إبتسمي يا مصر، فقد إسترد أبنائك الاحرار أراضي هذا الوطن الطاهر من أياد لم تكن يوماً تستحقها – إذ ان الوطن ملك لشعبه و ليس ملك لأشخاص! بدأت مسيرة الإصلاح بإسقاط حكمٍ فاسدٍ وإثبات فشله في إسكات نداء الشعب بحقه في حياة كريمة، ولم تكن الايام الجليلة الماضية سوى خطوة أولى لتشكيل نظام جديد للكيان السياسي القومي . ويعد الإنتقال من ثورة ضد طغاه إلى ثورة ضد الطغيان، و من ثورة ضد فاسدين إلى ثورة ضد الفساد، التحدي الاول الذي سنقابله في الفترة القادمة ، ولذا فإن الإصلاحات المنشودة تهدف في نهاية المطاف إلى تغيير النظام السياسي بأكمله وليس فقط إلى إستبدال أشخاص بعينهم. ولعل من أهم خصائص هذا التغيير المرتقب هو التحول من الحكم الشمولي إلى حكمٍ ديمقراطي تعددي، ليشمل بذلك جميع طوائف المجتمع المصري التي صمدت جنباً إلى جنب حتى نالت حريتها. وبذلك يظهر التحدي التالي، ألا وهو كيفية التعامل مع تنوع هذه الطوائف و اختلافها. فلا يخفى على أحدٍ أن الشعب المناضل، الذي وقف بالأمس بجميع طوائفه وقفة الرجل الواحد أمام الطغيان، سرعان ما ستتضح له بالغد الفوارق الدقيقة في رؤياه للمجتمع المصري الجديد. فهذا ينادي بعلمانية الدولة، و ذاك متمسك بالمادة الثانية من الدستور المصري ، المتعلقة بمرجعية الدولة الإسلامية ، كونها فوق الدساتير. هذه صاحبة ميول يسارية، و تلك ترفض المساس بحقها المتأصل في ملكية خاصة - أضف إلى هذه الأمثلة الكثير والكثير من الإختلافات الفكرية والايدولوجية. وبإقتناع كل منا بمبادئه، يكون رفض هذه التعددية قنبلة موقوتة من شأنها إيقاف بل وتدمير سريان عملية الإصلاح السياسي في مصر. ولذا فمع الحرية المكتسبة مؤخراً، تأتي مسؤلية كبيرة على كل منا للحفاظ عليها. إننا بحاجة إلى ثورة مماثلة في سلوكنا و فكرنا ، تصاحب ثورة الاصلاح الديمقراطي، لكي نتمكن من تهيئة المناخ السياسي المناسب في هذه الحقبة المصيرية. إذاً فما هي أهم خصائص الفكر المنشود، الذي يتجاوز هذه الصراعات و يضمن أن تأتي الثورة ثمارها؟ بشكل مبدئي يعتمد هذا الفكر على الاعتراف بالإختلاف والتنوع - وهذا يسري على التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية. إنه الفكر التعددي الذي يمكننا من إجراء حوار عميق وهادف ، نجد نقاطه عادةً في النظرة إلى مفاهيم تبدو أحياناً مكملةً لبعضها و أحياناً كأنها في صراع دائم : مثل العلاقة بين الإيمان والعقل ، والتقاليد والحداثة ، والحرية والقيم ، والعدالة والمساواة ، فيقودنا إلى تجاوز التعايش المتسامح إلى الإحترام المتبادل لفلسفة الأخر و محاولات ايجاد أرضية مشتركة . بل والاكثر من ذلك، إنه الفكر التعددي الواعي لمكاسب الفرد التي تنتج عن التعامل مع هذا التنوع في وجهات النظر الذي يحيط به .إنها فلسفة تعتمد على التواضع الفكري والنقد الذاتي، و لا تعمل إلا إذا كان الفرد مدرك بصفة دائمة عدم امتلاكه للحقيقة المطلقة. وهي بالتأكيد ليست بالغريبة عن حضارتنا وثقافتنا وادياننا، فقد كان أسلافنا يشبهون الباحث عن الحق بمن ضاعت ناقته في الصحراء ، فهو يريد الناقة ولا فرق عنده: هل هو الذي سيجدها أم سيجدها آخر له؟ وبما أن الاختلاف الفكري حتمي، فإن تطبيق هذا المبدأ على المجتمع ككل يأتي متناغماً ومتناسقاً مع سنة الله في الحياة ويعبر عن نظام اجتماعي يكفل التكامل بين عناصر الأمة ، فهو خير ضمان لتحقيق العدالة و رفع الظلم، إضافةً إلى عدم الاستبداد في الرأي الذي طالما عانينا منه. و يكون إقرار التعددية في الدولة متمثلاً في فسح المجال لبروز تجمعات وأحزاب ونقابات واتحادات، تعبر كل منها عن فكر معين أو تيار سياسي مختلف في إطار الدستور وسيادة القانون . فدعونا نتخطى ثقافة الحوار التي تقف عند حد إحترام وجهات النظر ، ولننمي بداخلنا ثقافة حوار تقتنع بإثراء وجهات النظر المختلفة لبعضها البعض. بوسعنا ان نجعل اختلافاتنا هذه عاملاً لتفجير الطاقات وتزايد العطاء ، فلنساهم في نشر هذا الفكر لتهيئة المناخ السياسي المناسب في الفترة الحاسمة المقبلة. لقد كانت هذه الثورة خير نداء للحرية وما يستلزمها من تعددية فكرية، فلنتطلع سوياً إلى حوار وطني بناء تشارك فيه جميع أطياف مجتمعنا المختلفة!