لوفاة عفيف الذى ولد عام 1902، واشتغل بالمحاماة ثم دخل سلك القضاء عام 1943، وانتهت حياته الوظيفية رئيسا لمحكمة استئناف الجيزة (1962/1965). وقبل التحاقه بالقضاء اشتبك حسين عفيف كسائر شباب جيله مع الحياة السياسية والاجتماعية منذ ثورة 1919، وكتب المنشورات الثورية، ثم انضم فى مرحلة لاحقة فى الثلاثينيات إلى حزب العمال الذى أسسه النبيل عباس حليم، كما كان من مؤسسى جمعية الشبان الحقوقيين، وامتد نشاطه إلى نشر بعض المقالات التى تتضمن رؤيته لأزمات المجتمع وناقشت موضوعات فى الفن والثقافة وحقوق المرأة، كما أصدر كتابا بعنوان (أزمة الحقوق 1929) نشر ضمن الأعمال الكاملة لعفيف والتى نشرها المجلس الأعلى للثقافة فى ذكرى مرور مائة عام على ميلاده غير أن محقق تلك الأعمال الشاعر عبدالعزيز موافى لم يتمكن من العثور على كتاب كتبه عفيف بعنوان (البطالة 1936)، وتمت مصادرته من قبل الحكومة لما تضمنه من أفكار حول مفهوم العدالة الاجتماعية وتوزيع ثروات المجتمع.
وقد تجاهل مؤرخو الفكر الاجتماعى والسياسى المصرى هذا الكتاب على الرغم من الإشارات التى أوردها لويس عوض فى كتابه «دراسات أدبية» بشأن الأثر الذى تركه الكتاب فى مثقفى جيله وقد أرجع الكاتب نبيل فرج هذا التجاهل إلى مصادرة الكتاب فى عام 1936، لكنه نجح هو فى العثور على نسخة نشرها فى كتاب الديمقراطية فى فكر رواد النهضة الصادر عن مركز القاهرة لحقوق الإنسان، وكتب لها مقدمه شارحة لأهم الأفكار التى تضمنها الكتاب لكنها لم تسع إلى فهم المسار الذى انطلقت منه أفكار عفيف والأثر الذى تركته فى سياق فكر النهضة المصرية إجمالا. إذ لا يمكن فصل تلك الأفكار عن التكوين الفكرى لصاحبها ولا يمكن عزلها عن السياق العام لخطاب الإصلاح الذى سعى مفكرو الليبرالية المصرية إلى تبنيه.
من حيث التكوين الجيلى ينتمى عفيف إلى جيل ظهر فى الثلاثينيات بلور تصورا يرى أن المجتمع المصرى بإمكانه أن يصبح مجتمعا حديثا بعد أن تمتع بصناعة متنامية وظهرت فيه بروليتارية صناعية وطبقة وسطى يزداد حضورها. وحسب رأى الباحث الهولندى رول ماير فى كتابه البحث عن الحداثة، فقد آمن ليبراليو تلك الفترة بأن المجتمع يحتاج إلى إصلاحات كبرى حتى يستطيع أن يواجه مشكلاته بكفاءة باعتبار أن التجانس الثقافى والمساواة القانونية والحراك الاجتماعى عبر التعليم ضرورة لتطوير المجتمع، كما أن الدولة مطالبة بتعميم التدريب والتعليم لتنميط الثقافة لخلق قيم مجتمعية مشتركة.
ولا يمكن لقارئ كتاب البطالة أن يتفادى فيه ظلال تلك الأفكار العامة التى كانت الهاجس الأكبر لمثقفى جيل الثلاثينيات الذى غلب فى تصوراته الإصلاحية وعيه الاجتماعى على حساب وعيه بمشكلات الطبقة التى ينتمى إليها ويمثلها. ويلتفت عفيف فى الكتاب إلى عدة مسائل تمثل مخاطر مجتمعية استمرت لسنوات ومنها: مشكلة التضخم والزيادة السكانية وعدم جودة المنتج المصرى بما يؤدى لخروجه من المنافسة فى الأسواق العالمية.
وقد صاغ عفيف كتابه فى مناخ سياسى مأزوم وفى ظل اضطرابات اجتماعية واضحة، إذ تعرض عمال الصناعة والمرافق العامة للبطالة نتيجة الانكماش الاقتصادى الذى صاحب الأزمة الاقتصادية العالمية (1929 1933) وما ترتب عليها من تخفيض فى حجم العمالة لذلك حفلت الثلاثينيات بالاضطرابات والشكاوى من قطاعات واسعة فى الطبقة العاملة انتفضت بصورة تلقائية افتقرت إلى التنظيم لكنها تركزت حول المطالبة بتشريعات عمالية تواجه آثار الأزمة الاقتصادية وتسعى إلى الاعتراف القانونى بنقابات العمال. وبطبيعة الحال لا يمكن تفادى النبرة الرومانسية التى تغلف الكتاب، فهى نبرة شاعر رومانسى يتحدث عن ضرورة التأمين على العمال ضد الفاقة والبطالة والعوز كما يشير إلى أن الحلول التى يقترحها لحل مشكلة البطالة عن طريق تقليل ساعات العمل وزيادة عدد العمال الهدف منها، تأمين المجتمع ضد الثورة مشيرا بشكل قاطع إلى أن هذه الإجراءات «من مقتضى التضامن الاجتماعى». فى الكتاب كذلك دعوة مبكرة إلى التوسع فى التعليم الفنى، إلى جانب الإلحاح على مسئولية رجال الإعمال والدعوة إلى إنماء الحركة التعاونية فضلا عن تأسيس بنوك وجمعيات تعاونية، ووحدات للمشروعات الصغيرة الممولة بقروض حكومية صغيرة. كما يطالب بالدعوة إلى إفساح طريق العمل أمام المصريين وفرض ضرائب على مزاولة الأجانب للمهن والحرف والاهتمام باللغة العربية وجعلها لغة للمعاملات الرسمية فى الدولة. ويعنى الكتاب كذلك بتطوير التعليم والاهتمام بالتأهيل المهنى والعقلى وطرق التدريس بطريقة استنباطية وليست استظهارية لتنمية ملكات العقل وتوسيع دائرة التفكير. كما يدعو الى تعليم الفنون الجميلة واللافت أن هذه الأفكار كانت على رأس أولويات عفيف فى مقالات أخرى خارج سياق الكتاب فقد سبق وأن خاض معارك تعكس اهتمامه بالفنون الأدائية، وأبدى انحيازا للدور المجتمعى للمرأة فى سلسلة مقالات كتبها فى مجلة الأمام على محاضرة لمى زيادة بعنوان: فضل المرأة على المدنية الحديثة، أبدى فيها انحيازا للمرأة، قائلا: «حبذا لو بدأت المرأة تتدخل تدخلا فعالا فى تشييد الحضارة إذن لبدت أرقى وأجمل مما هى عليه الآن». وفى المعركة التى اندلعت عقب افتتاح معهد التمثيل عام 1930، تولى الرد على الشيخ محمود أبوالعيون منحازا إلى فكرة الاختلاط بين أفراد الجنس البشرى، متهما أبوالعيون بالإسراف فى التمسك بالتقاليد، مؤكدا أن تقاليد الأمة المصرية خاضعة لسنن التطور الأمر الذى يبدو فى أن الرأى العام أو الغالبية المتنورة منه لا تستهجن أى مظهر من المظاهر التى تنطوى على تحرير المرأة. وللتدليل على إيمانه بفن التمثيل كان عفيف من بين طلاب الدفعة الأولى لمعهد التمثيل.
واستمرارا لفكرة العناية بتدريب الحواس على التذوق الجمالى ينتقد كتاب البطالة كذلك بوضوح أليه تدريس الأدب العربى فى المدارس لأنها «عقيمة لا تكفل إيقاف الطالب على أسرار الجمال الفنى، ولا تساعد بحال على تنمية ذوقه الأدبى، ويشدد الكتاب على أهمية التوسع فى التعليم الإقليمى والإكثار من المدن الصناعية فى الأقاليم لوقف الهجرة إلى العاصمة، لكنه ينتهى إلى الإقرار بأن البطالة ليست مشكل ولا يصح أن تكون مشكلة متى عولجت بروح العدل والنزاهة وعن كثب من الضمير، كما يتضح بحسب قوله، إن الخطأ ليس خطأ العاطلين ولا هو خطأ الظروف، بل خطأ النظام الاقتصادى ذاته، وخطأ الضمير الإنسانى الغارق فى سباته.
وبعيدا عن اللغة الطوباوية فى الكتاب يلفت النظر فى الكتاب جملة من الأمور أولها أن غالبية الأفكار الواردة فيه كانت ضمن هموم النخبة المصرية السياسية فى بداية الثلاثينيات حيث كانت المسألة الاجتماعية هى حجر الزاوية فى عمل الجماعات السياسية والأرجح أن انضمام عفيف إلى حزب العمال مع النبيل عباس حليم خلق تقاطعات كثيرة بين الكتاب وبرنامج الحزب الذى تركه عفيف بعد خلاف مع مؤسسه، وتقديرى أن الكتاب تطوير فكرى لبرنامج الحزب الذى طالب أيضا بإلغاء الامتيازات الأجنبية وإصدار تشريعات عمالية يشارك العمال فى صياغتها تكفل حرية تكوين النقابات وتحسين أجور العمال وتحديد ساعات العمل إلى جانب مجانية العلاج والتعليم الإلزامى فضلا على تشجيع الحركة التعاونية ورفع مستوى المرأة ومساواتها بالرجل، ويبدو لى أن عفيف ترك حزب عباس حليم بعد أن أدرك أن تأسيس الحزب كان مناورة سياسية لجأ إليها حليم لإيجاد كيان سياسى يستند إليه فى مناوراته مع حزب الوفد ولتحقيق طموحه الشخصى وقد حدث هذا بالفعل إذ تمكن حليم من الوصول إلى تفاهمات مع الوفد أوقف على أثرها نشاط الحزب.
أما الأمر الثانى الذى يلفت النظر عند قراءة كتاب البطالة لحسين عفيف فيرتبط ارتباطا وثيقا بمحاولات الإصلاح على الطريقة الليبرالية وهى المحاولة التى وصلت إلى أقصى مدى لها مع تأسيس جماعة النهضة القومية (1944)، ومن الإشارات الدالة أن عفيف نشر بعض مقالاته الإصلاحية فى مجلة الفصول التى أسسها ورأس تحريرها محمد زكى عبدالقادر وكانت هى ذاتها المجلة التى بشرت بعد سنوات بأفكار هذه الجماعة التى تجاوزت النبرة الرومانسية لدى عفيف وعملت على ربط أفكارها بحزمة من الإجراءات وراهنت قبل كل شىء على الإصلاح التشريعى عبر ممثليها فى البرلمان إلى جانب إصلاح نظام الإدارة الحكومية الأمر الذى جعل برنامجها نقديا وإصلاحيا، وأكثر جذرية مقارنة بكتابات عفيف الذى حال عمله فى السلك القضائى دون الانضمام لجماعة النهضة القومية التى وفرت فيما بعد أساسا جديدا للسياسات المصرية.