«هنا قتل الدكاترة والشيوخ»، يقولها الدكتور محمد حديث التخرج، وهو يقفز على أنقاض الجدار العازل بشارع قصر العينى. ينظر إلى الناحية اليمنى حيث رصيف مجلس الوزراء المحاط بالأسلاك الشائكة، وأعطى يده لسيدة مسنة كانت تعبر الجدار أيضا، ثم قال «لازم يكرهوا الناس فى الثورة والثوار، أمال يحكموا البلد إزاى».
محمد الذى كان عائدا من وزارة الصحة بعد أن أنهى أوراق تكليفه، قرر أن يقف أعلى حطام الجدار خصوصا بعد أن شاهد إقبال المارة على عبور الشارع المغلق قبل أكثر من 3 شهور.
«بيعلموا الناس رياضة التسلق، والله فيهم الخير»، عبارة قالها أحد متسلقى الأنقاض، بينما رد آخر على تساؤل يقول «طيب وكان ليه كده من الأول؟»، بلهجة صعيدية «أصلهم كانوا خايفين من العيال الصيع اللى بيعملوا مظاهرات».
وبين تعليقات عابرة من المرور، ومناقشات سريعة أثناء تعثر أحدهم على السلالم غير الثابتة التى صنعها الناس لصعود الصخور الأسمنتية العالية، لاحظ محمد أن كل الأحاديث الجانبية تتبخر على بعد خطوات من الجدار الذى لم يبق منه سوى الصف الأخير المستقر على أرض الشارع الحيوى.
لا حديث يعلو على حديث الثورة، البعض يسترجع مشاهد أحداث مجلس الوزراء، وبعضهم ينظر الى عمليات ترميم المجمع العلمى فى الجوار، وآخرون يدفعهم المشهد ناحية جدار شارع محمد محمود، ليشاهدوا رسوم الجرافيتى التى لا تزال مستقرة باستقراره.
شيوخ وأطفال ونساء من كل الأطياف والأعمار، ورجال مكتملو الأناقة، وشباب، الكل فضل اختصار المسافة التى ظلوا يقطعونها منذ إغلاق الشارع، وصولا إلى التحرير، «من ساعة ما قفلوا الشارع واحنا بنلف فى جاردن سيتى وعلى الكورنيش عشان نوصل لمحطة مترو ولا ميكروباص نروح بيه»، بتعب وإنهاك قالتها أم كريم التى عبرت صخرة الجدار بصعوبة، ممسكة بيد زوجها المسن، «احنا بنيجى مستشفى قصر العينى كل يومين وكنا بنقف نبص على السور من بعيد وندعى ربنا يشيله من طريقنا عشان مش قادرين نمشى»، ويقاطعها زوجها المريض «ربنا يهون علينا».
مشاهدات الدكتور محمد عند الجدار أثارت فضوله، «الناس دى كلها كانت مستنية الجدار يتهد عشان تعدى»، اقترب من عمال شركة المقاولات الخاصة التى تتولى ترميم المجمع العلمى، الجالسين على أنقاض الجدار، سألهم «انتوا شفتوا الجدار بيتهد»، وأجابوه «احنا جينا الصبح لقيناه مهدود، ولقينا الناس بتعدى بعد ما كانش حد بيقرب من هنا خالص».
فى ناحية الشمالية من الجدار باتجاه شارع قصر العينى، سقطت الاسلاك الشائكة، ووقف جنود الأمن المركزى خلفها يمنعون السيارات من العبور، فتحولت المنطقة الواقعة بين المبنى الإدارى لمجلس الوزراء حتى آخر مبنى مجلس الشورى، إلى جراج سيارات.
فى الاتجاه الآخر من الجدار وعلى بعد أمتار قليلة يظهر ميدان التحرير، وكأنه بصينيته الشهيرة والشوارع المتفرعة منه، جزءا من بلد آخر، تغيب فيه الشرطة تماما، بينما يتطوع مواطنون لتسيير حركة المرور.
حالة من الارتباك والفوضى تظهر فى المنطقة بأكملها بدءا من شارع قصر العينى، حتى ميدان عبدالمنعم رياض، لا يجد لها الدكتور محمد أو غيره من مرتادى الميدان بمصالحه الحكومية وشوارعه الرئيسية، مبررا منطقيا، يتساءل محمد «هو فيه كردون بيستمر سنين، ولا فى ناس تقدر تعيش وسط حصار مستفز؟».
بعد ساعة تقريبا يغادر محمد المكان، فيختفى بين سيول البشر التى عبرت الجدار المهدود، بينما تظهر عبارة على صخرة ملقاة فى أقصى اليمين تقول «الجرافيتى هد الجدار والبندقية بترتعش».