كانت جانيت فوزى تتحدث مع صديق لها عن التحرشات التى تتعرض لها يوميا فى الشارع المصرى، لم يأخذ صديقها الأمر بجدية، إذ رد عليها بسخرية «عارفين إنك حلوة!»، كان هذا دافعا لجانيت لأن تكتب الحقيقة للناس فى ملاحظة note على الفيسبوك بعنوان «اغتصاب جماعى يومى متجدد»، وذكرت كل الألفاظ والتصرفات التى من الممكن أن تتعرض لها الفتاة المصرية فى شوارع مصر، مستخدمة الكلمات القاسية التى تسمعها فى هذه الشوارع، لتحدث الملاحظة التأثير المراد منها. الملاحظة أظهرت بشاعة المواقف التى تتعرض لها الفتيات المصريات من جهة، ودفعت الأخريات ممن يتعرضن للمشكلة نفسها إلى البوح بالطريقة نفسها عن حقيقة الأمر. قسوة الملاحظة أدت لأن تندفع العديد من الفتيات لتتحدثن عن يومياتهن مع التحرش الجنسى، بل اندفع الشباب أيضا ليكتبوا عن ردود فعلهم على الظاهرة، مما أدى لظهور زخم جديد للكشف، وتنسيق حملات لمواجهة التحرش. الزخم الحادث لمواجهة التحرش رغم أنه أكثر صراحة وقسوة، إلا أنه ليس الأول من نوعه فى السنوات الأخيرة. عديدة هى الحملات المنطلقة من وسائل إلكترونية والتى حاولت مواجهة الأمر، ربما بداية من حادثة التحرش الجماعى التى حدثت فى وسط البلد فى عيد الأضحى عام 2006، وشهدت تغطية كبيرة من المدونين مما أدى لمناقشة الأمر فى الإعلام. وعديدة هى أسابيع التدوين حول التحرش والحملات الإلكترونية والصفحات التى تحاول مواجهة هذه الظاهرة، ومن ضمن المحاولات ظهر موقع «خريطة التحرش الجنسى» التى تكتب فيه المتعرضات للتحرش عن الأماكن التى عانين فيه من هذا التصرف، ولكن كل هذه الحملات لم توقف الجريمة، هذا الذى تؤكده كل شهادات الفتيات مؤخرا، إذ يتحدثن جميعا عن الطبيعة السوداوية للسير فى الشارع المصرى، وعدم مرور يوم بلا حادث تحرش تتعرضن له.
جانيت فوزى التى بدأت الحراك لا تبدو متفائلة من تغيير يحدث من الحملة الحالية، وتقول: «لقد كتبت الملاحظة كنوع من توجيه الرسالة للفتيات لعدم الخجل مما يحدث لهن، والمطالبة بأن يكون لديهن رد فعل مساو لما يحدث لهن، ولكن الحملات الآن تسير بالطريقة نفسها التى كانت تسير بها الحملات الماضية».
اعتراضات جانيت على الحملات الحالية تتضمن الحملات التى تطالب الرجال بأن يحموا النساء بدلا من التحرش بهم كمثال «استرجل واحميها بدل ما تتحرش بيها»، مما يزيد من إحساس ضعف المرأة وحاجتها للرجل، أو وعظ المتحرشين بالأساليب الدينية أو اللعب على الوتر الأخلاقى للتوقف عن ذلك. بدلا من ذلك تؤكد جانيت فوزى أهمية مقاومة الفتيات لذلك، سواء بأساليب الحماية أو بالاستعداد لاصطحاب المتحرش إلى قسم البوليس، أملا فى تفعيل القانون. لذلك فأفضل حملة تميل لها جانيت، هى حملة بعنونا «لِم نفسك.. تحفظ نفسك»، التى تقوم أساسا على مواجهة الفتاة للمتحرش، إذ تضع صفحة الحملة على الفيسبوك لافتة توحى بأن الفتاة مستعدة للمواجهة بالقبضة والسكين والصاعق الكهربائى.
شيرين ثابت التى صادف وقرأت ملاحظة جانيت فى اليوم نفسه الذى قرأت فيه حالة أو «ستاتوس» صديقة أخرى لها عن التحرش الجنسى أخذت طرف الخيط من جانيت وكتبت ملاحظتها الأشهر على الفيسبوك «موقع إباحى»، الذى كان عبارة عن جمل قصيرة كتغريدات التويتر، قائلة فى ملاحظتها: «قررت أحاول أقرف الناس على الفيسبوك وتويتر بحكايات في غاية القرف والسفالة». حصلت ملاحظة «موقع إباحى» على أكثر من ستة آلاف إعجاب و650 تعليق، وأكثر من 3000 إعادة نشر من أعضاء آخرين، ليبدأ فعليا الزخم حول القضية، والحملات التى تقاوم التحرش. ورغم كثرة الملاحظات التى ظهرت بالطريقة نفسها، ورغم صدمتها بالنسبة للكثيرين، إلا أنه من الشائع أن تكتب الفتيات أن تلك المظاهر مجرد أمثلة عما يحدث فعليا.
تفاؤل شيرين التى امتدت ملاحظتها إلى حملة بعنوان «قطع إيدك» ينبع من رغبتها فى أن تكون الحملة هذه المرة مستمرة ومتدرجة، هى مثلا تواجه الانتقادات التى توجه للحملة بأنها تبدأ برسم الجرافيتى الذى يبدو بالنسبة للبعض غير مؤثر، قائلة: «كان يجب أن ننشغل بشىء ما حتى يتم التحضير لفاعليات أخرى، إذا انتظرنا للتحضير سيهدأ الزخم».
احكى.. اتكلمى
فى اليوم نفسه الذى كتبت فيه شيرين ثابت ملاحظتها على الفيسبوك، كانت سمية ربيع قد أنشأت مدونة على موقع تمبلر “Tumblr” بعنوان «اتكلمى» وهى مدونة قائمة على القصص التى ترسلها الفتيات عن وقائع تحرش تعرضن لها، تستقبلك المدونة بالجمل الآتية: «كفاية سكوت، احكيلنا وشاركينا.. إنتِ مش لوحدك.. إنتِ مش مذنبة..هو اللى أذنب؛ هو اللى يتكسف.. مش إنتِ.. وحقّك، لازم تاخديه». تقول سمية صاحبة الفكرة والتى تجمع فريقا يشاركها فيه حاليا: «التحرش أصبح مؤذيا بشكل قذر، وإذا كان المتحرش دوما يعتقد أنه لا يوجد أحد يشهد عليه، فنحن نجعل المجتمع كله يشهد عليه الآن». سمية أيضا متفائلة من الإقبال على البوح من قبل الفتيات، وتشير إلى أكثر من 300 رسالة جاءتها متعلقة بقصص عن التحرش: «هذه المرة الموضوع مختلف عن طبقة المثقفين والمدونين، فمن يرسل لى طبقات أخرى، وهذا يبدو من كون لغتهم غير متماسكة».
القصص التى تضمها مدونة «اتكلمى» تتنوع بين فتيات يحكين قصصهن مع التحرش منذ كن أطفالا وحتى المتزوجات منهن، وتتنوع بين الصمت أمام التحرش أو مواجهته بعنف أو اصطحاب المتحرش إلى البوليس. هناك أيضا شباب كتبوا عن تجاربهم إن كانوا تحرشوا أو صمتوا على حادث تحرش، أو دافعوا عن الضحية التى يتم التحرش بها. تتسم المدونة بقصص جريئة عن حوادث التحرش، ومعظم من يسهم فيها لا يذكر اسمه.
تفكر سمية فى جمع هذه القصص فى كتاب فى وقت ما، أفكارها تمتد إلى الضغط بتفعيل القوانين. سريعا أصبح هناك تنسيق بين شيرين ثابت وحملتها «قطع إيدك» وبين مدونة «اتكلمى»، إذ تقوم الأولى على القيام بحملات منظمة فى الشارع، وتعتمد الثانية على البوح والحملات فى الجامعات والمدارس.
كون الزخم الحالى يتركز على حالة «البوح» التى تقوم بها الفتيات لا يضايق شيرين ثابت، إذ تقول: «لا بد أن نضع فى الاعتبار أهمية البوح، القضية والمتحرشون يجب أن يتم فضحهم ويجب أن تكون هناك ضجة حول القضية».
الآليات التى تسعى شيرين لتطويرها تتعلق بعمل حملات فى الشارع تشبه حملة «كاذبون» لعرض ما تتعرض له الفتيات المصريات، إلى جانب التوعية فى وسائل المواصلات وربما توحيد خُطب الجمعة لتناقش جميعها نفس القضية. ومن الأفكار التى تلقتها شيرين فكرة عن ملصق يضعه الشباب على حقائبهم يظهر استعدادهم للمساعدة إن تعرضت فتاة لحادث تحرش.
ومثلما ترى جانيت فوزى أنه لا جدوى من مناقشة المتحرش وتوعيته فالأحرى هو تخويفه، لذلك فهى توجه خطابها أصلا للفتاة لأن تتعامل مع الأمر بشجاعة وتواجه هذه المواقف، توافق شيرين على ذلك ولكنها تضيف أنها توجه خطابها أيضا للمجتمع الذى يقبل بحدوث ذلك تحت سمعه وبصره.
ردود الفعل على مثل هذه الحملات تباينت، وبينما بدأت تتراجع بعض النغمات المتعلقة بطبيعة ملابس المرأة التى تثير الشباب، أو أن التحرش يتم فى طبقات اجتماعية معينة على حساب طبقات، إلا أن بعض التعليقات وردود الفعل اعترضت بأن الحياة بهذه الطريقة ربما تتحول لجحيم، فالتحفز لأى تواصل إنسانى بين رجل وامرأة واعتباره تحرشا من الممكن أن يكون أمرا مؤذيا اجتماعيا.
جانيت فوزى ترى أن هذا سببه تكرار نفس الحملات القديمة، ولكن الفتاة من المفترض أن تكون واعية بتحديد ما تقبله من الآخر أو ما لن تقبله، وهى تؤكد أن الفتيات يعرفن جيدا ما الذى يريده الطرف الآخر. فى حين ترى شيرين ثابت أن المشكلة تتعلق بالتحرش فحسب، إذ تقول: «ليست المشكلة مع المعاكسات العادية، أنت تجد فيما يكتبنه الفتيات أن المعاكسات تقريبا اختفت». وتذكر فى ملاحظتها «موقع إباحى»: «واحدة صاحبتى فرحت جدا عشان واحد قالها شعرك زى موج البحر». مشيرة إلى أن المعاكسات الرقيقة التى تتوقف عند كلمة لطيفة أصبحت رفاهية فى أيامنا هذه. سمية تبدو أكثر حدة، إذ تعترف بأن مناقشة الأمور بهذه الطريقة من الممكن أن يؤدى إلى صراع وإلى تحفز بين الناس فى الشارع، وتقول: «نعم سيؤدى هذا إلى نوع من العصبية، وهناك شباب سيؤخذ فى الرجلين، فربما لا يقصد التحرش لكن سيتم فهم تصرفاته على أنها كذلك، ولكن فى النهاية هذا مفيد، فالصراع هو الذى يؤدى للتطور».
رد فعل رجالى
كان من أبرز ردود الفعل التى أدهشت الكثير من الفتيات اللواتى كتبن عن يومياتهن مع التحرش الجنسى، هو أن العديد من أصدقائهن الرجال لم يكونوا يتصورون أن الأمور سوداوية إلى هذا الحد. ولكن كرد فعل على حملات مواجهة التحرش التى تتم من قبل الفتيات على المواقع الاجتماعية، كتب العديد من الشباب عن القضية متضامنين أو معترضين، ففى مقابل الموقع الإباحى النسائى وهى الملاحظة التى كتبتها شيرين ثابت أصبح هناك «موقع إباحى رجالى»، فى ملاحظة كتبها محمد شريف على الفيس بوك قبل أن تنشر فى موقع البديل الإلكترونى، الملاحظة (note) كانت موجهة بشكل أكبر للرجال، فمن بدايات الملاحظة يقول شريف: «هل تعلم أن أختك أو مراتك أو بنتك بيخافوا يقولولك إنهم اتعرضوا للتحرش علشان أول كلمة هتسمعها منك» «أنا قولتلك ماتروحيش هناك» أو «أنا قلتلك ماتلبسيش كذا». كان يبدو من بقية ملاحظة شريف التى جاءت على شكل تغريدات قصيرة مثل معظم ملاحظات الفتيات، أنه ضد الظاهرة ويحاول التصدى لها بنفس طريقة الفتيات. ولكن شريف يصر مع ذلك أن ينهى ملاحظته قائلا: «مش هيجيب حق البنات غير البنات».
تدوينات الرجال لم تكتف بالتنديد بظاهرة التحرش مثلما فعل شريف، تامر عبدالعزيز كتب مقالا بعنوان صادم على موقع البديل الإلكترونى وهو «أنا متحرش»، تامر يشرح فى مقاله أنه وغيره من الشباب قد يكونون قاموا بتصرف متحرش ولو مرة فى حيواتهم، سواء فى فترة المراهقة أو باختلاس النظر. وينتقد تامر أيضا صمت الكثير من الرجال على حوادث التحرش التى تتم أمامهم.
تدوينات الرجال لم تكتف فقط بدعم الفتيات فى مقاومتهن للتحرش، أحمد صبحى فى مدونته «الرئيس أحمد صبحى» يرفض أن يوضع المتحرشون كلهم فى سلة واحدة، ويقسم المتحرشين إلى «المتحرش النطع» الذى يكون فاقدا وعيه بأى طريقة ويضمن صبحى أنه سيظل يفعل أى شىء، ثم «المتحرش الذكى» الذى يختار ضحيته بعناية ويضمن أن الضحية لن تنزعج منه، بل بعضهن سيستجيب له، ثم «المتحرش المجبر» وهو الذى يستطيع تبرير تحرشه بدعوى أنه ليس من المفترض أن تأكل الفتيات والشاب جائع على حد تعبيره، محيلا إلى دفاع الفتيات فى ارتداء الملابس بحريتهن. بالطبع يمكننا أن نتوقع أن 13 ردا من ال14 التى تلقاها صبحى كانت بمثابة انتقاد لآرائه.
ظاهرة كونية
كون التحرش الجنسى موجودا بكل دول العالم يعتبر حجة يستخدمها المنتقدون لزخم الحملات التى تتم حاليا، إلا أن ظاهرة العالمية لا تنفى كونها تعبر عن «سرطان اجتماعى» فى مصر كما وصفتها «منظمة حقوق المرأة» المصرية. نسب التحرش فى مصر مخيفة، إذ نعرف أن 98% من الأجنبيات فى مصر قد تعرضن لمثل هذه الحوادث، بالإضافة إلى 83% من المصريات، وفقا لإحصائيات المركز المصرى لحقوق المرأة التى نشرها موقع BBC.
شهرة التحرش فى مصر أيضا أصبحت عالمية، والتحرش الجنسى بمراسلة قناة CBS الأمريكية -لارا لوجان بميدان التحرير فى يوم تنحى الرئيس السابق مبارك، هذا الذى كاد يفضى إلى موت، لم يكن الأول وربما لن يكون الأخير.
وفقا لموقع الأممالمتحدة فالتحرش الجنسى هو أى سلوك جنسى غير مرحب به، أو تقديم طلبات جنسية، أو التعدى الجنسى بشكل شفوى أو جسدى.
ولكن وفقا لموقع «أوقفوا تحرشات الشارع» stop street harassment، فالتحرش له نسب كبيرة أيضا فى العديد من دول العالم، إذ إن إحصائية كندية قالت إن 80% من النساء تعرضن لتحرش جنسى، و64% فى إحصائية تمت فى طوكيو، الوضع فى باكستان يصل إلى 96% فى إحصائية تمت على 200 فتاة، وفى إحصائية تمت بمدينة نيويورك تصل النسب إلى 63%.
ربما بعض هذه النسب معزية بالنسبة للمجتمع المصرى، ولكن من المهم أن نضع فى الاعتبار طبيعة تفاصيل التحرش من بلد لآخر، أو القدرة على تفعيل القوانين أو استجابة المجتمع لأخذ صف الفتاة التى تم التحرش بها، هذا الذى تشكو منه الفتيات فى مصر.