* كارم يحيي يلقي نظرتين على ثورة تونس .. ويَعِدنا ب”ثالثة” .. دروس من مهد الربيع العربي * الكتاب يرصد التجربة التونسية في القطيعة مع الاستبداد وحوارات اليمين واليسار في مهد الثورات عرض – لويس جرجس : ربما تكون الميزة الاساسية لكتاب “نظرتان على تونس من الديكتاتورية الى الديمقراطية” للزميل كارم يحيي الصحفي بالاهرام، هو انه الشهادة المصرية الوحيدة التي تابعت الحدث على ارض الواقع وبين البشر، حيث ان كارم هو الصحفي المصري الوحيد الذي سافر الى بلد “بداية الربيع العربي”، في سبتمبر واكتوبر 2011 أي قبل واثناء انتخابات المجلس التأسيسي (أولى انتخابات الربيع العربي). المفارقة اللافتة للنظر هنا ان العديد من الصحفيين المصريين والعرب ايضا كانوا دائمي السفر الى “تونس بن على” في مهمات دورية وموسمية تنظمها وتنفق عليها بسخاء “وكالة الاتصال الخارجي التونسية” المخصصة للدعاية لنظام الديكتاتور، فلما عرفت الثورة طريقها الى هذا البلد الذي طالما تغنوا به بعد كل سفرة، لم يعرف اي منهم طريقه اليه. في تونس شاهد كارم بعينيه ما يجري. قابل البشر، سياسيين ومفكرين ومواطنين عاديين، وحاور متخصصين ونشطاء من كل الاتجاهات. سافر وانتقل بين المدن التونسية (بما فيها سيدي بوزيد مهد ثورات الربيع العربي) يتعرف ويتابع ويحلل ويرسل لجريدته في القاهرة، منطلقلا من ايمان مهني صادق بحق القارئ المصري، وهو في حالة ثورة ان يتابع ما يجري في البلد الشقيق الثائر الاول عربيا على الديكتاتورية، ولكنه يفاجأ بما سيشرحه لنا في مقدمة الكتاب. قبل المقدمة نطالع إهداء الكتاب وهو الطبعة المصرية التي صدرت بعد التونسية لندرك منها ان محتوى الكتاب ليس خاصا بتونس فقط ، وإن كانت ثورتها هي موضوعه الرئيسي. يتوجه الكاتب باهدائه إلى “زمزية خالد سعيد ومحمد بوعزيزي. الى شهداء وجرحى ثورة تونس ومصر معا ولا أقول ثورتين”. هو إذن كتاب عن مصر ايضا كما هو عن تونس. ثم يكمل الاهداء إلى “كل من كتب بصدق، وتحلى بشجاعة قول الحق، وأخلص للناس والوطن وللكتابة ولمهنة الصحافة .... وأخيرا الى قراء الاهرام ... أملا في ان تتعافي وان تصبح يوما ما على مستقبل افضل متحررة في الفكر وكذلك في السياسة، ولاؤها للقارئ لا لسلطة أيا كانت” هو إذن ايضا عن مهنة الصحافة والكلمة الصادقة، والى الصحافة المصرية وجريدة الاهرام خاصة آملا ان تتحرر من الولاء للسلطة. تجئ مقدمة الطبعة المصرية موضحة بالتفصيل المقصود من الاهداء ففيها نقرأ “سيجد القارئ في هذه الطبعة المحلية ملاحق كاشفة لمعاناة وحال النشر في الصجافة المصرية التي مازالت مريضة باللامهنية والفساد والتوجيه السلطوي، لان من حق القارئ المصري ان يعرف القصة الداخلية خلف نشر الاهرام اليومي ثلث ما كتبت عن التجربة التونسية ليس إلا. ولماذا اتاح الاهرام لقراء وسائل نشره باللغتين الانجليزية والفرنسية ما لم يتح لقارئ مطبوعته اليومية الاساسية الام باللغة العربية؟ .. كنت وماأزال على ثقة بان المستهدف الاول من كل هذه الرقابة والمنع والتضييق والتشوية، هو حق القارئ المصري في ان يعرف ويفهم ويعي ما يدور حوله وتحت قدميه”. ثم يشرح كيف تم منعه من الكتابة في الصحيفة عقابا له على مساهمة صحيفة “الشروق” في كسر الحصار على القارئ المصري باللغة العربية حين اعادت نشر مقال له عن الحالة التونسية نشر باللغة الانجليزية في “الاهرام ويكلي”، وهو مقال اعتذر رئيس تحرير الاهرام اليومي (لغتها العربية) عن نشره!. حضور الحالة المصرية نظرة سريعة على الكتاب تكشف الحضور الدائم للحالة المصرية، إما مباشرة او بين السطور، حين يتناول الكاتب الحالة التونسية. نعبر سريعا الفصل الاول الذي ينشر فيه الكاتب نصوصا تؤرخ لجانب من سنوات الديكتاتورية عند التونسيين والمصريين معا (تشمل فيما تشمل مقارنة بين مبارك وبن على بعنوان الشبيهان .. سيرة مزدوجة)، لنقابل النظرتين اللتين يلقيهما المؤلف على الحالة التونسية من خلال رحلتيه الصحفيتين. نطالعهما من خلال حوارات وتقارير ومقالات و”ريبورتاجات”. التقارير والحوارات والمقالات كثيرة يصعب الحديث عنها كلها في هذا المجال، ولكن يمكننا وضع اليد على أهم ما جاء بها، وربما يكون الأهم على الاطلاق بالنسبة لنا في مصر، في الوقت الحاضر على الاقل هو ما يتعلق بآلية صياغة الدستور، فالكاتب ينقل عن محمد عبو القيادي في حزب “المؤتمر من اجل الديمقراطية” رأيه عن التحالفات الحزبية، حين يقول له “التحالفات في مهام مثل تشكيل الحكومة واختيار رئيس جديد للبلاد واردة.. لكن صياغة الدستور الجديد وهي المهمة الاهم في المرحلة الانتقالية الثانية لا تحتمل أي صفقات حزبية”. هو إذن يعرف ان الدستور للكل وليس لحزب بعينه، او لاتجاه سياسي محدد، أو لأغلبية جاء بها الشعب الى البرلمان لمهمة تشريعية فقط. من بين ما يلفت النظر في التجربة التونسية ايضا هو تشكيل “الهيئة العليا المستقلة لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”، وهي هيئة انشئت في مارس 2011 اي بعد ايام من فرار الديكتاتور بن على واوكل اليها مهمة دراسة النصوص التشريعية المتعلقة بالاصلاحات السياسية قبل رفعها الى سلطة المرحلة الانتقالية (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء)، وضمت 155 عضوا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، وهي هيئة مؤقتة انتهت مهمتها بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي في اكتوبر 2011 المكلف بوضع الدستور الجديد وانتخاب رئيس جمهورية جديد وتشكيل حكومة جديدة. في المقارنة بين تيارات الاسلام السياسي في مصر وتونس وهي مقارنة تكررت اكثر من مرة في صفحات الكتاب يرى الكاتب ان حزب النهضة (اخوان تونس) بدا منفتحا على طيف واسع من النخب التونسية المثقفة ولم يتورط في ممارسة “النخبة فوبيا” التي شهدناها من “إسلاميين” في مصر بعد ثورة يناير عند الجدل حول الدستور أم البرلمان اولا، فرشح “النهضة” على رأس إحدى قوائمه صيدلانية غير محجبة، ويقول كارم “ابلغتني بعد اغلاق صناديق الاقتراع انها ليست عضوا بالحزب، بل اتضح انها كانت ناشطة في فترة الجامعة على طرف نقيض الاسلاميين وتنتمي تاريخيا لليسار الطلابي بالاصل”. القطيعة مع دولة الاستبداد ينقلنا هذا الترشيح الى عنوان تالي في الكتاب ذي دلالة تونسية خاصة وهو: محجبات “الشيوعي” وسافرات “النهضة”. وفيه يقدم الكاتب تحليلا لنتائج الانتخابات، ثم يستنتج قائلا “عندما تنزل الافكار والعقائد الايديولوجية الى ارض السياسة يصبح من الخطأ والخطر معا الادعاء بعصمة تيار بعينه على اطلاقه وبإثم تيار آخر على اطلاقه. فلا الاسلاميين كلهم اخيار صالحون او كلهم اشرار طالحون، وهو ما ينطبق على الليبراليين والقوميين واليساريين. فالصلاح او الطلاح محكوم بمعايير يخضع لها الجميع من صدق واستقامة وقدرة على قراءة الواقع والارتفاع الى اولوية المصالح العليا ودفع الامة الى التقدم (...) لذا ليس من المستغرب ان نجد في انتخابات تونس مرشحات محجبات على قوائم الشيوعيين، وغير محجبات سافرات على قوائم النهضة الاسلامي”. ثم يستخلص الكاتب ان “الاولوية في السياسة والحكم هي القطيعة مع دولة الاستبداد واللاموطنة”. كما يرى ان نتائج الانتخابات تعلن نهاية حقبة الحزب الواحد والديمقراطية والتعددية الشكلية المزيفة، ومولد ما يطلق عليه “الاسلاميين الليبراليين” و”اليساريين الليبراليين”، وهو ما يقود تونس اقرب من غيرها من دول الربيع العربي الى بناء “كتلة تاريخية” جديدة من هؤلاء واولئك، لان “لا حزبا او تيارا بمفرده لديه التفويض او القدرة على الاضطلاع بانجاز دولة الديمقراطية والتنمية”. عند المشكلات التي تحيط ببناء “الكتلة التاريخية” تنتهي نظرة الكاتب الثانية للحالة التونسية، مشيرا الى الحاجة الى نظرة ثالثة اكثر اتساعا وعمقا “تكشف جوانب اخرى او تدفع الى مراجعة ما شهده بين نهاية سبتمبر ونهاية اكتوبر 2011′′، وهو ما ننتظره في كتاب آخر منه يلقى فيه مزيدا من الضوء على تطورات تلك التجربة المتميزة. حوارات اليمين واليسار الكتاب (276 صفحة) ثري وملئ بالحوارات الكاشفة مع مختلف الاتجاهات السياسية الفاعلة في المجتمع التونسي، ربما يكون اهمها الحوار مع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة الذي يقدم الرؤية الاسلامية للواقع والمستقبل التونسي، وبين ما قاله “لا يحق لاحد ان يدعي انه يمثل الدين. لا النهضة ولا غيرها” و”لا احد في التيار الاسلامي وعلى الاقل الوسطي يقول بالدولة الدينية، اي الدولة التي تحتكر النطق باسم السماء. اما الدولة الإسلامية فهي الدولة غير الدينية”. وبسؤاله عن رأيه في احتفاظ اخوان مصر بالجماعة كإطار دعوي فيما اسسوا حزبهم السياسي، قال “هذا يخصهم. اما نحن فإننا حزب فقط”. بالمقابل يجري الكاتب حوارا مع إحدى رموز اليسار وهي حد الزين عمامي (استاذة تعليم ثانوي) التي التقاها بعد الانتخابات بيومين لتقول: هذه الانتخابات انجزت ما اريد لها ان تنجز. اي خنق الثورة وإعدام احلام الجماهير العربية في الخلاص. هذه الانتخابات تخلق معادلة سياسية جديدة في الوطن العربي يكون فيها “الاسلامي” شريك اساسي بين كتل متساوية، وجميعها لا يخرج عن الخيار الليبرالي ويتعارض مع المصالح الامريكية”. وما بين الحوارين الواقفين على طرفي نقيض نجد حوارات مع درجات متعددة من الاطياف السياسية، ومع مسئولين ومفكرين ونشطاء ومواطنين، يصعب تلخيصها في هذه العجالة، لكن نستطيع الجزم بانها تلقي ضوءا كاشفا على تجربة عربية ملهمة لغيرها، وإن كانت هي نفسها كما يذكر المؤلف استلهمت ارهاصاتها من حركة “كفاية” المصرية حين تشكلت حركة “يزي” التي تعني كفاية بالعامية التونسية، لتؤكد عمق التفاعل التاريخي بين الحراك الاجتماعي والسياسي في البلدين كل على طريقته وباسلوبه المتفق مع ظروفه وتكويناته الاجتماعية والسياسية، للوصول عبر مطبات ومنحنيات الى الهدف الواحد، وهو بناء مجتمع النهضة القائمة على العدالة والحرية والكرامة والمواطنة. اما السؤال الذي يظل معلقا فهو: في اي مدى زمني ستتمكن الثورة من تحقيق اهدافها مع اختلاف الطريق الذي سارت فيه في كل بلد.