كان عبدالرحمن فهمى شخصية قوية ومحيرة، وكانت حياته نضالاً متواصلاً ضد الاحتلال البريطانى لمصر، منذ أن حارب فى السودان أواخر القرن ال19، حيث كون صداقات مع ثواره وزارهم «متخفياً» سنة 1918، فى خطة للمقاومة المسلحة سنة 19 ضد أقوى دولة فى العالم وضد كل من هو ليس مع استقلال مصر التام حتى قبضت عليه دون دليل ضده، فقامت «بفبركة» قضية ضده واعتقلته 4 سنوات، وأثناء سجنه ظل يناضل بشكل آخر، ويسأل المستعمر نفسه فى شك وحيرة: هل يكون سكرتير عام اللجنة المركزية للوفد المسافر لباريس هو ذاته قائد ومحرك هذه المقاومة المسلحة ضده لسنوات؟ أدى عبدالرحمن المتضادين بكفاءة عالية وحرفية، وهو ما تطلب منه أن يخفى نفسه عن نفسه! فأصبح لغزاً أيضاً بالنسبة للمؤرخين والمحللين ومن كانوا قريبين منه «سواء أولاده أو ابن أخيه أحمد ماهر» واحتاروا فيه، فهناك من رأى فيه أحد قادة ثورة 1919، وهناك من رأوا فيه قائداً للجهاز السرى للثورة، ومهما يكن من أمر، فقد كان عبدالرحمن فهمى «موتور ومحرك الثورة»، وقد فعل الكثير لمنع انشقاق الوفد واختلافه مع سعد زغلول. لم يغلب فهمى عواطفه الشخصية على انحيازاته الوطنية، إنما أضفى الاحترام على ما كتبه، وتحظى مذكراته بما تستحق من مصداقية، وفق ما ذكر الدكتور يونان رزق فى الجزء الثالث من المذكرات المنشورة، ويذكر أن الدكتور يونان قد حقق هو ومساعدوه مذكرات عبدالرحمن فهمى، وتأكدوا من صدقها وحقيقة ما ذكره عبدالرحمن فيها فى 4 آلاف وستمائة وأربعين صفحة، نشرتها الهيئة العامة لدار الكتب، بدءا من سنة 1996، وأنه منظم ثورى من الدرجة الأولى.. كما كان هو الشخصية المسيطرة فى اللجنة المركزية.. وزعيم مقاطعة «لجنة ملنر». لقد راجع العالم الكبير الراحل مذكرات عبدالرحمن فهمى وأوراقه فى منزل نجله الوزير المهندس مراد رحمهما الله، وحتى يستمر النضال السرى وحفظاً لأرواح رجاله، كان يتعين على فهمى الاختفاء عن أعين السلطة المحتلة، فظلم نفسه بنفسه «وظلم معاونيه» مضطراً، وظلمه سعد زغلول - الذى يعرف قدر تضحياته وجهاده من أجل مصر - والوفد المسافر عندما لم يرشحه لخوض الانتخابات البرلمانية عن الوفد «والذى أصبح حزباً»، بحجة أنه لم يزره، فعدم الترشيح مكافأة عبدالرحمن على تضحياته ونضاله، فغضب عبدالرحمن قائلاً له: «أين تضحياتى التى لا يعرفها سواك»، فرد: «احتكم للأمة»، وهل جميع من فى الأمة يعرفون تضحيات عبدالرحمن؟، قال عبدالرحمن: «سأحتكم للتاريخ». جهود عبدالرحمن ضخمة جداً ومتنوعة، ومن أهمها «المحافظة على وحدة المصريين وضرورة التفافهم حول الوفد المسافر» فمثلا أقنع زائريه أن التلغراف اليائس «الأبواب مغلقة» الذى بيدهم ليس من زغلول، كما عمل ورجاله على مقاطعة لجنة «ملنر» حتى يلجأ لوفد مصر، ونجح وحارب كل من له رأى يخالف الاستقلال التام، وهو هدف المصريين ووفدهم. نجح عبدالرحمن فى تحقيق أكبر قدر من المكاسب التى جناها فيما بعد على طبق من ذهب سعد زغلول. نجح عبدالرحمن فهمى ورجاله تماماً فى مقاومتهم السرية المسلحة، تلك الشوكة فى حلق المستعمر، ودليل نجاحهم ارسال بريطانيا لجنة من أعلى قياداتها برئاسة اللورد «ملنر» للتحقيق فيما يحدث فى مصر ومعرفة أسبابه ومحاولة إيقاف المقاومة وكسر الشوكة، فأفشل عبدالرحمن ومعاونوه - باعتراف ملنر - مهمة هذه اللجنة بمنع التعامل معها، فكل عضو فى اللجنة وضع تحت رجال عبدالرحمن «وهم طلبة»، وتم التعامل بشدة مع كل مصرى يحاول التقرب له، فالكلام ينبغى أن يكون مع وفد مصر، أى أن الأبواب أغلقت فى وجه اللجنة رداً على إقفال الأبواب بباريس، فعادت إلى لندن دون أن تحقق أهدافها، ثم جلس «ملنر» بعد ذلك مع وفد من مصر - أى أن عبدالرحمن ومساعديه حققوا للمصريين ووفدهم الهدف الأول وهو الجلوس مع الوفد والسؤال هل بعد أن حصل الوفد المصرى من المقاومة المسلحة على ما يريد تظل له حاجة ماسة إلى تلك المقاومة وهذا العنف فى وقت المباحثات التى تتطلب الهدوء؟ وعبدالرحمن فهمى لا يريد لمصر إلا الاستقلال التام غير المشروط ولا يرضى بغيره (وفقا لما أخبر به مكسويل، عضو لجنة ملنر) - فى حين أن غيره قبل بغير ذلك - ولكى يعتقد «ملنر» أن سعد لا يهمه التخلص من عبدالرحمن، لابد أن تكون لديه أدلة وليس مجرد تخمينات لأن ملنر رجل ذو حيثية وله مكانة مرموقة فى القوة العظمى الوحيدة، ومن المستبعد أن يقول كلاما دون دراسة، فهل تناقش مع سعد والذى وصل لندن فى 5 يونيو 1920، قبل اعتقال عبدالرحمن فهمى بثلاثة أسابيع، وظل بها حتى منتصف أغسطس 1920 تقريباً وسافر إلى فيشى للاستشفاء؟ ولما اعتقل عبدالرحمن فهمى أول يوليو 1920، لم ينكشف أمره أمام المستعمر ومع ذلك اعتقله لكى يقطع شكه فيه باليقين، فقام عبدالرحمن فهمى بإجراء مضاد وسريع لدرء الشك عنه، فكثف، وهو سجين، نشاطه السرى وزادت الزيارات له حتى ضج حكمدار بوليس القاهرة ووجه فى 10 يوليو 1922، كتابا للأمن العام يعترف فيه بعدم قدرته على حفظ الأمن بسبب عبدالرحمن فهمى! كما لم يسفر تفتيش منزل عبدالرحمن فهمى بفيلا 104 شارع قصر العينى، الذى يشغله نادى الأدباء، عن وجود دلائل تدينه، فإن ذلك شكل لطمة للمستعمر لعدم كشفه والقبض عليه دون دليل واحد، ثم تلفيق تهمة قلب نظام الحكم ومحاكمته عسكريا وليس مدنياً، والحكم عليه بالإعدام وهو فى كل هذا واقف صلباً أمامها. أ. د شاهيناز طلعت أستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة