لست أشك فى حسن نية الذين دعوا إلى إصدار ميثاق شرف للصحافة العربية، لكننى أشك كثيرا فى أن يسهم الميثاق فى الدفاع أو الحفاظ على شرف المهنة. صحيح أننا لا ننكر أن ثمة انفلاتا وهبوطا فى مستوى الحوار الصحفى. وأن النموذج الذى تقدمه الصحافة المصرية فى هذا الصدد يبعث على الخزى والحزن، من حيث إنها فى تعاملها مع المخالفين لا ترعى فيهم إلًّا ولا ذمة، إلا أن هذه مشكلة لا يحلها ميثاق الشرف الصحفى. الأمر الذى يسوغ لى أن أقول إننا نتفق على وجود المشكلة لكننا نختلف فى حلها. فكرة الميثاق طرحت فى الاجتماع الأخير للأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، وكانت صدى لتنامى ظاهرة التجاوز والتدهور الذى أصاب لغة الخطاب الإعلامى، خصوصا فى ظل الانقسام العربى الراهن. إذ دأبت بعض الأبواق على تجريح الطرف الآخر على نحو ذهب أبعد من نقد السياسات وتسفيهها، وبلغت حد النيل من الأشخاص والخوض فى أوضاعهم وعلاقاتهم العائلية. وبذلك أصبحنا بصدد صحافة هابطة لا يقتصر أثرها على إفساد الذوق العام وتشويه المدارك، وإنما ذهبت إلى حد إفساد العلاقات بين المجتمعات والدول العربية الشقيقة. عند تحليل الظاهرة نجد أن الإعلام بتأثيره الكبير وانتشاره الواسع أصبح إحدى الأدوات الرئيسية التى تعتمد عليها الأنظمة السياسية، سواء فى تحسين صورتها أو تصفية حساباتها. ولم يعد سرا أن جميع وسائل الإعلام «القومية» فى مصر مثلا تخضع للتوجيه السياسى والأمنى، سواء كانت صحفا أو قنوات تليفزيوينة أو محطات إذاعية. وهذا التوجيه والاختراق الأمنيان حاصلان بدرجات متفاوتة فى الأغلبية الساحقة من القنوات التليفزيونية والصحف الأخرى التى توصف بأنها خاصة ومستقلة. لذلك فليس من قبيل المصادفة أن تتبنى تلك المنابر موقعا واحدا وتكاد تقول كلاما واحدا فيما خص العديد من القضايا الكبيرة المثارة مثل «خلية» حزب الله والعلاقة مع إيران وحماس، والعلاقة مع الإخوان، والموقف من سوريا وقطر.. الخ. كذلك لم يعد سرا أن فرص التقدم والترقى فى الصحافة القومية المصرية باتت مفتوحة على مصارعها للصحفيين الأكثر ذوبانا فى السياسات المتبعة والأكثر «تجاوبا» مع التوجهات الأمنية. وحين ساد هذا الانطباع وذاع أمره فى المحيط الصحفى فإنه دفع أعدادا غير قليلة من الصحفيين إلى التنافس فى إثبات الالتزام والولاء والتجاوب مع السياسات والتوجهات الصادرة من الجهات العليا، بعدما أصبح كل واحد منهم مقتنعا بأن دوره فى «المكافأة» قادم يوما ما. وقد رأوا بأعينهم أن تلك المكافآت والجوائز توزع على زملائهم كل حين، خصوصا فى مواسم تغيير القيادات الصحفية. إذا صح ذلك التحليل وأحسب أنه صحيح فهو يعنى أن المعارك التى تخوضها الصحف ضد الأشقاء، والأسلحة الفاسدة والكتابات الهابطة التى تستخدم فيها هى بالأساس معارك سياسية وليست صحفية، الأمر الذى يعنى أن الصحافة فى هذه الحالة مجرد وكيل وليست طرفا أصيلا، ومخاطبتها فى هذه الحالة، من خلال ميثاق الشرف الصحفى، تغدو توجها نحو العنوان الغلط. الأمر الذى يعنى أن السعى لإصدار ذلك الميثاق هو من قبيل إبراء الذمة وسد الخانة ليس أكثر. إن المشكلة الحقيقية تكمن فى هيمنة السياسة على الصحافة. الأمر الذى يستدعى بقوة ملف الحريات العامة، التى يشكل إطلاقها المدخل الحقيقى لعلاج أزمة الصحافة، صحيح أن لدينا مشكلة أخرى تتعلق بضعف وتراجع كوادر المهنة، التى أصبحت فى بعض الأحيان مهنة من لا مهنة له. إلا أن هذه تأتى فى مرتبة تالية من الأهمية، علما بأن رفع يد السياسة عن الصحافة كفيل بتصحيح القصور فى أوضاعها المهنية بمضى الوقت. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الصحافة ظالمة حقا لكنها مظلومة أيضا.