(1) بعد عشرة أيام من التفاوض، لم يصل الطرفان إلى اتفاق ليبقى الحال على ما هو عليه، وقبل عودته إلى مصر من باريس، قال سعد «أعود إلى مصر بغير نجاح، ولكن الحبوط ليس عيبا، وإنما العيب هو إفساد حقوق البلاد، أعود إلى القاهرة بعد أن صنت كرامة الوطن، وقد عزمت على إتمام الكفاح الذى ابتدأناه، وإذا لم يتح لنا أن نصل إلى الغاية من عملنا، فإن أولادنا سيواصلون هذا العمل».
حمل سعد قضية بلاده على كاهله، وانتوى ألا يفرط فى حق من حقوقها، ليس تعنتا ولا إفراطا، وإنما استنادا إلى ظهير يدعمه كلما تمكن منه الوهن واستبد به القنوط، إنه الشعب أو «الجماعة الوطنية المصرية» بتعبير الأستاذ طارق البشرى، هو من حدد شكل الصراع مع المحتل.
يلاحظ الأستاذ البشرى أن احتلال إنجلترا لمصر كان مغايرا لكثير مما احتلته من بلدان ضمن امبراطوريتها التى لا تغيب عنها الشمس، فحين وصل الإنجليز فى سبتمبر 1882، كانت مصر دولة حقيقية، بها حكومة ووزارات وبرلمان وجيش نظامى وشرطة وقضاء، والأهم، شعب على درجة عالية من النضج والتوحد مكنته من إبداع واحدة من ألمع ثورات القرن التاسع عشر (ثورة عرابى)، التى رفعت شعارها الحاسم «مصر للمصريين»، وبرغم هزيمة الثورة، بقيت المؤسسات، بقيت هياكل الحكم وأجهزته، بعبارة واحدة، فشلت الثورة ولم تسقط الدولة، ما أنقذ البلاد من الوقوع فى براثن الفوضى، ومكنها من أن تثور مرة ثانية وثالثة.. ورابعة.
(2) سبقت مفاوضات سعد ماكدونالد، مفاوضات سعد ملنر (1920)، وقتها كان سعد زعيما شعبيا فحسب، وليس رئيسا للحكومة لأول وآخر مرة كما كان الحال فى مفاوضاته مع رئيس الوزراء الإنجليزى ماكدونالد، والملاحظة اللافتة، أن سعدا بقى فى الحالتين على حاله، يقول ملنر لسعد: «إننا الآن فى مصر حائزون على كل شىء، وفى قبضتنا كل شىء ونريد أن نتخلى لكم عما فى أيدينا فى نظير أن تقبلوا أن يكون مركزنا الفعلى عندكم مركزا شرعيا».. فيرد سعد: «إننا لا نستطيع مطلقا أن نوافق على تصحيح مركزكم فى مصر، فيصبح المركز الفعلى مركزا شرعيا، لأن هذا يناقض الاستقلال على خط مستقيم، ولا نقبل أن يكون لبريطانيا علينا مراقبة مستندة إلى قوة عسكرية فى بلادنا».
كان ملنر يريد إشرافا «ونفوذا» على جهاز الدولة، وكان سعد يدرك أنه يمثل الأمة فى صيغتها الجامعة، لا الحزب وتشكيلاته، ولذا، فقد كان حريصا أن تبقى المفاوضات ضمن صيغة سياسية محددة «الاستقلال والديمقراطية وهما عنوانان عريضان جمعا شتات الأمة وحفظا نضالها من التشرذم، وكسبا لسعد تأييدا واسعا حين بدا أنه يتشدد ويستبد، وقد وصف سعد زميله عدلى يكن الذى كان أميل للمساومة والقبول بالحلول الوسط فى مواجهة المستعمرين ب«زعيم المعتدلين»، وقال عنه: «هو عملى واقعى، يرى الممكن فيسعى إليه والصعب فيعزف عنه، لا يفهم المثل العليا ولا يعرف التضحية كيف تكون؟».
لم يرفض سعد ما طرحه ملنر من تحالف بين بريطانيا ومصر مقابل إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال، لكنه أصر على رفض الحلف الدائم لأنه «لا شىء أبدى فى هذه الدنيا»، ورفض تماما وجود قاعدة عسكرية للإنجليز فى القناة «آسف.. لا يمكننا مطلقا الموافقة على ذلك، لأن الجلاء مطلب أساسى من مطالبنا»، وفى العلاقات الخارجية رفض سعد وعدلى أيضا أن يمثل مصر فى الخارج ممثلين أجانب، وأصروا على حق التمثيل السياسى لمصر فى دول العالم، ورفضوا أيضا أن يكون لممثل بريطانيا فى مصر وضع مميز عن غيره من ممثلى الدول «باعتبار أن ذلك من مظاهر الحماية» ورفض وجود موظفين كبار فى أجهزة الدولة لأن «مصر لا يمكن أن توافق على ذلك لأنه احتلال مدنى شامل»، ورد بأن مصر قد تحتاج إلى خبرة الأجانب ولكنها لا تحتاج إلى حكم الأجانب، وأشار إلى تجربة محمد على «الذى أدار مصر بمهارة رغم أميته، واستفاد من خبرة الأجانب دون أن يستمدوا سلطة لهم إلا منه شخصيا».
لكن ذلك لم يمنع من التوصل إلى حلول وسط ترضى الطرفين فيما يتصل بالامتيازات الأجنبية بعد صدور تصريح 28 فبراير، ولم يكن الوفد يمانع فى منح الموظفين الإنجليز تعويضات سخية فى مقابل تقليص وجودهم فى دواوين الحكومة وإدارات الدولة.
وفى مسألة السودان، استدعى سعد خبراته القانونية ومهارته كمحام ذائع الصيت، وميز بوضوح بين وضع الإنجليز فى السودان ووضع مصر فيها، ودلل على ذلك بتعمير مصر للسودان وبناء المرافق والطرق فيها «لا لمغنم بل للقيام بواجب وطنى علينا، إذ لا فرق بين مصر والسودان، على عكس العمران المصطنع الذى يدعيه الإنجليز لأنفسهم هناك، فهو استغلال محض، لأن الشركات الإنجليزية الاستعمارية فى تلك البلاد تنزع الأراضى من يد الأهالى لتحل محلهم».
كان الوطنيون المصريون فى ذلك الوقت وعلى رأسهم سعد ورفاقه يرون مصر والسودان بلدا واحدا، وأن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، ليست استعمارا أو استقلالا إنما هى أمر مما يعبر عنه فى المصطلح الحديث كما يقول المؤلف بوحدة التراب الوطنى، السودان ألزم لمصر فى الإسكندرية، وإن كان يعيب على الوفد عدم تضمينه استقلال السودان ضمن مطالباته باستقلال مصر، وإن كان سعد يرى أن خروج الإنجليز من السودان هو الضمانة لأمن مصر، فيما رأى آخرون ومنهم عدلى يكن الاكتفاء باتفاقية تعترف فيها بريطانيا بحق مصر وحدها فى السيطرة على مياه النيل وأخذ احتياجاتها منها».
(3) بعد أحداث عديدة أجلت لقاءهما، التقى سعد زغلول ورئيس وزراء بريطانيا رامزى ماكدونالد فى سبتمبر 1924، ومنذ البداية، لام ماكدونالد سعدا على كلام قاله فى البرلمان عن السودان فرد سعد بأنها تعكس طلب مصر الدائم باستقلال السودان؟، ويلاحظ البشرى من مطالعته لمحاضر تلك الجلسات، ان سعدا لم يكن مستعدا فى مباحثاته للمسألة السودانية، وفى الجلسة التالية كان سعد أكثر استعدادا لها، وبدأ من مصر تأكيدا على ترابط المسألتين وإن رأى المؤلف فى ذلك «شاهدا» من شواهد غموض الفكر السياسى المصرى وتضاربه بشأن المسألة السودانية». وحين انتقلت المفاوضات إلى مصر، بدت مواقف سعد أكثر وضوحا وصرامة، سأله ماكدونالد عما يراه فى الموقف العسكرى، فأجاب: إن للبريطانيين جيشا فى مصر وأنه يريد انسحابهم، وألا تمارس الحكومة البريطانية أى نوع من الرقابة على الحكومة المصرية، وأن المستشارين المالى والقضائى شأنهما كشأن الجيش يجب سحبهما، وأن يكون ممثل بريطانيا كغيره من الدبلوماسيين، وأن تتنازل بريطانيا عن دعواها حماية الأجانب والأقليات وقناة السويس، وعند النقطة الأخيرة سأله ماكدونالد: هل تقصد ألا تتدخل بريطانيا فى حماية القناة، فأجاب سعد: إطلاقا، فعلق ماكدونالد بأنه يأسف لسماع ذلك، فرد سعد أنه أيضا يأسف: «أليست القناة أيضا فى مصر؟!». وكانت القناة، هى الصخرة التى تكسرت عندها المفاوضات. وجهتا نظر بالنسبة للباحثين البريطانيين، فإن مباحثات سعد ماكدونالد لم تكن سوى مهزلة، هذا ما رآه اللورد لويد، وبرأى المارشال ويفل فقد انتهت بالفشل الكامل، فقد كان موقف سعد متشددا غير قابل للمصالحة، وأن سعدا ليس سوى مضلل ضيق الأفق وشكاك وليس لديه موهبة للتفاوض، وأنه بتشدده فرط فى حقوق بلاده.
أما الباحثون المصريون، فلم يلق أحدهم باللائمة على سعد زغلول فى فشل المفاوضات، فالرافعى، وهو من قيادات الحزب الوطنى المعادى للوفد، اعتبر أن موقف سعد كان سليما «صحح به موقفه مع ملنر فى سنة 1920»، واعتبره عبدالعظيم رمضان تعبيرا عن نضج سياسى، فيما رأى يونان لبيب رزق أن سياسة بناء الجسور بين الطرفين كان مقضيا عليها بالفشل ما دام الإنجليز يصرون على وجودهم بمصر، ويصر المصريون على استقلالهم الوطنى الحقيقى، ويبدى عبدالخالق لاشين وهو صاحب أعنف هجوم على سعد فى رسالته للماجستير إعجابه بصلابة سعد وقوة حجته.
الكتاب: سعد زغلول يفاوض الاستعمار الناشر: دار الشروق 2012 المؤلف: طارق البشرى