فى أبريل 1927 قبل وفاة سعد زغلول بأربعة أشهر صدرت فى القاهرة الترجمة العربية لكتاب الروسى تيودور روذستين «خراب مصر»، الذى قدم له ولفريد بلنت الذى ساند الحركة الوطنية المصرية من أيام الثورة العرابية حتى رحيله، وقد حملت الترجمة عنوانا مختلفا يعبر عن محتوى الكتاب، «تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطانى وبعده»، والكتاب يتناول تاريخ مصر والمسألة المصرية منذ عصر الخديو إسماعيل، ويكشف بالوثائق المؤامرات الأوروبية على مصر، كما يقدم وجهة نظر مغايرة فى قضية الديون المصرية. ومؤلف الكتاب فر من روسيا القيصرية وعاش بإنجلترا لسنوات، ثم التقى مصطفى كامل فجاء به إلى القاهرة لتحرير جريدة «ذى إيجيبشيان ستاندر»، وبعد الثورة البلشفية عاد إلى روسيا وعمل سكرتيرا خاصا للينين، ثم وزيرا مفوضا لبلاده فى إيران. وقد ألف روذستين كتابه بالإنجليزية سنة 1910، ونشرت مقتطفات منه بجريدة اللواء. أما المترجم على أحمد شكرى فشاب ارتبط بالحزب الوطنى، وتعرف على المؤلف عن طريق الزعيم محمد فريد سنة 1911، وقام بترجمة الكتاب وكذلك مذكرات بلنت، وكتابه «التاريخ السرى للاحتلال البريطانى لمصر»، وعندما حاول طبع ترجماته فى مصر سنة 1917 منعت السلطات العسكرية البريطانية نشرها. وخلال المرحلة القلقة بين ثورة مارس 1919 وصدور دستور 1923 وما تخللها من ملاحقات للوطنيين المصريين قام على أحمد شكرى بإحراق الكتب والترجمات، ثم عاد مرة أخرى بعد أن استقرت الأمور فترجم كتاب خراب مصر ونشره سنة 1927. لكن ما حكاية الحوار الذى أجراه المترجم مع سعد زغلول؟ لقد قدم على شكرى للترجمة بمقدمة طويلة تحدث فيها عن تطور الحركة الوطنية بعد تأليف روذستين لكتابه، وفى هذا السياق ضمن المقدمة حوار أجراه مع الزعيم سعد زغلول فى أواخر أكتوبر 1920 فى فندق سافوى بلندن، عندما ذهب سعد وأعضاء الوفد للتفاوض مع الحكومة البريطانية، وقد اعتمد على شكرى على صداقة والده لسعد فى إجراء الحوار، الذى تبدو فيه جرأته على الزعيم، ويكشف الحوار عن موقف سعد الجذرى قياسا بمواقف زملائه فى الوفد، فى المفاوضات حول مشروع ملنر، الذى رفضته الأمة وانقسمت حوله القيادة السياسية، وكان مدخل الحديث تصريح سعد لبعض الطلبة المصريين فى لندن بأن مشروع ملنر «حماية بالخط الثلث»، واستمر الحديث وفقا لعلى شكرى أربع ساعات، لكنه لم ينشر منه على ما يبدو بعد سبع سنوات من إجرائه سوى جزء صغير لكنه دال ومعبر. يقول على شكرى: «لما كنا قد سمعنا بأن بعض الصحف المصرية كذبت رأى دولته فى المشروع كان من الطبيعى أن نفتح الحديث باستجلاء رأى دولته، فصرح لنا أنه أخبرهم حقا بأن مشروع لورد ملنر هو حماية بالخط الثلث، ولكنه إنما قال ذلك لهم فى حديث خصوصى لا لينشروه وفى جريدة الأهالى بصفة خاصة. ثم أخذ دولته يقص علينا من أنباء الوفد وكيفية تشكيله وما حدث بعد ذلك من الحوادث إلى حين سفره من مالطة إلى باريس. وقد تطرق الحديث إلى ذكر المفاوضات فدار بيننا حوار كالآتى: كيف وافقتم معاليكم على الحضور إلى لندن مع عدم علمكم بالأساس الذى تدور عليه المفاوضات؟ لقد أكدوا لى أن أساسها الاستقلال التام لمصر والسودان. من هم الذين أكدوا لك ذلك؟ مندوبو الوفد الذين أرسلناهم إلى إنجلترا لجس النبض. إذن لم يصل إلى معاليكم شىء رسمى لا من اللورد ملنر ولا من أحد من أعضاء لجنته؟ كلا. سبق أن شغلتم معاليكم منصب القضاء الأعلى فى مصر فلم يكن يطاوعكم ضميركم على الحكم فى أمر من الأمور إلا بعد الاطلاع على المستندات والوثائق الخاصة به. وأنتم قد عركتم الدهر وتعرفون من ماضى لورد ملنر ما قد لا نعرفه نحن معشر الشبان، فكيف استجزتم لأنفسكم الإقدام على أمر خطير كنقل مركز القضية المصرية من باريس إلى لندن ولم يصلكم مستند رسمى من لجنة اللورد ملنر عن الأساس، الذى تدور عليه المفاوضات.. ألا ترون معاليكم أن حضوركم إلى لندن كان غلطة سياسية كبرى؟ لا أكتمك الحقيقة يا ولدى فلقد خدعنى زملائى وغرروا بى. إن الأمة المصرية إنما وضعت ثقتها فى معاليكم فهى لا تعرف شيئا عن هؤلاء الزملاء، فلماذا لم تنبذوا استشارتهم وقد رأيتم خطأها؟ لقد خفت من تفرق الكلمة. إن أغلبية أعضاء الوفد استحسنوا الذهاب إلى لندن فرأيت أن أنزل على رأيهم تفاديا من الظهور بمظهر المتعنت الخارج عن الأغلبية. ولكن نسيتم معاليكم أن الأمة وكلتكم فى السعى لاستقلال مصر والسودان، أفلم يكن يجدر بكم استشارة البلاد قبل الإقدام على أمر خطير كهذا خاصة أنكم لم تكونوا من رأى أغلبية الوفد؟ هذا ما حدث على كل حال، وقد رأوا أن لا بأس من استطلاع رأى القوم هنا وقد حضرنا لهذه الغاية. إذن فماذا كان رأيكم فى مشروع اللورد ملنر من بدء الأمر؟ كان رأيى أنه حماية بالخط الثلث، وإن كان يشتمل على بعض المزايا. لماذا لم تصارحوا الأمة بهذا حتى كانت تستنير برأيكم وأنت زعيمها الذى تسترشد برأيه عند الخطوب؟ إن المشروع كما أخبرتك يشتمل على بعض مزايا، فخوفا من أن يلومنى الشعب المصرى لأننى حرمته من هذه المزايا استصوبت عرض الأمر عليه. هذا كان يكون حسنا لو أن الذين انتدبتهم معاليكم لعرض المشروع على الشعب اكتفوا بعرضه دون أن يظهروا تحيزهم له فما بالك وهم لم يتركوا وسيلة إلا التجأوا إليها لحمل الأمة على قبول المشروع كما هو؟ لقد كلفتهم بالوقوف على الحياد التام عند عرض المشروع على الأمة. ألم يخبروك كيف استقبلته الأمة؟ لقد أفهمونى أن الأمة راضية عنه كل الرضى. هذا غير الواقع يا معالى الباشا. ألم يبلغوك ما كتبه الأستاذ عبدالحميد بك أبوهيف فى نقد المشروع؟ كلا، بل كل ما قالوه لى: إن الأمة أبدت بعض رغبات فى صدد المشروع، وإنهم هم الذين أوعزوا إليها بتقديم تلك الرغبات! ولكن يا باشا هذا أيضا غير صحيح، فلقد طلب فريق من الأمة التحفظات وتشدد فى قبولها، ونادى الفريق الآخر بسقوط المشروع بتاتا. فهلا كان من المستحسن ومعاليكم مقتنعون بأن المشروع حماية بالخط الثلث أن تصارحوا الأمة بهذا الرأى، فإن أصغت لمشورتكم قطعتم المفاوضات وعدتم إلى حظيرة الوطن مرفوع الرأس، وإن أبت إلا التطوح وراء المشروع استقلتم من رئاسة الوفد وأشرتم على الأمة بانتخاب رئيس بدلكم يسعى للحصول لها على استقلال زائف؟ إذ ليس يخفى على معاليكم أن الأمة وكلتكم فى السعى للحصول على الاستقلال فإن لم توفقوا فى مهمتكم فردوا الأمر لها وليس فى ذلك غضاضة عليكم. لأن الزعيم هو الذى يقود مواطنيه إلى طلب الكمال فإن ساروا خلفه طائعين فبها ونعمت وإن أصروا على الرضى بالقشور دون اللباب فليترك لهم زعامتهم وليعلم أنهم لم ينضجوا بعد النضوج الكافى. إننى معول على قطع المفاوضات إذا لم يصغ القوم إلى مطالبنا. وهنا تشعب الحديث فتناول عدة مسائل أخرى لا يتسع لها هذا المقام. ثم لم تمض على هذا الحديث بضعة أيام حتى ذهبنا مرة أخرى لزيارة سعد باشا فأخبرنا بأنه يعد معدات السفر بعد أن رأى من تعنت القوم وتصلبهم ما يذهب بصبر الحليم.